أين وصلت عملية «تغيير سلوك النظام»؟ سياق... أدوات... نتائج
تستمر بالظهور مؤشرات العمل والضغط الغربي ضمن ما يُسمى سياسة «تغيير سلوك النظام». وإذا كانت مقالات سابقة في قاسيون قد وقفت عند الأهداف العامة لهذه السياسة، فقد بات من المفيد مع جلاء أقسامٍ إضافية من الصورة، أن نحاول الدخول في مزيد من تفاصيل هذه السياسة وآلياتها، وليس غاياتها النهائية فحسب...
سياق تاريخي
من المهم قبل الخوض في التفاصيل، أن نضع السياسة المسماة «تغيير سلوك النظام»، ضمن سياقها التاريخي المتعلق بالأزمة السورية وتطورها؛ لأنّ تحديد الإطار الزمني الذي ظهرت فيه هذه السياسة، شرطٌ أساسي لفهم غاياتها، بل وربما يكاد وحده يكفي للإمساك بجزء مهم من حقيقتها.
إذا كانت الاحتجاجات الشعبية قد بدأت بالظهور مطالع العام 2011، وتحت تأثير جملة من العوامل الداخلية والخارجية، أهمها وأكثرها وزناً: هو الوضع الاقتصادي الاجتماعي والسياسي المتردي عبر عقود ضمن سورية، فإنّ التعامل معها على أنها مجرد «مؤامرة خارجية» ينبغي القضاء عليها بالحديد والنار، فتح الطريق نحو مزيد من التدخلات الأجنبية والغربية بالدرجة الأولى.
وسواء في تلك المرحلة أو قبلها، فإنّ استمرار سورية كوحدة جغرافية سياسية كان عائقاً أمام السياسات الغربية في الشرق الأوسط ككل، وخاصة فيما يتعلق بالكيان الصهيوني. وبعد ظهور التراجع الأمريكي بشكل جلي ابتداءً من الأزمة المالية عام 2008، فإنّ سياسات إعادة التموضع الكبرى التي بدأتها الولايات المتحدة من حينه، كانت تتطلب بالضرورة السير حتى النهاية في مشروع «الفوضى الخلاقة»، والذي يحمل تقاطعات كبرى مع مشروع «الشرق الأوسط الجديد» للكيان الصهيوني، الذي عبر عنه أحسن تعبير شمعون بيريز في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه.
مع تعمّق الأزمة في سورية، يمكن القول: إنه وبعد أشهرٍ قليلة من المظاهرات التي شارك فيها الناس بشكل عفويٍ بسوادهم الأعظم، وحين بدأت مرحلة الحرب، فإنّ المراحل الأساسية التالية قد مرت على البلاد خلال السنوات العشر الماضية.
أولاً: «الإسقاط العسكري»
امتدت هذه المرحلة من أواسط 2011 وحتى نهايات 2015. وكان الشعار الغربي المعلن فيها هو «الرحيل» و«الإسقاط». وأما الأداة التي كان يراد أن يتم الإسقاط على يدها في نهاية المطاف، فهي ليست «الثوار»، أو «المعارضين»، وإنما الأداة الإرهابية الواضحة بشكل مباشر، من أمثال النصرة وداعش. وإسقاط النظام ضمن هذا السيناريو لم يكن أكثر من نتيجة جانبية لعملية أكبر وأكثر تأثيراً، هي إسقاط الدولة بأسرها، وأخذها إلى وضع لا تقوم بعدها لعقود طويلة قادمة.
ثانياً: «الاستنزاف العسكري»
تمتد هذه المرحلة من نهاية أيلول 2015 وحتى نهايات 2018. استمر شعار إسقاط النظام، ولكن بدأ يخفت تدريجياً، وبدأنا نسمع منذ أواسط 2016 وبشكل متقطع ومتباعد، وابتداء من البريطانيين، شعاراً جديداً هو «تغيير سلوك النظام».
ما جرى في تلك المرحلة، هو أنّ الدخول العسكري الروسي المباشر في المعركة، ومع ظهور نتائجه شيئاً فشيئاً، كان قد قطع الطريق على إمكانيات تحقيق السيناريو الأول، فبات مطلوباً الانتقال إلى سيناريو جديد، يحقق في نهاية المطاف الأهداف الأولى نفسها.
السيناريو الذي جرى اعتماده منذ تلك اللحظة، كان سيناريو «الاستنزاف العسكري»، والمقصود: هو استنزاف سورية نفسها على كل الجبهات، أي استنزاف الموالين والمعارضين على حدٍّ سواء، واستنزاف موارد البلاد وإمكانياتها وإمكانيات أهلها، وصولاً إلى تجفيفها من أي قوة، وتأهيلها لانهيار شامل. وكذلك استنزاف خصوم الغرب، روسيا وإيران.
وكجزءٍ من عدة هذا السيناريو، كان على الغرب أنْ يقر بفكرة الحل السياسي وأن يتخلى إعلامياً على الأقل عن الحديث عن «رحيل النظام» وعن الإسقاط بالقوة. وهذا ما فتح الباب لتمرير القرار 2254، الذي كانت المهمة الغربية الأساسية بعد تمريره، هي منع تنفيذه.
ثالثاً: «الاستنزاف الاقتصادي»
تمتد هذه المرحلة من نهايات 2018 حتى الآن، وتتداخل مع المرحلة الرابعة التي سنتناولها تالياً.
أبرز ما جرى ضمن هذه الفترة من عمر الأزمة، هو تشكيل ثلاثي أستانا الذي استطاع تحقيق ما لم يحققه اتفاق لافروف كيري عام 2016 لوقف إطلاق النار؛ حيث تمكنت أستانا التي تشكلت نهاية عام 2016، وخلال عامين ونصف تقريباً، أن تصل بالبلاد إلى حالة إيقاف إطلاق نارٍ شامل تقريباً، ما تزال مستمرة منذ عامين تقريباً.
وإذا كان الوجود الأمريكي في الشمال الشرقي، والتركي في مناطق من الشمال والشمال الغربي السوري، قد أبقت حالة تقسيم الأمر الواقع في البلاد، إلا أنّ أولوية إيقاف إطلاق النار الشامل كانت أعلى الأولويات في تلك المرحلة من تاريخ الأزمة، لأنّ إنهاء عملية الاستنزاف العسكري كانت الأولوية الأعلى.
مع اتضاح أنّ سيناريو الاستنزاف العسكري قد وصل إلى نهاياته، بات ضرورياً الانتقال إلى سيناريو جديد، تمثّل في «الاستنزاف الاقتصادي». راية هذا السيناريو كانت ولا تزال قانون قيصر، رغم أنه ليس الوحيد ضمن سلسلة العقوبات، لكنه حمل رمزية الانتقال إلى سياسة جديدة.
ساعدت البنية السياسية المحشوة بالفساد الكبير في سورية على تحويل الجانب الاقتصادي عموماً، وقيصر ضمناً، إلى سلاح دمارٍ شامل موجه إلى سورية والشعب السوري؛ حيث تحولت العقوبات نفسها إلى أداة في إعادة هيكلة شاملة للاقتصاد السوري، ليتحول إلى اقتصاد مافيات وفساد وممنوعات ومساعدات وتحويلات، بالتوازي مع القضاء التدريجي، ولكن السريع على كل الأوجه الإنتاجية لهذا الاقتصاد.
وهذا الجانب وحده له من التأثيرات ما يستحق دراسات معمقة؛ يكفي أن نقول هنا: إنّ تحضير أي مجتمع نحو انتقالات وانزياحات تطيح بكل تاريخه وبكل مبادئه تبدأ من إجراءات من هذا النوع اقتصادياً، بما تحمله من تدمير عنيف لبنية ذلك المجتمع، ليس المادية الملموسة فحسب، بل وأيضاً الفكرية والأخلاقية والثقافية... وبكلمة: فإنّ تحول الاقتصاد نحو أنماطٍ شديدة الضعف في الإنتاجية، وعالية الفساد، وعالية الإجرام والسواد، يمكن له أن يدمّر روح مجتمع بأكمله ويفتتها ويصل إلى أصغر خلاياها، وضمناً مفاهيمها ومعتقداتها...
عودٌ على بدء، فإنّ الاستنزاف الاقتصادي هو الآخر ليس سياسة معلقةً بالهواء ودون أهداف محددة؛ بل هي الأهداف الأولى ذاتها، مضافاً إليها تضاعف الحاجة الأمريكية والصهيونية لتحقيق ترتيبات «نهائية» وسريعة في المنطقة ككل، ضمن سياسة إعادة التموضع الكبرى الأمريكية، المحكومة بالمعركة الأكبر: مع الصين وروسيا خارجياً، ولكن أهم من ذلك مع عجلة الاقتصاد الأمريكي الداخلي التي دخلت أزمة عميقة تهدد الولايات المتحدة نفسها قبل أي أحد آخر.
ولذا فإنّ هذه المرحلة شهدت سحب شعار إسقاط النظام من التداول نهائياً، وشهدت تسيّد شعار «تغيير سلوك النظام»، الذي بات يحمل تحته الأهداف السابقة نفسها، وإنْ مع بعض التعديلات هنا أو هناك.
رابعاً: «تغيير السلوك»
لا يمكن اعتبار مرحلة سياسة «تغيير السلوك»، مرحلة مستقلة بذاتها، بل هي بشكل أو بآخر جزء من سياسة الاستنزاف، وربما هي بتعبير أدق: ذروة تلك السياسة؛ أي بعد أن يأخذ الاستنزاف مداه، فإنّ إنهاءه يصبح مشروطاً بتحقيق الشروط التي يريدها الغرب، أي بتحقيق غاياته.
ليس من الصعب ملاحظة أنّ مقولة «التطبيع مع النظام»، والتي يجري استخدامها إعلامياً للتعبير عن محاولات التقارب بين النظام السوري وبعض الأنظمة العربية، ليست خارج السياق العام لسياسة تغيير السلوك.
أكثر من ذلك، فإنّ الارتباط عميق كما تظهر الوقائع، بين ما يسمى «التطبيع مع النظام» وبين «تغيير السلوك» وبين التطبيع، أي التطبيع مع الصهيوني؛ ولعل أهم المؤشرات على ذلك، هي أنّ أبرز عرابَين لما يسميه الغرب «تطبيعاً مع النظام»، هما نفسهما أبرز عرابين لعملية التطبيع مع الكيان الصهيوني، ونقصد الإمارات والأردن، اللتان تتقدمان بالوكالة للعب أدوار أكبر بكثير من حجمهما ووزنهما.
ومن المؤشرات التي وقفت قاسيون عندها بشكل مطول، ما سمي «مشروع خط الغاز العربي»، والذي أظهرت دراسات قاسيون بما لا يقبل جدلاً أنّ الصهيوني إما أنه مشاركٌ فيه من تحت الطاولة، أو أنه في أقل الأحوال سوءاً قادرٌ على الاستفادة منه للحدود القصوى، وتحويله إلى جزء من مشروع بيريز لشرق أوسط جديد.
في الأدوات
إذا كانت عملية الحل السياسي ما تزال متعثرة حتى اللحظة، ويقود تعطيلها المتشددون السوريون، من النظام بالدرجة الأولى، ومن المعارضة بالدرجة الثانية، فإنّ استمرار العملية لا حيّة ولا ميتة، قد تحول بحد ذاته إلى أحد أدوات إطالة الاستنزاف وتعميقه وصولاً إلى «تغيير السلوك».
وإذا كنا قد شهدنا خلال الأعوام الثلاثة الماضية، أخذاً ورداً كثيراً حول عودة سورية لمقعدها في الجامعة العربية، وحول إعادة أو عدم إعادة العلاقة الرسمية مع هذه الدولة أو تلك، من العرب أو الأوربيين، فإنّ ما بات واضحاً هو أنّ هذه المسألة نفسها يجري استخدامها أيضاً بوصفها إحدى أدوات الضغط بين ترغيب وترهيب.
كذلك هو الأمر مؤخراً مع عودة الحديث عن «الكيماوي»، بعد أن تلاشى الحديث عنه تقريباً خلال السنتين الماضيتين؛ أقله فإنّ «الإسرائيليين» لم يتذرعوا بالكيماوي بل بـ«إيران» في اعتداءاتهم المستمرة على سورية، ولكنهم عادوا في الأسبوع الأخير لإخراج هذا الأرنب من القبعة كما كشفت (يدعوت أحرنوت) وكذلك واشنطن بوست.
لا يمكن أيضاً أن نتعاطى مع مطالبات الأردن مؤخراً في مسألة المياه، والتي بدت أنها تحمل لهجة عالية، وذلك في قطع مع أكوام «الود» التي رأيناها قبل ذلك بأسابيع قليلة... أكوام من الود ترافقت مع تصوير عاهل الأردن منقذاً ومخلّصاً وصاحب مبادرة يجول بها على الدول الكبرى، وتسمع منه وتقتنع وتمشي خلفه!
بين الأدوات التي باتت واضحة بين ترغيب وترهيب، هي التحكم عبر العقوبات وغيرها بحنفية التدفقات المالية، والتي كانت وما تزال مغلقة بما يخص السواد الأعظم من السوريين، في حين يجري تضييقها وتوسيعها فوق أفواه النخب.
وما ذكرناه هو الظاهر من الأمور فحسب، في حين أنّ ما خفي في مثل هذه الأحوال هو الأعظم.
في خلاصة مسيرة تغيير السلوك
ما يجري فعلياً ضمن سياسة تغيير السلوك، وبعيداً عن أوهام النخب ومصالحها الضيقة، هو أنّ البلاد والنخب نفسها، يجري تجريدها بالتدريج من إمكانياتها وقدراتها وحتى من صداقاتها وتحالفاتها، بحيث تصل إلى مرحلة لا تعود قادرة فيها سوى على القبول. وعادة ما يكون هذا القبول هو آخر الأدوار التي تلعبها على مسرح التاريخ...
رغم أنّ الموضوع مختلف بهذا القدر أو ذاك في سورية، وأنه بالتأكيد أشد تعقيداً، فإنه ربما من المفيد في هذا السياق التعلم من التجارب سيئة الذكر للدول التي طبّعت تاريخياً مع الصهيوني، فعملية التطبيع نفسها هي إحدى التجارب المحققة لسياسة «تغيير السلوك» الغربية...
النظر إلى هذه التجارب المريرة ابتداءً من مصر والأردن ووصولاً إلى السودان والمغرب وغيرهما، يلقي الضوء على حقيقة واحدة شديدة الوضوح: التماشي مع سياسة تغيير السلوك الغربي، لا يقود إلّا نحو أوضاعٍ أشد سوءاً للشعوب والدول على السواء، بل وحتى «النخب» نفسها، فإنها تسقط، أو أنها تصبح أكثر استعداداً للسقوط!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1049