بانوراما 2022 ... «ماذا قلنا... ومتى»

بانوراما 2022 ... «ماذا قلنا... ومتى»

مع مطلع عام 2023 تكون قد مرّت قرابة اثنتي عشرة سنة منذ انفجرت الأزمة في سورية، والتي كانت قد تراكمت عوامل انفجارها عبر عقودٍ قبل ذلك التاريخ.

و12 سنة ليست بالأمر القليل؛ إذ يُمكن للأفراد وللجماعات حتى أنْ تنسى أو تهمل أجزاء بحالها من تلك الفترة؛ ونقصد على وجه الخصوص المواقف السياسية التي اتخذتها أطراف الأزمة الداخلية والخارجية طوال هذه السنوات.
ولسنا هنا في وارد استعراض كل هذه المواقف (وضمناً التقلبات والبهلوانيات التي دائماً ما عبّرت عن نفاقٍ عميق لعدد غير قليل من القوى، بين ما تعلنه من حرصها على الحل وعلى حياة السوريين، وبين معاداتها لهما في حقيقة الأمر). ولكن من الضروري على الأقل أنْ نستذكر من الأمور التي ما تزال حاضرةً بقوة حتى اللحظة، ومؤثرةً بالتالي على المسار اللاحق. خاصةً وأنّ صوت السوريين إذا كان مغيباً ومقموعاً اليوم، وتأثيره المباشر في مصير سورية منخفض، فإنه لن يكون كذلك متى بدأ الحل السياسي الفعلي... ولذا ينبغي التذكير دائماً بـ: (من قال ماذا ومتى).
ربما من المفيد بداية التذكير بمفهوم الحل السياسي ببعده السوري، كما كررته قاسيون في مواد وتصريحات عديدة وبطرق مختلفة: «إن قبول الحل السياسي، يعني التراجع عن الخيار العسكري، والتراجع عن الخيار العسكري يعني قبول التوافق، والتوافق يعني تقديم تنازلات متبادلة، والتنازلات المتبادلة تتطلب إطاراً متفقاً عليه، والإطار الدولي القانوني للتوافق، هو القرار 2254، وعليه فإن قبول الحل السياسي يعني تنفيذ هذا القرار، كما هو، ودون اجتهادات وتأويلات» (جنيف وجدول الأولويات، 24 شباط 2017).

1103-1

مقاربة الغرب والأمريكان للقرار 2254 والحل السياسي

منذ أن بدأ الكلام عن حل سياسي للأزمة السورية، وبالأخص، منذ أن صدر القرار 2254 قبل سبع سنوات، بدأت تتجلى بشكل أوضح مواقف الدول المعنية بالملف السوري من القرار، وضمناً من الحل السياسي ككل، وكان ذلك من خلال الممارسات الفعلية والتصريحات والكثير من التناقضات. بالتحديد، كان واضحاً منذ البداية، وبالرغم من أن تصريحات الغربيين كانت عكس ذلك، إلى أنّ جهودهم، كانت وما زالت تصب في تعطيل الحل السياسي، وتعطيل تنفيذ القرار 2254.
وعلى مدى ما يقارب السنوات الاثنتي عشرة الماضية، لم يدّخر الغرب- وبالأخص أمريكا- جهداً أو أداةً لتعطيل إحراز أي تقدم باتجاه الحل السياسي في سورية، سواء بشكل مباشر، وبالأخص بشكل غير مباشر، بما في ذلك من خلال «حلفائهم» الإقليميين. أكثر من أبدع في هذا الجانب كان الأمريكي، الذي ذهب إلى أقصى الحدود في استخدام سطوته وأدواته العسكرية والاقتصادية والسياسية، مع دول مثل: تركيا والدول العربية الأساسية للمساعدة بالدفع بسورية إلى الهاوية. ما لم تعوّل واشنطن على تغيّره كما شهدنا خلال السنوات الماضية، كان خروج هذه الدول من تحت العباءة الأمريكية، والغربية بشكل عام، والعمل ضمن أطر خارج الهيمنة الغربية- الأمريكية، وباتت بعض الدول التي كانت تاريخياً حليفة للغرب وأمريكا وخاضعة لتوجيهاتها، تتجه بشكل متسارع إلى استقلالية أكثر في القرار، ومد جسور أكثر مع القوى الصاعدة في عدة ملفات، بما في ذلك الملف السوري. كل هذا أدى إلى تصعيد غربي- أمريكي على عدة جبهات، ومنها: الملف السوري من خلال محاولات تعطيل الحل السياسي، وبالأخص التنفيذ الكامل للقرار 2254.
أتت أستانا كردّ على هذه الجهود الغربية للتعطيل، الأمر الذي غطته قاسيون وبشكل مكثف على الأقل منذ انطلاق مسار أستانا، وفعلياً قبل انطلاقها رسمياً. على سبيل المثال: في مادة بعنوان «العصا (الأستانية) الغليظة...!» (24 كانون الأول 2016)، نظرت قاسيون في الإحداثيات حول عقد مؤتمر أستانا، ومنها إصرار «واشنطن وحلفاؤها على الاستمرار في تعطيل تنفيذ القرار الدولي 2254»، ما يعني أنه «بالمحصلة، أن مؤتمر أستانا، هو عصا غليظة في وجه الغرب، هدفها تنفيذ 2254».
وفي لقاء صحفي أجراه د. قدري جميل في 21 كانون الأول 2016، قال حول لقاء وزراء الخارجية لثلاثي أستانا في المراحل التحضيرية: «إن لقاء وزراء خارجية– روسيا، ايران، تركيا– أظهر للغرب أنه يمكن استبدالهم أو الاستغناء عنهم وتجاوزهم، في حل الأزمة السورية» وأضاف «هؤلاء لاعبون حقيقيون وواقعيين، ولهم تأثير مباشر على الأرض، وإذا اتفق هؤلاء الثلاثة، عندئذ يمكن إزالة أكثر العقبات من طريق الحل، لاسيما وأن الدول الغربية مارست الكثير من النفاق، واتسمت بعدم النزاهة... الحالة المثلى لحل الأزمة السورية تتطلب مشاركة الأطراف كلها ذات العلاقة، لكن إذا كان الغربيون سيستمرون بالإعاقة، يمكن عندئذ السير للأمام دونهم».
وفي لقاءات صحفية أجراها في نهاية شهر كانون الأول 2016 بعد بضعة أيام الرفيق علاء عرفات حول الموضوع نفسه، وبالتحديد حول غياب الأمريكان والأوروبيين عن الاتفاقات التي نتجت عن الاجتماعات الأولية حول وقف إطلاق النار، قال عرفات: «سيصمد الاتفاق تحديداً بسبب غياب الولايات المتحدة والأوربيين عنه، فهؤلاء كانوا وراء إفشال الاتفاقات السابقة، سواء بشكل مباشر من قبلهم، أو من خلال وكلائهم. أنا متفائل، لأن غياب الولايات المتحدة يمنح فرصة أكبر لنجاح الاتفاق [على وقف إطلاق النار]، وما سيليه». وقال أيضاً: «هناك تركيا التي كانت تقف في المعسكر الأمريكي، وقد نقلت عملياً تواجدها فيه، وإن لم نكن نريد القول بأنها قد ذهبت إلى المعسكر الآخر، إلا أنها قد خرجت من المعسكر المسؤول عن توتير الوضع في سورية».
وسلّطت قاسيون الضوء على أهمية مسار أستانا، ليس بأبعاده السورية فحسب، بل وأيضاً بأبعاده الإقليمية والدولية، كوسيلة لتذليل ما قامت به أمريكا والغرب معها لتعطيل الحل السياسي، وأهمية أستانا «كبداية اختراق استراتيجي جاء بالضد من «الفوضى الخلاقة» الأمريكية، بأهدافها ومراميها المعروفة، على امتداد مساحة الإقليم، حيث كانت إحدى أدواتها استمرار حالة الاستنزاف، وإنهاك الجميع، عبر سياسة ضرب الكل بالكل، وتخريب بنى مجتمعات ودول المنطقة دون استثناء، والاشتغال على القضايا المعلقة والمزمنة، والتناقضات البينية، واختلاق الجديد منها إذا تطلب الأمر» (أستانا والبعد الإقليمي، 21 كانون الثاني 2017). ناهيك عن استخدام أمريكا لـ «داعش» كإحدى أدواتها لعرقلة الجهود الرامية لإنهاء الأزمة السورية («داعش» أداة فاشيي الإدارة الأمريكية، 28 كانون الثاني 2017).
كان لأستانا دورٌ مهمٌ في تقليص نطاق العمليات العسكرية، من خلال اتفاقات خفض التصعيد ووقف إطلاق النار في مناطق مختلفة في سورية، من منطلق أن الحل السياسي بالضرورة يتطلب تراجعاً في العمل العسكري. ويمكن فهم هذا الجانب أكثر من خلال بعض التصريحات واللقاءات الصحفية، ومنها للرفيق علاء عرفات في 23 كانون الثاني 2017، حيث قال في أحد اللقاءات الصحفية: «إن وقف إطلاق النار، وتثبيته هو قضية لا بد منها من أجل بدء عملية سياسية». وأضاف عرفات: «إضعاف العمل المسلح ووقفه الآن، هو أحد أهم العناصر لوقف التدخل الخارجي، لأن أحد أشكال التدخل الخارجي الأساسية هو التمويل والتسليح، وبالتالي في حال توقف القتال، لن يكون هناك حاجة للتمويل والتسليح، وعلى الأقل في هذه النقطة، سيبدأ مستوى التدخل الخارجي بالانخفاض، لذلك، وفضلاً عن مسألة وقف إطلاق النار، فإنْ نظرنا إلى مخرجات «أستانا» من الجانب السياسي، نرى أن واحدة من أهم نتائجها هي بدء انخفاض مستوى التدخل الخارجي».
ويمكن للدور الإيجابي لأستانا فيما يتعلق بالجانب العسكري، أن يفسّر المحاولات الأمريكية في مراحل مختلفة لإعادة تأجيج الجانب العسكري، وإن كان ذلك محدوداً بحكم تراجع العمل العسكري، نتيجة توافقات واتفاقات أستانا. وقامت أمريكا بهذا من خلال ضربات عسكرية نفذتها بذريعة ما، مثل تلك في نيسان 2017 على مطار الشعيرات، بذريعة الرد على الكيماوي في خان شيخون. وفعلاً، «كانت الضربة الصاروخية الأمريكية على مطار الشعيرات، والحملة الإعلامية الدعائية المرافقة لها، مناسبة جديدة لإشاعة أجواء الإحباط والتيئيس، والتشكيك بإمكانية الحل السياسي، وسارع البعض على هذا الأساس، إلى نعي جنيف، والقرار2254 كأداة للحل» (ما بعد الشعيرات؟، 16 نيسان 2017).
كما قامت أمريكا بشكل مباشر- أو غير مباشر- بمحاولة تغيير الوضع على الأرض، لتستمر بوجودها العسكري في سورية، لأن تنفيذ القرار 2254 «يعني إيقاف كل تدخل خارجي بالشؤون السورية. وهذا يعني في نهاية المطاف انسحاب كل القوى العسكرية الأجنبية من سورية» (من مؤتمر صحفي نهاية أيار 2017، د. قدري جميل)، ما يعني أن خلق الأسباب لاستمرار الوجود العسكري في سورية، هو أحد الأدوات لتعطيل وتأخير تنفيذ القرار والمضي قدماً في الحل السياسي. وهذا يفسّر وبالرغم من القضاء على «داعش»، استمرار ظهور خلاياها وعمليات لها بين آونة وأخرى، الأمر الذي استخدمته أمريكا كذريعة لتمديد وجودها العسكري في سورية. وهذا يمكن أن يفسّر أيضاً استمرار الوضع المتوتر في الشمال الشرقي، حيث الوجود العسكري الأمريكي، وقدرة واشنطن على تعقيد الأمور، من خلال اللعب ضمن هامش التناقضات لعرقلة حل ملف الشمال الشرقي بما يضمن عرقلة الحل الشامل... وكذا الأمر إلى هذا الحد أو ذاك مع الجنوب الغربي انطلاقاً من التنف...
كما استمرت- خلال السنوات الماضية- محاولات الغرب والأمريكان حرف مسار الملف السوري، وتقويض الحل السياسي من خلال أدوات سوريّة، سواء بالتأثير على بعض الأطراف السورية، أو دعم استمرار المجموعات التي يقف وجودها عائقاً أمام تهيئة الظروف المناسبة لتنفيذ الحل السياسي. أوضح مثال على ذلك هو: الدور الأمريكي في استمرار وجود وسيطرة جبهة النصرة على جزء من الجغرافية السورية، الأمر الذي سلطت قاسيون الضوء عليه في عدد كبير من المواد، والتي يمكن العودة إلى الكثير منها من خلال آخر مادة تفصيلية حول الموضوع، بعنوان «كيف تطور دور النصرة عبر السنوات الخمس الماضية من عمر الأزمة؟ ما هو دورها اليوم وأية خطة رسمتها واشنطن لها؟» (28 آب 2022). وكان هذا ضمن سياسة أمريكا المعلنة في سورية من قبل المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية، جيمس جيفري، والتي تتمثل بتحويل سورية إلى مستنقع، بالإضافة إلى السياسة التي تحدث عنها جيفري بعد فترة وجيزة من تركه لمنصبه، وهي «الجمود هو الاستقرار».
ومع استمرار مسار أستانا بالتقدم وتحقيق المزيد من النتائج الإيجابية الملموسة على الأرض، زادت وتيرة محاولات الغرب، لا سيما أمريكا، لتقويض هذا المسار واللعب على التناقضات بين ثلاثي مسار أستانا، كطريقة لعرقلة أية جهود تصب في الوصول إلى حل سياسي في سورية. وكان تشكيل «المجموعة المصغرة» الغربية إحدى هذه المحاولات، وكذلك المبادرات الجزئية، كتلك التي تحدثت عنها مؤسسة «راند» في كانون الأول 2017 وكذلك مبادرات من نموذج لا ورقة تيلرسون أو لا ورقة مجموعة الخمسة، والتي كانت فعلياً أول بوادر تشكيل «المجموعة المصغرة» الغربية، والهدف الأساسي منها كان دائماً العمل بالضد من القرار 2254. وتوقيت هذه المبادرات كان أكبر دليل على هدفها، حيث جاءت لا ورقة تيلرسون في نفس الوقت الذي تم فيه عقد مؤتمر سوتشي في نهاية كانون الثاني 2018 والذي كان أحد نتائج مسار أستانا، والذي أيضاً نتج عنه تشكيل اللجنة الدستورية، التي انطلقت أعمالها في جنيف في نهاية تشرين الأول 2019. كما ظهرت لاحقاً ورقة للمجموعة المصغرة في تشرين الأول 2018، والتي صبت في الاتجاه ذاته.
هذا الأمر ليس متعلقاً فقط بجهود مسار أستانا ونجاحاته، ولا بالأزمة السورية برمتها، ولكن ما يعنيه ذلك متعلق أيضاً بمجمل التغييرات في التوازنات الدولية، وانتهاء هيمنة القطب الواحد بتمظهراتها الإقليمية. بكلام آخر، المقاربة الغربية- الأمريكية للملف السوري، وما يرافقها من محاولات مستمرة لتقويض الحل السياسي، هي أحد التعبيرات عن محاولات تأخير أو إبطاء– حيث بات واضحاً أنه من المستحيل إيقاف– التغيير الجاري في ميزان القوى الدولي. ولذلك وكما سنرى، تم استخدام الأساليب ذاتها في أزمات وملفات دولية أخرى.
هذا كلّه، جعل من المنطقي أنْ ترتفع مسؤوليات مسار أستانا من المساهمة بالحل عبر وقف إطلاق النار وعبر بعض المبادرات السياسية الجزئية، إلى مستوى التولي الكامل لمسؤولية الحل السياسي وتنفيذ 2254 سواء رغب الغرب في ذلك أم رفض. وهذا ما بات المراقبون متفقين على أنه جوهر ما تم اعتماده بشكل مشترك في قمة طهران الأخيرة لزعماء روسيا وتركيا وإيران، والتي عقدت يوم 19 تموز الماضي.
قبل القمة بشهر تقريباً، وتحديداً في 24 حزيران، وفي مؤتمر صحفي له، قال أمين حزب الإرادة الشعبية د. قدري جميل: «في ظل دور الغرب المنافق في الأزمة السورية، فنحن نطالب دول أستانا التي لها تواجد فعلي على الأرض في سورية، وهي الوحيدة الموجودة على الأرض فعلياً، والتي أخذت على عاتقها إيقاف المرحلة العسكرية من الصراع السوري، ونجحت في ذلك، يجب أن تأخذ على عاتقها مسؤولية تولي الحل السياسي وقيادته، وهي تستطيع ذلك في ظل المتغيرات الجارية اليوم ومن طرف واحد. أراد الغرب أن يلتحق أهلاً وسهلاً، لم يُرِد أن يلتحق مع السلامة ليس ضرورياً».

1103-13

عرقلة الغرب للحل السياسي نموذج قديم متكرر

ما زال البعض، وهم أقلية تتقلص أكثر فأكثر، متوهمين أنه من المستحيل أن تحاول أمريكا ومعها الغرب عرقلة الحل السياسي، وعرقلة تنفيذ القرار 2254، لأنهم في تصريحاتهم الرسمية يؤكدون دائماً على أن الحل في سورية سياسي وفق القرار 2254، ناهيك عن أنهم جزء من مجلس الأمن الذي صدر عنه ذلك القرار بالإجماع.
ما يجعل القرار 2254 مختلفاً عن قرارات سابقة، ويوضح سبب محاولات تقويضه من قبل مجموعة تشمل دولاً وافقت عليه، ربما يكون أحد أسبابه هو ذلك الذي أشار إليه د. جميل في تصريح له في أوائل آذار 2017، حيث قال: «الناس معتادة أن قرارات مجلس الأمن تصاغ وتقر وتوضع على الرف... لماذا 2254 مصيره يجب أن يكون غير مصير القرارات الأخرى؟ ببساطة لأن المبادر لهذا القرار هو قوى صاعدة في مجلس الأمن، هي الصين وروسيا، وإقرار هذا القرار وتنفيذه يعني تغييراً جذرياً في نمط العلاقات الدولية الذي كان سائداً حتى الآن، منذ إنشاء الأمم المتحدة، فالتوازنات والأوضاع كانت تجعل الغرب هو الذي يبادر لأخذ القرارات ووضعها على الرف، ويجري بهذه العملية ضحك على الشعوب، وتأجيل حل كل القضايا المطروحة للحل».
التاريخ القريب ناهيك عن البعيد، يفضح الغرب في استخدامه النموذج المنافق ذاته في التعامل مع أزمات دولية أخرى، وأبرزها طريقة تعامله مع اتفاقات مينسك الخاصة بأوكرانيا، وبالتحديد لأن «الصراع في سورية وعليها، هو في أحد جوانبه، إحدى النقاط الساخنة للصراع الدولي بين الجهتين نفسهما، اللتان تتصارعان في أوكرانيا؛ ولذا فمن المنطقي، ورغم عدم التطابق بين الحالتين، أنّ فهم آليات إدارة الصراع في أوكرانيا من شأنه، إلقاء ضوء كاشف على آليات الصراع في سورية أيضاً» (الدرس السوري من «اعترافات» ميركل!، 11 كانون الأول 2022).
وهذا ليس فقط من باب التحليل أو التخمين، ولكن من خلال التصريحات الواضحة الفاضحة الأخيرة للمستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل. حيث غطت قاسيون هذا الموضوع خلال الأسابيع الماضية، مشيرة في إحدى المواد: «تفضح تصريحات ميركل الأخيرة حول الطريقة الاحتيالية والانتهازية التي تعاملت بها أوروبا وأمريكا مع اتفاقات مينسك الخاصة بأوكرانيا، منهج العمل الغربي بما يخص سورية أيضاً والقرار 2254 ضمناً؛ أي عدم وجود أية مصلحة غربية في الوصول إلى حلٍ واستقرار حقيقي في سورية» (افتتاحية قاسيون 1100: لماذا نحتاج تسوية سورية- تركية؟، 11 كانون الأول 2022).
وكان ذلك على أساس ما ورد في مقابلة أجرتها صحيفة ألمانية مع ميركل، والتي من خلالها تبيّن «أنّ الأوروبيين والغربيين، كانوا كاذبين على طول الخط، بما يخص محاولة الوصول إلى اتفاق حقيقي في أوكرانيا ومع روسيا، وهذا يفسر غض النظر الذي مارسوه عن إجراءات الحكومة الأوكرانية طوال ثماني سنوات، بما في ذلك الأعمال الإجرامية المادية والثقافية اتجاه ذوي الأصول الروسية في أوكرانيا» وعلى أساس ذلك كان الاستنتاج الأساسي «هو أنّ الغرب بأسره، أمريكا وأوروبا وكل من يتبع لهما، ليس معنياً بتطبيق القرار 2254، كما هو شأنه مع اتفاقات مينسك، وتالياً، ليس معنياً بدفع سورية نحو الاستقرار ونحو الحل، بل معنيٌ بإبقائها ساحة دمار وصراع واستنزاف للخصوم الاستراتيجيين... وإحدى أدوات ذلك الاستنزاف هي حشر أنفه في الحل لا لدفعه قدماً بل لمنعه من التقدم» (الدرس السوري من «اعترافات» ميركل!، 11 كانون الأول 2022).
وبناء على ذلك، قلنا: إنه «لم يعد سراً أنّ الغرب يتعامل مع 2254 تعامله مع اتفاقية مينسك، أي بوصفه اتفاقية، الغرض منها لا التنفيذ، بل استنزاف الخصوم والتحضير لمعركة كبرى معهم. وكنا قد قلنا ذلك قبل سنواتٍ من اعترافات ميركل الأخيرة. وأما وقد أفصحت من كان يعتبرها البعض رمزاً للاستقلالية الأوروبية عن الأمريكان، فلم يعد من مجالٍ للجدال بأنّ الغرب بأسره لا يريد حلاً في سورية، بل ويريد دمارها الكامل والشامل، ولا يُعوِّلُ على اتفاقٍ معه على الحل سوى أخرق، أو صاحب مصلحةٍ أنانية ضيقة لا علاقة لها بمصالح الشعب السوري... المشروع الذي يرتكز إلى منع الحل، هو المشروع الغربي الصهيوني، محمولاً على الدمار المتعاظم في سورية، وعلى تهجير أهلها وتعميق التوحش الليبرالي فيها، واستنزاف كل ما هو حي» (افتتاحية قاسيون 1102: نهاية سنة وبداية عام، 25 كانون الأول 2022).
وفي نهاية كانون الأول 2022، أي قبل أيام، أكد الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند خلال لقاء صحفي كلام المستشارة الألمانية السابقة، بأنه تم استخدام اتفاقيات مينسك لمنح كييف والدول الغربية المزيد من الوقت ولتعزيز الجيش الأوكراني لقدراته مما كانت عليه في 2014.

1103-15

خطوات ومبادرات غربية أخرى كأدوات عرقلة الحل

مع استمرار الأزمة، وبالرغم من الاستعصاء في العملية السياسية، إلا بعض العوامل الداخلية بالإضافة إلى الخارجية، وبالتحديد استمرار مسار أستانا بالعمل، وتحقيق نتائج إيجابية في عدد من الملفات، أمريكا ومعها الغرب غير الراغبين بحل سياسي حقيقي في سورية، وعلى أساس التطبيق الكامل للقرار 2254، استمروا بوضع العراقيل، واختلاق أدوات مختلفة لتعطيل الحل. وكانت أبرز تلك الأدوات في السنوات القليلة الماضية، العقوبات الغربية والحصار الاقتصادي وعلى رأسها «قانون قيصر»، شعار «تغيير السلوك» (أيضاً: أين وصلت عملية «تغيير سلوك النظام»؟ سياق... أدوات... نتائج، 19 كانون الأول 2021) ومبادرة الـ «خطوة مقابل خطوة» ومشاريع من نوع ما يسمى بـ «خط الغاز العربي» وغيرها. وفي جوهرها كانت هذه المبادرات الشق الخارجي لعمل جارٍ داخلياً بالتوازي، يؤدي بالمحصلة إلى ربط أكبر بالغرب والدولار، ما يضمن استمرار الارتباط الاقتصادي، وبالمحصلة السياسي، بالغرب وأمريكا، ما يعني قدرة أكبر على التحكم بمسار الأمور سياسياً، وفي هذا المعنى بعيداً عن الوصول إلى حل سياسي شامل في سورية.
وما زالت أمريكا تحاول استخدام الـ «خطوة مقابل خطوة» للتلاعب والالتفاف على الحل السياسي الشامل، من خلال استخدام خطوات ابتزازية ضمن نطاق ضيق، يهدف في جوهره إلى إطالة أمد الأزمة، وليس إلى حلها، وهذا ما يمكن استشفافه من آخر المقترحات حول الموضوع، والذي تطرقت إليه مادة «تحليلية» نشرها قبل أيام في 22 كانون الأول 2022، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، بعنوان «على الأسد العودة إلى طاولة المفاوضات للتخفيف من أزمة الطاقة في سوريا»، ويمكن لأي قارئ لديه أدنى الحدود من الاطلاع بالملف السوري، أن يفهم أن ما يتم اقتراحه هو تماماً ضمن مفهوم الـ «خطوة مقابل خطوة» وبطريقة لا تصب أبداً بالدفع بالعملية السياسية إلى الأمام، بل على العكس تماماً، وبالأخص إذا أخذنا بعين الاعتبار الخطوات الاقتصادية التي تتخذها قوى الفساد في النظام في الفترة الأخيرة. وهذا ما تطرقنا إليه قبل أسبوعين عندما قلنا: «تشكل خصخصة قطاع توزيع المحروقات، خطوة إضافية ضمن التنفيذ المتواصل لبرامج صندوق النقد والبنك الدوليين، وضمن اللبرلة الكاملة للاقتصاد السوري، وربما يكون المعنى السياسي لهكذا إجراء، أنه خطوة في إطار الـ «خطوة مقابل خطوة» بوصفه المشروع الأمريكي والغربي المعلن في سورية» (افتتاحية قاسيون 1101: خصخصة المحروقات والـ «خطوة مقابل خطوة»!، 18 كانون الأول 2022).

1103-7

خطوات أستانا لمواجهة عرقلة الغرب للحل: تسوية العلاقات السوريّة-التركية مثالاً

منذ انطلاق مسار أستانا لمواجهة التعطيل الغربي للحل السياسي، كانت التسوية السورية- التركية أحد المعالم الأساسية التي ينبغي العمل على تحقيقها. وبالرغم من أن موضوع التسوية بين دمشق وأنقرة لم يكن على الطاولة بالشكل الواضح الذي ظهر عليه خلال الفترة الماضية، إلا أنه ضمناً كان جزءاً لا يتجزأ من صيغة أستانا، من خلال الاعتراف المتبادل بأهمية وجود الطرفين، وكل الأطراف المعنية في أستانا. وكما أشرنا منذ سنوات، فإن وجود تركيا في مسار أستانا، كان مؤشراً منذ البداية على بدء الاستدارة التركية، التي ما زالت جارية، وخروج تركيا من دورها كورقة مضمونة في يد الغرب والأمريكان، الدور الذي بدأ فعلياً بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد منذ انضمام تركيا إلى حلف الناتو في عام 1952.
وكما قلنا لاحقاً «من الصحيح أن الانعطاف التركي من شأنه أن يحمل مخاطر جمة لأنقرة، لكن بقاءها في الدائرة الغربية ينطوي على مخاطر أكثر وضوحاً، تصل إلى حد تفتيت البلاد وتهديد وحدتها» وكان هذا أحد العوامل التي دفعت بتركيا إلى الانضمام إلى مسار أستانا، والذي كان انتقالاً لتركيا إلى إطار التعاون للعمل على تسوية وحل الأزمة السورية، والذي رأينا أنه يعني «أن هذه الدول قد وجدت صيغة فيما بينها لحل التباينات الموجودة، أو التفاهم على إدارتها بالحد الأدنى. ولدى هذا الثلاثي عدد واسع من الملفات التي يحتاج حلها إلى تنسيق الجهود المشتركة، ولا سيما أننا أمام طورٍ جديد من تشكيل منظومة إقليمية جديدة تتناسب مع تغيرات موازين القوى الدولية» (تركيا والموقف منها... بين الأحلام والاستحقاقات!، 30 كانون الأول 2019).
تطرقت قاسيون منذ بداية مسار أستانا إلى أهمية التسوية السورية- التركية ضمن الخطوات اللازمة في التهيئة للظروف الملائمة لتنفيذ القرار 2254. «لقد جاء بيان موسكو، والاتفاق الثلاثي «الروسي– الإيراني– التركي» وتدحرج المواقف، وتسارعها... سواء كان من الناحية الميدانية على الأرض، والتسوية مع الجانب التركي... أو من ناحية بذل الجهود، واستكمالها لإحياء المسار التفاوضي، والنشاط الرامي لعقد لقاء الأستانا، كمحطة على طريق جنيف، وتحجيم دور قوى العرقلة، دولياً وإقليمياً، وداخلياً، ووضع إمكانية إخراجها من العملية في حال استمرار عرقلتها، وضمانة الأطراف الثلاثة بتنفيذ الاتفاق، تفتح الطريق عريضاً، على استئناف التفاوض، وبالتالي، تضع الأساس المادي لتسريع استعادة الشعب السوري لسيادته على أرضه ووطنه» (الحل السياسي والسيادة الوطنية، 24 كانون الأول 2016).
كما قلنا أنه «على أساس ضرورة حل التباينات القائمة بين دول المنطقة، يتخذ مسار آستانا نهج الحوار وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتخاصمين، ومن هنا يمكن فهم المحاولات الروسية والإيرانية التي جرت بهدف تطبيع العلاقات بين سورية وتركيا، هذا التطبيع الذي لا يهدف إلى حل الملف السوري فحسب، بل إلى انتشال المنطقة من الرسمة الإقليمية القديمة، التي سمحت للأمريكي بأدوات تحكم عالية فيها، والدفع في اتجاه واقع إقليمي جديد يقوم على التكامل بين دول المنطقة، والذي لا بد له أن يمر أولاً بمرحلة تطبيع العلاقات وحلحلة الخلافات الحاضرة. في مقابل هذا الواقع، لا يزال هنالك بين الأطراف السورية المتشددة، وعلى طرفي المتراس، من يراهن على العداء مع تركيا كوسيلة لتعطيل حلِّ الملف السوري» (تركيا والموقف منها... بين الأحلام والاستحقاقات!، 30 كانون الأول 2019).
ومنذ بدأ موضوع التسوية السورية- التركية بالظهور بشكل أوضح، أشرنا إلى أن ذلك لم يكن مفاجئاً ولم يكن أحادي الجانب، وإنما تطور طبيعي ضمن المعطيات في الملف السوري وفي الوضع الدولي، حيث قلنا: إنه «ما ينبغي أن يتأسس عليه فهم التطور في الموقف التركي، هو طبيعة الصراع العالمي الجاري، وما ينتجه من تحولات كبرى في موازين القوى، وفي تموضع الدول والتيارات المختلفة على مختلف المستويات»، وأن التصريحات التركية لم تكن «مبادرة تركية منفردة، بل عمل منسق ضمن ثلاثي أستانا... سُبقت بتصريحات وإشارات روسية متعددة في الاتجاه نفسه، وكذلك بتصريحات وزير الخارجية الإيراني خلال زيارته الأخيرة لدمشق»، وأهمية خطوة كهذه في حل الأزمة السورية (افتتاحية قاسيون 1083: سورية تركيا إلى أين؟، 14 آب 2022).
وأوضحنا أهمية هذه التسوية في عدة جوانب باتجاه حل الأزمة السورية وتطبيق القرار 2254: «من الواضح أن تسوية بين سورية وتركيا، باتت ضرورية للدفع الفعلي باتجاه إنهاء الكارثة السورية، والبدء الحقيقي بالحل السياسي الشامل وفق القرار 2254، وذلك لأن هذه التسوية: تقلّص إلى حد كبير من إمكانيات المجموعة المصغرة الغربية في إعاقة الحل السياسي السوري؛ تقلّص قدرة الغرب وبالأخص أمريكا على التأثير التدميري على سورية، من خلال العقوبات الاقتصادية والحصار الاقتصادي؛ تقلّل إمكانيات التخريب الأمني والعسكري عبر ملفات الشمال الغربي والشمال الشرقي؛ تسمح باستكمال تهيئة الحاضن الإقليمي والدولي المناسب وصاحب المصلحة بتحقيق الحل في سورية، أي أستانا والصين والهند والدول العربية الأساسية؛ تفتح الباب أمام بناء نموذج اقتصادي جديد في سورية يتميز بإنهاء التبعية الاقتصادية، وبالتالي السياسية، وتطوير القاعدة المادية الحقيقية للنمو الحقيقي اللاحق» (أبعاد «تسوية» سورية- تركية أكبر بكثير من 900 كم... لماذا من مصلحتنا كسوريين الدفع نحو الوصول إلى «تسوية»؟، 11 كانون الأول 2022).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1103
آخر تعديل على الثلاثاء, 03 كانون2/يناير 2023 16:54