كيف تطور دور النصرة عبر السنوات الخمس الماضية من عمر الأزمة؟ ما هو دورها اليوم وأية خطة رسمتها واشنطن لها؟
انتشرت قبل أيام مقاطع وصور متنوعة لآخر نشاط لزعيم تنظيم النصرة الإرهابي أبو محمد الجولاني، عندما ذهب لحضور معرضٍ للكتاب، ومعرض للفن التشكيلي في إدلب!
وإذا نظرنا إلى تطور الجولاني، على الأقل من حيث اللباس والتفاعل مع الناس، يكاد لا يشبه نفسه عندما دخل المشهد في 2012 عندما أعلن عن إنشاء «جبهة النصرة». من لا يعرف الجولاني وتاريخه، قد لا يتوقع أنه قائد لفصيل إرهابي، وهذا ما تم العمل عليه لسنوات، ليعكس مظهره الخارجي وممارساته التي يتم الترويج لها ضرورات المرحلة لأولئك الأكثر استفادة منه ومن وجوده. وكنا قد تكلمنا عن هذا الجانب سابقاً، على الأقل منذ بدأ الأمريكان بشكل شبه علني تلميع النصرة وقائدها من خلال تصريحات مسؤوليهم، وتقارير وثائقية ولقاءات إعلامية وتغطية كثيفة لظهور الجولاني في أماكن مختلفة، وهو يتفاعل مع الناس بل ويسكب لهم الفول... إلخ. وسبق أن نظرنا في كل مرحلة إلى طريقة تعامل الأمريكان مع النصرة والجولاني لفهم الدور المطلوب منهما ضمن الأهداف المرحلية في الملف السوري.
«المسألة بوضوح هي ما يلي: ينبغي الحفاظ على النصرة، ينبغي الحفاظ على وضع خاص للشمال الشرقي، ومنعه من التقارب مع دمشق تحت أي ظرف كان، ينبغي الحفاظ على طبيعة النظام القائم دون أي تغيير. وبكلمة واحدة ينبغي الحفاظ على شروط استمرار الحرب واستمرار الأزمة، بل وإيصالها إلى إنتاج دينامياتها التدميرية الذاتية، بحيث لا يتكلف الأمريكان إلّا الحد الأدنى للحفاظ على النار مشتعلة. اللهاث وراء إعادة تأهيل النصرة هذه الأيام... قبل أن يتم الإجهاز عليها نهائياً عبر تنفيذ سوتشي، يحمل أهمية كبرى لواشنطن؛ لأنّ سقوط أية أثفية من الأثافي الثلاث التي ذكرناها أعلاه، سترفع الشعب السوري عن النار الأمريكية الحارقة، وستسمح بالمضي بشكل فعلي باتجاه تنفيذ كامل للقرار 2254».
(المسرحية الكوميدية الكاملة للثلاثي: جيفري، مالي، جولاني!، 24 شباط 2020)
مراجعة سريعة للمراحل السابقة
قبل الحديث عن المرحلة الراهنة، من المفيد أن نذكّر بالمراحل السابقة ودور النصرة فيها وسياسات أمريكا في الشمال الغربي، من خلال اقتباسات من بعض المواد السابقة التي نشرتها قاسيون، ويمكن العودة لها ولغيرها في الموضوع ذاته، على موقع قاسيون:
«الخطة الأمريكية التي تم تطويرها من خلال مركز RAND الأمريكي تهدف إلى ضمان «استمرار المعركة وعدم التوصل إلى حل سياسي شامل، أي عدم تنفيذ القرار 2254» ودور النصرة في ذلك هو «تحمل مسؤولية عمليات خرق خفض التصعيد، أياً كان الطرف الذي يقوم بها، سواء كان طرفاً إقليمياً، مثل: تركيا أو «إسرائيل» خاصة، وغيرهما بطبيعة الحال، أو داخلياً: معارضة ونظاماً؛ إذ إن الأطراف الرسمية جميعها غير قادرة على تحمل مسؤولية خرق خفض التصعيد بشكل علني، فهي غير قادرة على التلاعب العلني أمام الروس... وتغطية الخروقات التي تقوم بها أطراف داخلية مختلفة من «فصائل معتدلة» أو من أطراف في النظام، تسمح بإبقاء الروح في طروحات (الحسم العسكري) و(الإسقاط)».
(«راند– النصرة» ... صندوق باندورا!، 6 كانون الثاني 2018).
«يتفق معهد واشنطن مع الفرغلي، كما اتفق جيفري مع الجولاني، في أنّ الحفاظ على النصرة و«حكومتها»، سواء تحت ذريعة كورونا، ومن خلال شرعنة و«سورنة» النصرة، أو حتى عبر «التحليل الشرعي» للعمل العسكري المباشر ضد تركيا، هو أمر لا غنى عنه بالنسبة لواشنطن، لأنّه أداة أساسية في منع تطبيق اتفاق سوتشي، وبالتالي في منع السير نحو تنفيذ 2254».
(أمريكا «ذات القلب الرحيم»، القائد أبو الفتح الفرغلي... و«المصادفات» التي بالجملة!، 13 نيسان 2020).
«بعد أقل من أسبوع على إعلان تقاعده، أدلى جيمس جيفري بجملة تصريحات حول ما ينبغي أن تكون عليه سياسة الولايات المتحدة في سورية. وحثّ الرجل الذي كانت مهمته الأساسية وفقاً لكلامه «تحويل سورية إلى مستنقع»، الإدارة الأمريكية الجديدة على الاستمرار بالسياسة الحالية، أي السياسة التي كان هو المسؤول التنفيذي لها... ما هو واضح بجلاء الآن...: على الرغم من الخطابات والتصريحات التي أدلى بها جيفري أو غيره، لم يكن القصد من السياسة الأمريكية في سورية أن تقود إلى حل سياسي وإلى تنفيذ 2254. في الواقع، لم يذكر جيفري مرة واحدة في هذه المقالة أي شيء عن الحل السياسي، بل على العكس تماماً، فهو يقترح ويدافع عن ويبرر سياسة «الجمود/الطريق المسدود»، والتي تعني بالضبط «إدامة الأزمة».
(جيفري يريد لـ «مهمة المستنقع» أن تستمر... «الجمود / الطريق المسدود هو الاستقرار»!، 16 تشرين الثاني 2020).
«من الواضح أن جهود صنع السياسات لم تتغير، ومن المتوقع أن نرى زيادة في المقترحات والأفكار، مثل تلك التي قدمتها المقالة التي نناقشها هنا لتبني سياسة أمريكية تهدف في النهاية إلى تحقيق الأهداف التالية على الأقل: محاولة ترسيخ عزلة الشمال الغربي، وتكريس حالة تقسيم الأمر الواقع في سورية إلى ثلاثة أجزاء...، تقويض ما حققه مسار أستانا في العملية السياسية وفي الشمال الغربي. إذ على الرغم من كل المحاولات حتى الآن، لم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون من إحداث أضرار كبرى بالمسار، وبالتالي تسعى لخلق انقسام عميق بين روسيا وتركيا كتحالف إقليمي رئيسي يشكل بداءةً لمنظومة إقليمية- دولية جديدة...، الحفاظ على حالة الحرب والاستنزاف التي تؤدي إلى مزيد من التأخير في الوصول إلى الشروط اللازمة للمضي قدماً في الحل السياسي من خلال التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254».
(غادر بعض الممثلين الخشبة... لكن المسرحية مستمرة والجولاني بزيًّ جديد!، 7 شباط 2021).
«ما يقوله جيفري عن الاستراتيجية الأمريكية في إدلب التي تخدمها جماعة مثل النصرة، يتوافق تماماً مع الإستراتيجية الأمريكية العامة في سورية، والتي يمكن تلخيصها بمفهومين قدمهما جيفري نفسه: تحويل سورية «مستنقعاً»، وإبقاء المستنقع راكداً، أو كما قال «الجمود هو الاستقرار». لكن كيفية ترجمة ذلك على أرض الواقع تتطلب عملاً مستمراً للتمكن من الحفاظ على هذا الركود، وهذا «الاستقرار»، الأمر الذي يتطلب، وللمفارقة، حركة مستمرة وتغييرات من النوع الذي نراه مع الجولاني وتطور موقعه ضمن الخطاب الأمريكي».
(فصلٌ جديدٌ في مسرحية جيفري وأبو الفول الجولاني...، 5 نيسان 2021).
«ما نعتقده هو: أنّ تفسير المسألة يتمثل في النقاط التالية، أولاً: يوحي إصرار جيفري على تسريع عملية تبييض النصرة إلى أنّ لديه تقديرات، وربما معلومات عن أنّ استمرارها على ما هي عليه لم يعد ممكناً لفترة طويلة، وأنّ هنالك ما يُجهز ضد النصرة، ليس روسياً فحسب، بل وربما تركياً أيضاً، أي عبر أستانا نفسها، وهو المسار الذي لم يُخف موقفه من النصرة في أي وقت سابق، ولكن وضع مهمة تفكيكها. ثانياً: السياسة الأمريكية في الشمال الشرقي... تشير إلى أنّ هنالك أيضاً احتمال انسحاب قريب من سورية، ما يعني: أنّ الحفاظ على النصرة، بالتوازي مع إشعال احتراب وفوضى في الشمال الشرقي، وتثبيت حالة تقسيم الأمر الواقع... هو خطة الانسحاب الأمريكي من سورية، بما يسمح باستمرار النيران وربما تعميقها، وبما يسمح باستمرار المستنقع وتعميقه».
(جيفري «يبقّ البحصة» أخيراً: لم نستهدف النصرة نهائياً ونحن على تواصل معها، 7 حزيران 2021)
«ستستخدم الولايات المتحدة الإعلان عن أفغانستان كوجهة جديدة للمتطرفين، وخاصة من سورية، كدليل على أكذوبة تطهير النصرة من تطرفها. إن محاولات تبييض النصرة من قبل الولايات المتحدة مستمرة منذ سنوات...، ولكن قد يتم الإعلان عنها كخطوة أخيرة في «سورنة النصرة». ستحاول الولايات المتحدة القيام بذلك، بغض النظر عما إذا كان المقاتلون الأجانب في النصرة (والجماعات المتطرفة الأخرى في سورية) قد غادروا أم لا. الفكرة، هي أن تبالغ الولايات المتحدة في تصوير أفغانستان على أنها بؤرة جديدة للتطرف، بحيث يُفترض أن أي عنصر متطرف في أي مكان في العالم سينتهي به المطاف هناك، سواء حدث ذلك بالفعل أم لا. يمكن للولايات المتحدة بعد ذلك أن تشير إلى أن جبهة النصرة هي أخيراً «طرف سوري»، يمكن للجميع العمل معه بشكل علني، بما في ذلك أن يكونوا جزءاً من العملية السياسية. وسيصاحب ذلك بالضرورة تذكيرات وجهود متواصلة لعرض النصرة «السورية» الجديدة والملمعة جيداً، الأمر الذي سيتطلب استمرار العمل من قبل وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث وخاصة «الخبراء في الشأن السوري» الذين لم يدّخروا أي جهدٍ لتقديم مساهمتهم في هذا المجال».
(النهج الأمريكي المحتمل في سورية من العدسة الأفغانية: الانسحاب الآتي نعمة علينا الاستفادة منها، 30 آب 2021)
«الهدف الأمريكي على المدى الطويل فيما يتعلق بالنصرة هو الاستمرار بالعمل على إبقائها حتى بعد خروج الولايات المتحدة من سورية كأحد الألغام العديدة التي تزرعها واشنطن في المنطقة لتفجيرها لاحقاً عند الحاجة. على المدى القصير أو المتوسط، تلعب النصرة بشكل متزايد الدور المطلوب منها كواحدة من الجهات الفاعلة التي تضمن بقاء الظروف على الأرض غير مستقرة بما يكفي لإفساد الجهود الجادة لخلق البيئة المناسبة للعملية السياسية للمضي قدماً بالسرعة المطلوبة. هناك محاولات متزايدة ومتسارعة من قبل الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، لاستخدام النصرة لتقويض العلاقة الروسية التركية وتوسيع أية انقسامات قائمة بينهما، ضمن الجهود المستمرة لاستهداف التقارب الروسي التركي وصيغة أستانا بشكل عام، وعرقلة الوصول إلى حل سياسي حقيقي وشامل في سورية... ورغم درجة التعقيد والتشابك الهائلة التي تبدو عليها الأوضاع بما يخص النصرة وسورية والمنطقة عموماً، إلا أنّ حدود قدرة الفعل الأمريكي والصهيوني، باتت معلقة بشكل أساسي على حجم التناقضات بين الأطراف الفاعلة ضمن منطقتنا، وليس على القوة الذاتية للغرب المتراجعة أصلاً».
(تمديد مهمة الجولاني... الـ «Show» ما يزال مستمراً، 31 تشرين الأول 2021).
«لم يعرب أيّ من حلفاء الولايات المتحدة، سواء كان في الغرب أو حتى تركيا حليفتها في الناتو، عن موافقة أو دعمٍ لجهود تبييض النصرة، على الأقل ليس علناً، رغم أنه لم يكن هناك رفض علني لتلك الجهود أيضاً. ولكن، يبدو أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على القيام بهذا العمل بمفردها إذا أرادت اكتساب الزخم وتحقيق الأهداف المرجوة، وبالسرعة المطلوبة، لذلك هناك حاجة إلى مزيد من الشركاء للانضمام إليها حتى تتمكن من الاستمرار بتحريك العملية ودفعها إلى الأمام... إن محاولة الإيحاء بأن تركيا منفتحة على الانضمام إلى قافلة تبييض وتعويم النصرة بشكل علني، هي محاولة لخلق المزيد من التناقض أو تضخيم الاختلافات الموجودة أصلاً بين روسيا وتركيا، ضمن خطة أوسع لتقويض عمل مسار أستانا والإسهام تالياً لا في عرقلة الوصول إلى حل سياسي حقيقي وشامل في سورية عبر التطبيق الكامل للقرار 2254 فقط، بل والإيحاء بأنّ المقعد الخلفي الذي يشغله التركي على طاولة التفاوض الدولي حول المسألة السورية، يقع وراء الجانب الأمريكي».
(مطلوب على وجه السرعة: مزيد من المساهمين لتلميع الجولاني، 12 أيلول 2021)
ماذا تقول أمريكا عن النصرة اليوم؟
إذا انتقلنا إلى المرحلة الراهنة، ولفهم الدور الذي يمكن أن تلعبه النصرة ضمن الخطة الحالية للأمريكان في سورية، في ظل التطورات الأخيرة، بما في ذلك قمة أستانا الأخيرة في طهران، من المفيد مراجعة ما يتم تداوله حول النصرة والجولاني في الإعلام الأمريكي ومراكز الأبحاث الأمريكية. فيما يلي بعض ما نشرته جهات إعلامية وبحثية حول الموضوع خلال الشهر الماضي:
في 20 آب، نشر موقع «المونيتور» والذي يتخذ من واشنطن مقراً له، مقالة تتحدث عن عمل النصرة على «تطهير صفوفها من المتشددين». ووفق المقالة «استقال أبو الفتح الفرغلي، وهو مصري وقيادي بارز في هيئة تحرير الشام، من مجلس شورى الهيئة». وحسب المقالة، فإن مصدراً في هيئة تحرير الشام رفض الكشف عن اسمه قال: إنه «تم فصل فرغلي من منصبه في المجلس الديني بسبب تعنته. وجاء قرار إقالته بعد رفضه قرار القيادة بنقله إلى منصب آخر في هيئة تحرير الشام. هدف هيئة تحرير الشام من وراء قرار إقالته هو منع الانقسام الداخلي، أو عدم الاستقرار الذي كان الفرغلي يخلقه». ووفق مصدر آخر فإن الفرغلي كان قد اشتكى للجولاني حول «تغيير في المناهج الدراسية التي يتم تدريسها للمجندين الجدد، وإنه ضد المنهج الديني الذي تدرسه هيئة تحرير الشام لأعضائها، ويعتبر أنه لم يعد يتماشى مع المبادئ التأسيسية لهيئة تحرير الشام». وحسب المقالة، فإن «هذا التطور هو جزء من جهد واسع للتخلص من الجناح المتشدد داخل التنظيم» وأنه سيطال آخرين، وبالأخص من الأجانب في مراكز صنع القرار ضمن التنظيم.
وأضاف أحد الباحثين في المقالة، أن «هيئة تحرير الشام متماسكة اليوم ولا تتضمن أية حركات أو أجنحة راديكالية. قوتها تقوم على أساس سلطوي قائم على المصلحة، وليس على فكر منهجي كما كان الحال من قبل، والذي مثلته حركته الأيديولوجية. لم يعد هناك أية اعتراضات على سياسة القيادة والسلوك البراغماتي من قبل أي من أعضائها أو قادتها».
في 25 آب، موقع «ميمري»– الاسم هو اختصار لاسم «معهد بحوث إعلام الشرق الأوسط» باللغة الإنكليزية، وهو مؤسسة مراقبةٍ إعلامية صهيونية مقرها في واشنطن، أسسها ضابط استخبارات عسكري «إسرائيلي» وأكاديمية «إسرائيلية» أمريكية، وللمؤسسة علاقات مع المحافظين الجدد في أمريكا– نشر مقالة عن تقرير للمعهد حول آخر المستجدات المتعلقة بهيئة تحرير الشام– أي النصرة.
في المقالة التي لخصت التقرير، ورد أنه «في 15 آب، أبو مارية القحطاني، المعروف أيضاً باسم ميسرة الجبوري، مسؤول ديني بارز في جماعة هيئة تحرير الشام الجهادية التي تتخذ من إدلب مقراً لها، والتي قطعت علاقاتها مع القاعدة عام 2016، نشر على قناته على «تلغرام» منشوراً ينصح فيه أفرع القاعدة بحل التنظيم، وإعادة النظر في أجندتهم وخطابهم الجهادي». وكان هذا المنشور، وفق المقالة، عقب العملية الأمريكية التي من المفترض أنها أدت إلى قتل قائد القاعدة، أيمن الظواهري، ولأن خليفته المتوقع، سيف العادل يقيم في إيران، فذلك لن يكون لصالح التنظيم الذي يجب أن يحافظ على «صورته كحامي لأهل السنة». وفي هذا الصدد «أضاف أن الأمة الإسلامية بحاجة إلى التوحد ضد إيران التي تسيطر على عدة عواصم عربية إسلامية وتهدد أخرى». وحسب التقرير، فإنه «في ختام نصيحته، خاطب القحطاني فروع القاعدة الأخرى، ونصحهم بالنظر إلى رسالته بعناية وموضوعية وتنحية خلافاتهم معه جانباً، مؤكداً أن على قادة القاعدة التفكير في تغيير أجندتهم الجهادية للتركيز على محاربة إيران وليس دولاً أخرى».
من الجدير بالذكر هنا، أنه بعد مقتل الظواهري كان هناك عدد من المقالات التي نظرت إلى تداعيات ذلك على المجموعات الجهادية وبالأخص في سورية، والتي في معظمها تتركز اليوم في الشمال الغربي. ويمكن من خلال مراجعة بعض هذه المقالات ملاحظة بعض ما قيل حول النصرة في هذا السياق، بما في ذلك أنه بالرغم من أن معظم هذه المقالات ذكرت أن شخصيات قيادية، أو عالية المستوى في هيئة تحرير الشام نعت الظواهري، ولكن التنظيم ككل والجولاني كقائد للتنظيم لم يصدر عنهما تصريح حول الموضوع. ويمكن فهم هذا على أنه يترك مساحة لإثبات– عند اللزوم– أن التنظيم ككل وقائده لا يتبنيان عقيدة وفكر القاعدة.
كما تضمنت بعض المقالات إشارات إضافية إلى محاولات تبييض النصرة. على سبيل المثال: في 2 أب الوكالة الإعلامية «صوت أمريكا»– وهي وكالة حكومية ممولة من الحكومة الفيدرالية الأمريكية، وتُعتبر الإذاعة الرسمية في أمريكا– نشرت مقالة ركزت على تأثير مقتل الظواهري على المجموعات المرتبطة بالقاعدة في سورية، وفي هذا الصدد ذكرت المقالة أن هيئة تحرير الشام «كانت الفرع الرئيسي لتنظيم القاعدة في سورية حتى عام 2018 عندما قطعت رسمياً العلاقات مع الجماعة الإرهابية العالمية. وعلى الرغم من قطع مثل هذه العلاقات، يقول بعض الخبراء: إن الجماعة السورية المسلحة حافظت على إيديولوجيتها المستوحاة من القاعدة». ثم تذكر المقالة، أن «جماعات مسلحة أخرى متمركزة في إدلب، مثل: حراس الدين والحزب الإسلامي التركستاني في سورية، أعلنت الولاء لتنظيم القاعدة». ثم يذهب المقال ليذكر على لسان أحد «الخبراء» أن «الجيل الأصغر من القادة الملهمين من القاعدة لديه نهج مختلف عن نهج الجيل الأكبر سناً داخل الجماعة الإرهابية» وأن «نهجهم يركز على بناء الدعم المحلي لمجتمع قائم على مُثل يوافق عليها تنظيم القاعدة». ويضيف أنه «في سورية، تولى جيل الشباب زمام الأمور، وينصبّ التركيز في الجهاد هناك على بناء مجتمع مستدام قائم على المبادئ السلفية». وفي نهايته، يذكر المقال أن هيئة تحرير الشام قامت باعتقال قياديين في المجموعات الأصغر المذكورة آنفاً (حراس الدين والإسلامي التركستاني) والتي باتت مهمّشة، الأمر الذي لن يغيره مقتل الظواهري.
كما نشر «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» في 2 آب مقالة تحليلية حول تداعيات مقتل الظواهري على تنظيم القاعدة وفروعه. ويكتب المقال حول النصرة اليوم في سورية: «في النهاية، قوّض الجهاد السوري مكانة تنظيم «القاعدة» في المنطقة، مع تصاعد الانشقاقات من تنظيم «الدولة الإسلامية» وبدأت «هيئة تحرير الشام» بالتركيز بصورة أكثر على الحكم المحلي ومحاربة نظام الأسد وليس الجهاد العالمي. وعلى الرغم من أن القياديين البارزين في «هيئة تحرير الشام»، مثل أبو ماريا القحطاني وعبد الرحيم أتون، قد أبّنا الظواهري بعد ساعات من مقتله، إلا أن ذلك كان من منطلق احترامهما لزميلهما الجهادي في الخنادق، وليست إشارة إلى عودة «هيئة تحرير الشام» إلى تنظيم «القاعدة»».
أما الجولاني نفسه، فقد استمر في العمل على تلميع صورته من خلال أشياء، مثل: تغيير لباسه من اللباس «الجهادي» وإخفاء وجهه وهويته، إلى آخر ظهور له بلحية مشذبة ولباس مدني جداً وهو يتجول في معرض للكتاب، ومعرض للفن التشكيلي، وهو محاط بعدد كبير من الناس ويوقع دفتر الضيوف في المعرض. وقبل حوالي الشهر، نشر أحد «الخبراء» في الشأن السوري- شارلز ليستر البريطاني/ الأمريكي- تغريدة حول زيارة قام بها الجولاني إلى وجهاء مسيحيين في إدلب وأشار إلى أنه قام بزيارة مشابهة قبل فترة إلى وجهاء دروز في إدلب. وقال حول هذه الزيارات: إنها «رسائل واضحة– الأمر الذي لم يكن من الممكن تصوره قبل 4-3 سنوات».
الشهر الماضي، نشر «مركز ويلسون» تقريراً بعنوان «هيئة تحرير الشام: تطور جماعة جهادية». في التقرير يقول الكاتب «صنفت الولايات المتحدة هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية أجنبية في عام 2018. ومنذ ذلك الحين حاولت هيئة تحرير الشام تقديم صورة أكثر براغماتية، حيث تخلت عن الهدف العابر للحدود المتمثل في تصدير أيديولوجيتها، واعتمدت تركيزاً محلياً على استبدال نظام الأسد. اعتباراً من منتصف عام 2022، كان لهيئة تحرير الشام تفوق عسكري على الجماعات الجهادية الأخرى في إدلب. كما صمدت سنوات ضد الهجمات البرية للنظام، وكذلك الغارات الجوية الروسية».
وحول الجولاني، يستشهد التقرير بأقوال من عدة «خبراء»، حيث يقول أحدهم «هيئة تحرير الشام لديها ثلاث فصائل، من بينهم أولئك الذين يتمتعون بحس عالٍ من البراغماتية بقيادة الجولاني؛ فصيل ثان له مصلحة في هيمنة هيئة تحرير الشام؛ وفصيل أيديولوجي وهم أقلية تم تهميشها إلى حد كبير من قبل الجولاني وأنصاره». ووفق أحد «الخبراء» الآخرين فإن «الدائرة المقربة من الجولاني يغلب عليها الطابع السوري، مما يعكس جهوده لإعادة تشكيل المجموعة على أنها منظمة سورية محلية. نظراً لأن معظم العناصر المتشددة إما تركوا هيئة تحرير الشام أو قُتلوا، أو تم تهميشهم تماماً، فإن فصيل الجولاني يقود أجندة المجموعة».
ويواصل التقرير مناقشة هيئة تحرير الشام من كافة الجوانب، بما في ذلك التعليم، والاقتصاد، والحكم، وحتى الجانب العسكري، حيث يسلط الضوء في الشق الأخير على جهود هيئة تحرير الشام في محاربتها للجماعات المتطرفة، مشيراً أيضاً إلى أن التنظيم سلّم مقاتلين من داعش لتركيا، ويلمح التقرير كذلك إلى أنه كان للتنظيم دور في قتل البغدادي، حيث أنه من المفترض أنه قُتل في إدلب من خلال عملية أمريكية.
ملخص:
في مراحل سابقة، تركز عمل الأمريكان على المحافظة على النصرة لتبقى ورقة يمكن استخدامها عند الحاجة، وحسب ما سيكون مطلوباً وفق المستجدات، وبشكل خاص لضرب أي وقفٍ لإطلاق النار، ولرفع المسؤولية عن كل من يخرق وقف إطلاق النار عبر التلطي وراء النصرة الجاهزة للعب هذا الدور... وهذا كان يعني في وقت سابق التأكد من بقاء النصرة وحتى تقويتها مع القليل من التلميع، وفي الوقت ذاته إبقاءها على قائمة المنظمات المصنفة إرهابية.
بعد آخر قمة لثلاثي أستانا في طهران واتضاح توسع التوافق بين أطراف أستانا على عدة نقاط بات واضحاً بينها، وإنْ لم يكن معلناً بشكل حرفي: الاستمرار بالعمل للوصول إلى الحل السياسي في سورية، والمضي قدماً دون الغرب إن اقتضى الأمر ذلك. ومن جملة ما سيتم العمل عليه ضمن هذه المعادلة كخطوات ضرورية هو: كسر الجمود في العداء بين تركيا وسورية، ووضع جدول زمني للتخلص من كل من يعرقل الوصول إلى حل بما في ذلك إنهاء النصرة، وإخراج الأمريكي من سورية.
ضمن هذه الإحداثيات، أحد الأشياء التي ستحاول واشنطن العمل عليها، هو عزل الشمال الغربي عن سورية وعن تركيا، لتضمن ألا يكون الحل شاملاً، وتبقى هذه المنطقة بؤرة لضمان استمرار عدم الاستقرار في سورية والمنطقة ككل، ولتبقى نقطة عالقة وتخريبية في جدول أعمال أستانا، وهذا يمكن أن تقوم به أمريكا من خلال تقوية النصرة، وهذا سيكون «إيجابياً» للطرفين، حيث تستمر النصرة في حكم هذه المنطقة، وتخرج من حالة الاعتماد على تركيا، وفي الوقت ذاته تكون أداة للأمريكان في العمل ضد أستانا وضد الحل السياسي، وخصوصاً عبر العمل ضد أية احتمالات لتقارب سوري- تركي...
كذلك، فإنّ واشنطن عبر تلميع النصرة، ستعمل على استخدامها كأداة في عرقلة احتمالات تقليص النفوذ الأمريكي ضمن صفوف الائتلاف وأشباهه لمصلحة النفوذ التركي، وهو الأمر الذي بدأ فعلاً ويجري على قدم وساق...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1085