الدرس السوري من «اعترافات» ميركل!

الدرس السوري من «اعترافات» ميركل!

خلال الأيام القليلة الماضية، تحوّلت المقابلة التي أجرتها صحيفة (تسايت Zeit) الألمانية مع المستشارة السابقة أنجيلا ميركل يوم السابع من الجاري، إلى بؤرةٍ للاهتمام التحليلي والسياسي حول العالم، بما يخص الوضع الراهن في أوكرانيا وجذوره عبر عقد من الزمن. ولكنّ ما يهمنا بشكل مباشر في هذا الخصوص، هو الدروس التي يمكن أن نتعلمها كسوريين من «اعترافات» ميركل، خاصةً أنّ الصراع في سورية وعليها، هو في أحد جوانبه، إحدى النقاط الساخنة للصراع الدولي بين الجهتين نفسهما اللتان تتصارعان في أوكرانيا؛ ولذا فمن المنطقي، ورغم عدم التطابق بين الحالتين، أنّ فهم آليات إدارة الصراع في أوكرانيا من شأنه، إلقاء ضوء كاشف على آليات الصراع في سورية أيضاً.

بماذا «اعترفت» ميركل؟

أمورٌ كثيرة كشفتها ميركل في المقابلة المشار إليها، ولكن أكثر ما استقطب الأضواء هو قولها: «اتفاقية مينسك لعام 2014 كانت محاولة لإعطاء أوكرانيا الوقت... وقد استغلت هذا الوقت لتصبح أقوى كما ترونها الآن. أوكرانيا 2014-2015 ليست أوكرانيا اليوم»!
يعتبر كثيرون أنّ ميركل- كشخصية قيادية أوروبية- هي من آخر أجيال القيادات الأوروبية التي أبدت قدراً من الاستقلال النسبي عن الولايات المتحدة، مقارنة بما تظهره القيادات الراهنة من تبعية كاملة للأمريكي. وتم الاستناد بشكل أساسي إلى خط نورد ستريم 2 في بناء مثل هذا التقييم. ولكن هذه المقابلة ككل، بما فيها ما قيل حول نورد ستريم2، تكشف أنّ هذه الاستقلالية المدّعاة كانت هي نفسها جزءاً من مخطط «منح وقت إضافي» لأوكرانيا ولألمانيا ولأوروبا ككل، تجهيزاً للمعركة التي وفقاً للرأي الغربي لا مفر منها ولا بديل عنها.
بالعودة إلى اعتراف ميركل حول اتفاقيات مينسك، فإنّه يكشف أنّ الأوروبيين والغربيين، كانوا كاذبين على طول الخط بما يخص محاولة الوصول إلى اتفاق حقيقي في أوكرانيا ومع روسيا، وهذا يفسر غض النظر الذي مارسوه عن إجراءات الحكومة الأوكرانية طوال ثماني سنوات، بما في ذلك الأعمال الإجرامية المادية والثقافية اتجاه ذوي الأصول الروسية في أوكرانيا.

رسمة واحدة

ليس من الصعب مقارنة اتفاقيات مينسك والموقف الغربي الحقيقي منها، الذي كشفته ميركل، بالقرار الدولي 2254 بما يخص سورية؛ كان من «فضائل» وقاحة المبعوث الأمريكي السابق جيمس جيفري أنه قال للعالم صراحة: إنّ هدف الولايات المتحدة في سورية هو تحويلها إلى مستنقع للروس، وأنّ رأي الولايات المتحدة هو أنّ «الجمود هو الاستقرار»، وهو ما عاد لتأكيده في حوارٍ أجراه معه صنوه في الوقاحة وزميله جويل ريبورن قبل قرابة ثلاثة أسابيع.
وإذا كان الموقف الأمريكي شديد الوضوح لكل من يتقصى الحقيقة، فإنّ الموقف الأوروبي قد جرت تغطيته بأكوامٍ من الادعاءات الإنسانية، باعتبار أنّ «أوروبا هي منارة حقوق الإنسان»؛ فتم تصوير الموقف الأوروبي باعتباره مستقلاً نسبياً عن الموقف الأمريكي، حتى في مسألة العقوبات ونوعيتها وشدتها، وتمّ تصوير الموقف السياسي الأوروبي باعتباره حريصاً على الوصول إلى الحل السياسي فعلاً وعلى الوصول لتطبيق القرار 2254.
وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا النوع من توزيع الأدوار بين أوروبا والولايات المتحدة؛ يمكن أن نستحضر في هذا السياق التمايز الشكلي بين أوروبا والولايات المتحدة الذي جرى ترويجه مطلع هذا القرن بما يخص القضية الفلسطينية. فحين بات من المستحيل تصوير الولايات المتحدة نفسها وسيطاً حيادياً في الصراع، دفعت أوروبا لتحاول لعب هذا الدور... والأنكى أنّ البعض قد صدّق هذا الأمر، أو ادعى تصديقه لغايات باتت واضحة بعد كل هذه السنوات... ومثال الموقف من الغزو الأمريكي للعراق هو الآخر مثال واضح على توزيع الأدوار الذي جرى بين الطرفين، والذي ادعى فيه الأوروبيون رفضهم، ومن ثم تبين بالمعنى العملي أنهم كانوا أحد أهم المستفيدين والمشاركين في الاحتلال.

الاستنتاجات

وإذاً، فالاستنتاج الأول الذي لا مفر من التعامل معه ومواجهته، هو أنّ سياسات أوروبا ودولها الأساسية اتجاه سورية، هي اشتقاق وتابع للسياسات الأمريكية، وأيّ استقلال نسبي يجري تصويره لنا ليس أكثر من توزيعٍ للأدوار ضمن فريق واحد.
وأما الاستنتاج الثاني، والذي ربما يكون أكثر أهمية، هو أنّ الغرب بأسره، أمريكا وأوروبا وكل من يتبع لهما، ليس معنياً بتطبيق القرار 2254، كما هو شأنه مع اتفاقات مينسك، وتالياً ليس معنياً بدفع سورية نحو الاستقرار ونحو الحل، بل معنيٌ بإبقائها ساحة دمار وصراع واستنزاف للخصوم الاستراتيجيين... وإحدى أدوات ذلك الاستنزاف هي حشر أنفه في الحل لا لدفعه قدماً بل لمنعه من التقدم.
وإذا كان المخرج الموضوعي من الأزمة السورية رغم ذلك ما يزال محصوراً بالقرار 2254 نفسه، وبالحل السياسي الشامل عبره، فالاستنتاج الإضافي الذي لا بد منه هو: أنّ تطبيق ذلك القرار ينبغي أن ينبع من تقاطع بين إرادتين: إرادة الغالبية العظمى من السوريين، وإرادة الدول التي لها مصلحة حيوية ووجودية في إنهاء استنزافها في سورية وإنهاء تهديدها في سورية. هذه الدول هي وضوحاً، دول مسار أستانا، مضافاً إليها الصين والدول العربية الأساسية. كل هذه الدول لها مصلحة مشتركة في الانتقال نحو نظام عالمي جديد، ونحو تفعيلٍ على أوسع نطاق لمشروع الحزام والطريق والمشروع الأوراسي، اللذان يضمنان لها إنهاء عمليات نهبها وابتزازها من جانب الغرب عبر التبادل اللامتكافئ. ولها بالتأكيد مصلحة مشتركة في الاستقرار السياسي في المنطقة بأسرها، والذي لا يمكن الوصول إليه طالما الأمور مشتعلة في نقطة مفتاحية من الخارطة الجيوسياسية الحيوية لهذه الدول، أي في سورية...
هذا كلّه، يزيد من وضوح أهمية مسار أستانا كحاملٍ للحل السياسي في سورية، ومعه الصين والدول العربية الأساسية، بل ويوضح بالذات المعنى العميق والأهمية الكبرى للدفع سريعاً باتجاه تسوية العلاقات السورية التركية...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1100