لماذا يغير أقوى حليف أوروبي لـ«إسرائيل» موقفه؟
لطالما كانت العلاقة بين ألمانيا والكيان الصهيوني محصّنة بميثاقٍ غير مكتوب، قوامه ما يمكن أن نسميه «دبلوماسية الهولوكوست». فمنذ عقود، اعتبرت الحكومات الألمانية المتعاقبة أن «أمن إسرائيل هو أحد أسباب قوة الدولة الألمانية»، وهو مبدأ تردد عبر الزمن على ألسنة العديد من السياسيين الألمان، وترجم إلى دعم ثابت وواسع لـ«إسرائيل»، تجسّد في المساعدات المالية والدعم السياسي، والأهم من ذلك، تصدير الأسلحة التي تُعد وسيلة أساسية لتعزيز قدرة الكيان على ممارسة عدوانيته.
لكن في تحول مفاجئ، أعلنت ألمانيا مؤخراً تعليق صادرات الأسلحة التي يمكن استخدامها في قطاع غزة. وبينما كان المستشار الألماني، فريدريش ميرتس، يؤكد أن «لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها»، فإن قراره بتعليق الشحنات العسكرية يمثل نقطة تحول كبرى في سلوك ألمانيا، ويثير تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخطوة تنذر بانتهاء حقبة الدعم الألمانية المطلق. لكن، رغم أن القرار قد يبدو للوهلة الأولى استجابة للضغط العالمي المتزايد بشأن الأزمة الإنسانية في غزة، إلا أنه يعكس في الحقيقة مشاكل ألمانيا الداخلية وأزمة الحكم التي تمر بها.
تغيّر في الرأي العام وضغط من الداخل
قبل أسابيع قليلة فقط، كان المستشار ميرتس يعرب عن امتنانه للعمل الذي تقوم به «إسرائيل»، واصفاً إياه بـ«العمل القذر الذي تقوم به من أجلنا جميعاً»، وبين هجوم 7 أكتوبر وشهر أيار الماضي 2025، وافقت ألمانيا على صادرات أسلحة للكيان بقيمة 485 مليون يورو. وقبل الحرب، بلغت الأسلحة الألمانية 30% من واردات الكيان الرئيسية من الأسلحة بين عامي 2020 و2023.
لكن موقف ميرتس تغيّر على نحو ملفت ليصبح أول مستشار ألماني بعد الحرب العالمية الثانية ينتقد الكيان بهذه الصراحة، قائلاً إن المعاناة الإنسانية في غزة «لم يعد من الممكن تبريرها بمحاربة إرهاب حماس».
بطبيعة الحال، لم يأتِ هذا التغيير من فراغ، فالضغوط الداخلية في ألمانيا تتزايد بشكل ملحوظ: تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن الأغلبية الساحقة من الألمان يدعمون موقفاً أكثر انتقاداً للكيان. حيث كشف استطلاع رأي حديث أجراه معهد Infratest Dimap الألماني لأبحاث الرأي أن ثلثي الألمان يعتقدون أن الكيان «قد تجاوز الحد في رده العسكري على هجوم السابع من أكتوبر»، وأن ثلاثة أرباعهم يؤيدون قرار الحكومة بانتقاد الكيان ووقف صادرات الأسلحة إليه.
أزمة حكم: الائتلاف الهش والمصالح المتضاربة
قرار تعليق الأسلحة ليس مجرد استجابة للرأي العام، بل هو أيضاً محاولة لإنقاذ الائتلاف الحاكم في ألمانيا، الذي يمر بأزمة عميقة. يضم ائتلاف ميرتس ثلاثة أحزاب مختلفة: حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ، والحزب الاشتراكي الديمقراطي من يسار الوسط، وحزب الخضر. وهذا الائتلاف هشّ للغاية ويملك أغلبية ضئيلة في البرلمان، وواجه صعوبات عديدة منذ بدايته.
كان حلفاء ميرتس في الحزب الاشتراكي الديمقراطي يدفعون نحو فرض حظر على الأسلحة نحو الكيان. وعندما أعلن المستشار عن قراره، كان رد نائبه الاشتراكي الديمقراطي لارس كلينغبيل داعماً ومؤيداً. وهذا التوافق السياسي النادر يعد مكسباً ثميناً لميرتس في ظل مناخ سياسي يتسم بالانقسام الشديد.
التنازل للاشتراكيين الديمقراطيين في قضايا مثل تصدير الأسلحة قد يبدو بمثابة «حل وسط منخفض التكلفة» مقارنة بالقضايا الأخرى الشائكة مثل إصلاح نظام الإعانات الاجتماعية أو مكافحة الهجرة غير الشرعية، وهي قضايا تسببت في صراعات حادة داخل الائتلاف. وفي ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا، يشعر الوسطيون الألمان بأن لديهم فرصة أخيرة لإثبات قدرتهم على الحكم قبل أن تصبح البلاد غير قابلة للتحكم.
ورغم من أن أزمة صادرات الأسلحة لا ترتبط مباشرة بالأزمة الاقتصادية، إلا أن المناخ الاقتصادي الصعب في ألمانيا يجعل من الضروري على الحكومة أن تثبت فعاليتها وقدرتها على تحقيق توافق من نوع ما وتقديم نوع من الرشوة للحراك المتصاعد في الداخل الألماني الذي يواجه تحديات اقتصادية كبيرة. وعلى هذا، يعكس قرار ميرتس بوقف الأسلحة للكيان محاولة منه لتقوية موقفه السياسي وتوحيد صفوف ائتلافه، حتى لو كان ذلك على حساب تغيير سياسة خارجية راسخة.
هذا التحول في التصريحات الرسمية حول الموقف تجاه الكيان ليس مجرد رد فعل على الأحداث الجيوسياسية بما في ذلك غزة، بل هو مرآة تعكس التغيرات العميقة داخل ألمانيا نفسها، من صراعات سياسية داخلية إلى تحولات في الرأي العام، ومن أزمة حكم إلى تحديات اقتصادية. ومن هنا، فإن «دبلوماسية الهولوكوست» قد لا تكون انتهت بالكامل، ولكنها بالتأكيد لم تعد حصناً أمام الضغوط الداخلية.