أبعاد «تسوية» سورية- تركية أكبر بكثير من 900 كم ... لماذا من مصلحتنا كسوريين الدفع نحو الوصول إلى «تسوية»؟

أبعاد «تسوية» سورية- تركية أكبر بكثير من 900 كم ... لماذا من مصلحتنا كسوريين الدفع نحو الوصول إلى «تسوية»؟

خلال الأشهر الماضية كان للحديث عن مصالحة سوريّة- تركية أو تسوية للعلاقات بين البلدين، حيّزٌ كبير على المستوى الإعلامي والسياسي. وقد غطّت قاسيون في عدد من المواد والافتتاحيات جوانب مختلفة من هذا الموضوع. في هذه المادة، ننظر بشكل مكثّف في أبرز النقاط التي طرحتها قاسيون حول أبعاد أية مصالحة سوريّة- تركية، بالإضافة إلى قراءة في الآثار المحتملة المترتبة عليها، والدور الذي يمكن أن تلعبه في إطار الحل العام للملف السوري بأبعاده المختلفة، وارتباطاً بالتطبيق الكامل للقرار 2254.

ردود الأفعال والتصريحات الرسمية حول الموضوع

كما هو متوقع، كان هنالك الكثير من التصريحات وردود الأفعال حول احتمالات تسوية سوريّة- تركية، ونكتفي هنا بردود الأفعال والتصريحات الرسمية من بعض الدول المعنية، وبعض الأطراف السوريّة. كما سنكتفي هنا بفترة زمنية محدودة لبضعة شهور ماضية، بالرغم من أنه كانت هنالك تصريحات ربما أقل وضوحاً خلال السنوات الماضية، عندما لم تكن بعد الظروف الإقليمية والدولية، وربما حتى المحلية، جاهزةً بما فيه الكفاية لطرح هذا الموضوع بالشكل الأوضح الذي رأيناه في الأشهر الأخيرة.
أحد أول التصريحات الواضحة حول الموضوع كان لوزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، خلال زيارة له إلى دمشق مطلع تموز الماضي، حيث قال: «إنّ إيران تتفهم المخاوف التركية، ولكنها تعارض أي عمل عسكري في سورية... نحاول حلّ سوء الفهم بين سورية وتركيا عبر الطرق الدبلوماسية والحوار».
كما كان للجانب الروسي عدد من التصريحات حول الموضوع خلال هذه الفترة، منها ما جاء في مؤتمر صحفي مشترك في آب الماضي بين وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ونظيره السوري، فيصل المقداد، في موسكو. آنذاك أشار لافروف إلى أن روسيا تعمل منذ انطلاق مسار أستانا على أن تكون العلاقات طبيعية بين سورية وتركيا، وقال حول أهمية دور ضامني أستانا أن «روسيا وتركيا وإيران هم الضامنون لهذه العملية. وسورية دولة مشاركة في شكل وفود موالية للحكومة ومعارضة. وممثلو دمشق وأنقرة يجتمعون على هامش الاجتماعات الدولية الخاصة بسورية... والعملية تهدف لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 وتنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها في صيغة أستانا»، إضافة لقوله بشكل صريح: إن روسيا «تسعى منذ سنوات» لحل مسألة العلاقات بين سورية وتركيا.
كما كان لوزير الخارجية الروسي تصريحات أخرى حول الموضوع في مؤتمر صحفي آخر له قبل عدة أيام، حيث قال: «رغم كل حساسية موقف دمشق من الوجود التركي، فإن هذا الوجود وإنشاء ثلاثية أستانا تم قبوله كانعكاس للواقع، وانعكاس لضرورة الانخراط في حوار عملي. وفي هذه الثلاثية تم تحقيق العديد من الاتفاقات في أطر مختلفة، بما فيها بين روسيا وتركيا بموافقة القيادة السورية... سنقوم بالعمل بكل قوة كي لا تحدث أية تطاولات على وحدة الأراضي السورية. هذا بالمناسبة هو موقف ثلاثي أستانا... وفي سياق هذا الفهم وهذه الاتفاقات نحن مهتمون بأنّه وعلى أساس اتفاقية أضنة، التي ما تزال سارية المفعول بين سورية وتركيا، أن يتمكن هذان البلدان من استئناف الحوار– وعلى ما يبدو أن الظروف قد نضجت بهذا الاتجاه– لحل قضايا محددة متعلقة بتوفير الأمن على الحدود، مع الأخذ بعين الاعتبار المخاوف الشرعية لتركيا، والتي كانت سورية ومنذ عهد حافظ الأسد قد اعترفت بها والآن أيضاً تعترف».
كما كان لدى الجانب التركي عدد من التصريحات حول الموضوع خلال الشهور الماضية، تصب تقريباً كلها في الاتجاه ذاته. بدأت هذه التصريحات بالظهور على الإعلام، ومن مصادر رسمية بشكل أوضح منذ شهر آب الماضي، عندما ورد في مقالة في صحيفة الأناضول التركية: أن وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، قال خلال مؤتمر صحفي عقده في 11 آب: إنه «أجرى محادثة قصيرة مع وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عقد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي». وأضاف تشاووش أوغلو: «أكدت أن السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة هو الحل السياسي، والقضاء على الإرهابيين دون أي تمييز بينهم، وتحقيق اتفاق بين النظام والمعارضة، وتركيا تدعم هذه الخطوات... علينا تحقيق اتفاق بين المعارضة والنظام في سورية بطريقة ما، وإلا فلن يكون هناك سلام دائم». وأضاف تشاووش أوغلو «الجانب الروسي أبدى رغبته منذ فترة طويلة في عقد لقاءات بين الجانبين التركي والسوري، والرئيس بوتين سعى للقاء بين أردوغان والأسد، لكن الرئيس أردوغان قال له: إن اللقاءات الجارية بين أجهزة الاستخبارات ستكون مفيدة... أجهزة الاستخبارات كانت تتواصل فيما بينها، والآن عاد هذا التواصل مجدداً بعد فترة من الانقطاع، وخلال هذه اللقاءات يتم تناول مواضيع مهمة».
لاحقاً، في شهر آب، ورد في مقالة أخرى في صحيفة الأناضول التركية على لسان الرئيس التركي قوله: «يتوجب علينا الإقدام على خطوات متقدمة مع سورية، يمكننا من خلالها إفساد العديد من المخططات في هذه المنطقة... لماذا نستضيف هذا العدد من اللاجئين، هل لكي نظل في حالة حرب باستمرار مع النظام (السوري)؟ لا، بل بسبب روابطنا مع الشعب السوري، ولاسيما من حيث قيم العقيدة، والمرحلة المقبلة ربما ستحمل الخير أكثر». وأضاف، أن الحوار السياسي أو الدبلوماسي لا يمكن التخلي عنهما تماماً بين الدول، و«يمكن أن تتم مثل هذه الحوارات في أي وقت ويجب أن تتم... يتوجب عدم قطع العلاقة حتى لو كانت بمستوى خيط رفيع، لأنها تلزم يوماً ما».
أما على ضفة الأطراف السورية، فمتشددو المعارضة والنظام، وكما هو معتاد، ورغم تناقضهما الظاهري، إلا أنّ مواقفهم من هذه المسألة كانت متشابهة في جوهرها؛ حيث كانت رافضة لاحتمالات أو مقترحات مصالحة سوريّة- تركية. من جهة، رفضت الأطراف المتشددة في المعارضة الموضوع رفضاً قاطعاً، معتبرة أن «فكرة المصالحة مع الأسد مرفوضة ومستحيلة التطبيق» وأن «الدعوة للمصالحة مع نظام الأسد تعني المصالحة مع أكبر إرهاب في المنطقة، وتُناقض كل القرارات الدولية التي صدرت بهذا الشأن». وفي الجهة الأخرى، كان لدى متشددي النظام موقفٌ أفضل ما يمكن أن يُقال عنه إنه معيق، وذلك حسب ما ظهر من تصريحات رسمية ومن طريقة تعاطي الإعلام الرسمي السوري وشبه الرسمي. وكذلك الأمر مع «مسد»، التي بالرغم من أن التوجه نحو حوار بين دمشق وأنقرة من المتوقع أن ينتج بشكل طبيعي تضاؤل أو حتى تلاشي فرص حصول عملية عسكرية تركية، إلا أن مواقف مسد كانت أيضاً ضد أية مصالحة سوريّة- تركية معتبرة أن «التطبيع التركي مع النظام السوري لن يجلب السلام، بل سيعمّق الأزمة».

ما هي أهم تداعيات تسوية سوريّة- تركية؟

ناقشت قاسيون، وبالأخص خلال الأشهر الماضية، أبعاد أيّة مصالحة بين دمشق وأنقرة، وسوف نراجعها هنا بشكل مكثّف، ونضيف إليها بعض التفاصيل الضرورية، وهو ما يمكن أن يسلط الضوء أيضاً على الآثار المحتملة المترتبة عليها، والدور الذي يمكن أن تلعبه في إطار الحل للخروج من الأزمة السورية، بما في ذلك الحل السياسي الشامل من خلال التطبيق الكامل للقرار 2254.

تقليل قدرة الأمريكي على التخريب:

إحراز أي تقدم في تحسين العلاقات السوريّة- التركية يعني بالضرورة تضييق هامش اللعب للأمريكي في سورية وفي الملف السوري، أي تسهيل إخراج الأمريكي من سورية سياسياً وعسكرياً، لأن ذلك سيغير الموازين السياسية وعلى الأرض، عبر تقليص التناقضات التي يلعب الأمريكي عليها لتمديد بقائه في سورية. ومن الجدير بالذكر هنا، أن التصريحات التركية حول الموضوع وبشكل عام باتت تتطرق وبشكل أكبر إلى الدور السلبي الذي تلعبه أمريكا في إعاقة الحل في سورية.

تقليص دور المجموعة المصغرة الغربية:

منذ أن تمت إضافة تركيا إلى المجموعة المصغرة الغربية، والتي باتت تشمل دولاً عربية أيضاً، فإنّ هذا أعطى الغرب القدرة على استغلال وجود تركيا في المجموعة المصغرة، وفي الوقت ذاته في مجموعة أستانا، لضمان ألا يكون هناك قدر كاف من التوافق مع تركيا، واستخدام ذلك مدخلاً للتدخل المستمر واستخدام الاستقطاب بين المجموعتين، لمنع أي تقدم في الحل السياسي. ما يمكن أن يقلص من قدرة المجموعة الغربية، حتى في شكلها الحالي، على التأثير في الملف السوري لدرجة تعطيل الحل، هو حصول تقاربات أكبر بين مجموعة أستانا والدول غير الغربية في المجموعة المصغرة. وهذا جارٍ إلى حد كبير، حيث إن العلاقات الروسية مع الدول العربية الأساسية هي في تحسن مستمر، كما أن هناك درجة من الحوار بين السعودية وإيران مدعومة بوساطة روسية وصينية، وملامح بدء تحسن العلاقات التركية مع بعض الدول العربية التي كانت قد انقطعت سابقاً، وكل هذا يمكن أن يصب في استبعاد المجموعة الغربية أو تقليل تأثيرها في الملف السوري، وتعطيل إحراز أي تقدم فيه. ولكن هذا الاستبعاد لا يمكن أن يصل إلى درجة متقدمة بحيث يبدأ المنحنى بالذهاب في الاتجاه الإيجابي دون تسوية سورية- تركية، تشكل حلقة وصل أساسية في البدء بالتقدم الإيجابي نحو الحل، من خلال تقليص هوامش التخريب للغرب وأمريكا.

1100-6

إنهاء التهديدات المستمرة بعمليات عسكرية في الشمال:

يعيش الشمال السوري حالة توتر مستمرة ناتجة عن الوجود الدائم للتهديدات بعمليات عسكرية تركية، ولذلك الأولوية هي منع اجتياح بري جديد، وضمان إزالة هذا التهديد المستمر. العمل باتجاه تسوية سوريّة- تركية يمكن أن تكون عاملاً أساسياً في تحقيق ذلك، حيث يمكن أن تتضمن التسوية تسليم الحدود لعناصر حرس حدود سوريين، وهذا يجب أن ترافقه جهود على المستوى السوري الداخلي في إطار الحوار بين القوى السورية، وتوزيع الأدوار فيما بينها، للوصول إلى غاية استعادة وحدة البلاد وسيادتها، بالتوازي مع حفظ كرامات الناس وإقرار حقوقهم.

زيادة فرص حل المشاكل في الشمال الغربي:

إنّ وقف إطلاق النار القائم على أساس تفاهمات أستانا ومناطق خفض التصعيد، قد أثبتت الأيام هشاشته وقابليته للانهيار في حال لم يتم حل الأمور العالقة التي يستخدمها البعض كذريعة لخرق وقف النار من فترة إلى أخرى، وبينها الأمور العالقة في الشمال الغربي، بما في ذلك عدم تحقق فتح الطريق الدولي M4 وإنهاء وجود جبهة النصرة حتى الآن. هذا قد يكون ضمن قائمة الأمور الأشد تعقيداً، ولكن أية تسوية بين دمشق وأنقرة سيكون لها بالتأكيد تأثير إيجابي على وضع الشمال الغربي، وسترفع إمكانية حل الموضوع بشكل كامل وبسرعة معقولة.

إنهاء التدويل الكارثي لملف الشمال الشرقي:

يستمر الاستثمار الغربي وبالأخص الأمريكي في القضية الكردية ليس في سورية، بل في المنطقة بأسرها، في كل البلاد التي يوجد فيها الكرد، ولطالما تم استخدام استمرار عدم حل القضية الكردية بشكل عادل كذريعة للتدخل الغربي والأمريكي، وتحويل القضية إلى نقطة صراع إقليمي ودولي، واستخدامها كلغم دائم يمكن استخدامه لزعزعة المنطقة متى شاء الغرب ذلك. في المقابل، فإن أية تسوية سوريّة- تركية، متوازية مع حوار وتفاهمات داخلية حقيقية، يمكن أن تنهي قدرة الغرب على استخدام هذا الملف، حيث يمكن أن تتغير طبيعة هذه المشكلة بشكل حقيقي لتأخذ بعدها الطبيعي كأحد أجزاء المشكلة الداخلية السورية، وعلى الطاولة ضمن مجموعة المشاكل التي يمكن ويجب حلها من خلال الحل السياسي. لذلك فإنّ تسوية سورية تركية يمكنها بهذا المعنى أن تقلص درجة التدويل الحاصل، ولكن فقط إذا جاءت بالتوازي مع البدء بحوار سوري- سوري حقيقي على أساس 2254.

كسر الحصار والبدء بمعالجة أهم المشاكل الاقتصادية:

بنظرة سريعة إلى دول الجوار وإمكانية الاعتماد عليها لكسر الحصار المفروض على سورية، يمكن الاستنتاج أن الحدود السورية- التركية تكاد تكون الوحيدة القادرة على تحقيق هذه المهمة. وكانت قد تطرقت قاسيون إلى هذا الموضوع سابقاً في افتتاحية قاسيون 1083. ما يجعل الحدود التركية الأكثر أهمية اليوم للعب هذا الدور عدة أمور منها: أن دول الجوار الأخرى غير قادرة على تأدية ذلك الدور. بدءاً من لبنان، حيث الوضع الاقتصادي كارثي ويخضع لبعض العقوبات ومهدد بعقوبات إضافية، والحدود اللبنانية- السورية لا يمكن الاعتماد عليها لكسر حصار بلد بحجم سورية؛ العراق كذلك يعاني من أوضاع أمنية وسياسية واقتصادية أقل ما يمكن القول عنها أنها كارثية، ناهيك عن أن التأثير الأمريكي هناك كاف لتقويض أية قدرة لكسر الحصار عبرها؛ أما الأردن، بالمعنى الاقتصادي وطول حدودها مع سورية وإنْ كان قد يجعلها قادرة جزئياً فقط على كسر الحصار، ولكن سياسياً وحتى عسكرياً خلال السنوات العشر الماضية وصولاً للمبادرات الأردنية (تطرقت قاسيون إلى بعضها هنا وهنا) وغيرها من الأدوار التي لعبتها وتلعبها الأردن، فهي حكماً تدور في الفلك الغربي، لذلك لا يمكن أن تكون باباً لكسر الحصار على سورية. لذلك تبقى الحدود السورية- التركية والتي تمتد لأكثر من 900 كم، الباب الأساسي نظرياً لكسر الحصار، بما في ذلك كسر حصار المحروقات وحل أزمة الكهرباء، حيث حتى إذا كان هناك جهة تريد مدّ سورية بالمحروقات وعلى افتراض أنه لا يوجد فساد، فالطرق البحرية وفي ظل حجم التوتر الدولي القائم هي طرق شديدة التعقيد وذات تكلفة عالية، ما يجعلها غير قادرة على تلبية الاحتياجات، ولكن حدوداً برية بحجم الحدود مع تركيا والتي هي الأخرى لديها وصول أفضل مع دول، مثل: روسيا وإيران والصين والهند، تشكل المنفذ الوحيد العملي لكسر الحصار، وبالأخص المحروقات والغاز والكهرباء، ما يمكن أن يكون نقطة بداية لإعادة نفخ بعض الحياة في الاقتصاد المتهالك.

1100-5

البدء بحل موضوع اللاجئين:

وفق الإحصاءات الرسمية للأمم المتحدة، هناك ما يقارب 6,8 مليون لاجئ سوري في العالم، أكثر من نصفهم– 3,57 مليون– في تركيا. وبالتالي نظرياً على الأقل، فإنّ نصف أزمة اللاجئين يمكن تقريب حلها بشكل فعلي عبر تسوية سوريّة- تركية، والتي يمكن أن تجري بالتوازي مع السير في الحل، ما يعني التمهيد لحل الجزء الأكبر من موضوع اللاجئين. والحقيقة، أنّ الوزن النسبي لتركيا في موضوع اللاجئين هو أكبر حتى من النصف، لأنّ احتمالية عودة اللاجئين في دول الجوار بشكل أسرع أعلى بكثير من احتمالية عودتهم من أطراف العالم الأخرى، وعودة هذا العدد الكبير من تركيا، أو جزء مهم منه، يعني أيضاً فرصة لحل مشكلة التجريف البشري الهائل بالكوادر والكفاءات في سورية، والتي لا يمكن دون حلها الحديث عن أية إعادة إعمار أو أية إمكانية حقيقية لعودة سورية للحياة.

وضع أساسات صلبة لاقتصاد المرحلة التالية:

الاقتصاد السوري سيحتاج بكل تأكيد إلى وقت غير قصير للتعافي الحقيقي، ولكن في المرحلة المباشرة ما بعد الأزمة، أي ما يتعلق بالتعافي المبكر وإعادة الإعمار، يجب وضع أساساته بشكل صحيح لأن ذلك ستكون له تداعيات مهمة خلال فترة ما بعد الأزمة ولاحقاً. التعافي المبكر وهو مرتبط بالجهود الهادفة لتقليل تأثيرات الأزمة بالمعنى الإنساني إلى حين الوصول إلى حل نهائي لها، وإعادة الإعمار والتي ستكون فعلياً التجسيد للنموذج الاقتصادي الاجتماعي في سورية ما بعد الحل. هنا يجب أخذ التجارب التاريخية بعين الاعتبار، والتي أثبتت أن كل تجارب إعادة الإعمار التي كانت مرتبطة بالغرب– بشكل أساسي، من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي– كانت فاشلة، وعملياً لم تكن هنالك إعادة إعمار، بل إنها فتحت المجال لتكوين بنية سياسية ناهبة ومرتبطة بالغرب سياسياً واقتصادياً، نتج عنها بلدان لديها ديون غير قابلة للسداد، ولذلك خاضعة وتابعة سياسياً واقتصادياً للغرب، وتحولت عمليات إعادة الإعمار الفاشلة إلى أساس لانفجارات أسوأ من الانفجارات الأولى التي أدخلتها أساساً في أزماتها (يمكن تنزيل الملف الكامل هنا لدراسة في قاسيون حول تجارب مختلفة لإعادة الإعمار). لذلك التفكير بالنموذج والمنطق السياسي والاقتصادي للتعافي المبكر وإعادة الإعمار في سورية، هو مسألة مفتاحية ليس فقط في إيقاف الأزمة وإعادة الإعمار، ولكن لمنع زرع الألغام القابلة للانفجار لاحقاً. من هذا المنطلق، فإن الخيار الغربي ليس صائباً، وإنما ما يمكن أن يكون الأفضل لسورية ضمن التوازن الدولي اليوم هو التوجه شرقاً، حيث ينبغي أخذ الأمور بحركتها ووضعها اللاحق والتي تشير إلى أن منظومات صاعدة، مثل: بريكس وشانغهاي، ضمن نظام مالي عالمي جديد ونظام سياسي عالمي جديد سيسمح لدول مثل سورية، ومن خلال استثمار هذه الفرصة التاريخية لإنهاء التبعية الاقتصادية للغرب، والنهوض بالبنية التحتية في البلد، للوصول إلى استقلال حقيقي اقتصادي وبالتالي سياسي. هذا بالطبع يعني ضمناً فك الارتباط بعملات، مثل: الدولار واليورو، وإنهاء التبعية لها، وبالتالي تتحول عقوبات الغرب إلى أدوات لعزله هو بدل أن يكون العكس. بكلام آخر وفي سياق الموضوع الأساسي، يمكن أن تكون تسوية العلاقات السوريّة- التركية بالمعنى السياسي، وبالتالي الاقتصادي، قناةً تسمح لسورية أن تنخرط في عملية الاستفادة الفعلية من الوضع الدولي الجديد الذي يتكون، ومن المهم هنا التذكير، أن تركيا لها دور مهم في هذا السياق، إذ ليس مصادفة تحولها إلى مركز إقليمي ولحد كبير دولي في توزيع الغاز، والذي يربطه البعض بتداعيات أوكرانيا، ولكن الحقيقة أن حصوله بالشكل الذي يحصل فيه الآن، يبدو كما لو كان جزءاً عضوياً من المشروع الأوراسي الأوسع، وأزمة أوكرانيا لم تفعل سوى أنها سرعت حدوثه...

فرص أفضل لحل مشكلة المياه:

إحدى أكبر المشاكل التي تواجهها سورية مع تركيا، تاريخياً، ولكن بدرجة أعلى خلال السنوات الماضية، مرتبطة بموضوع السدود على نهري الفرات ودجلة، وخلال سنوات الأزمة، سمح الوضع لتركيا بالعمل باتجاه تأزيم موضوع المياه بشكل أكبر، وباتجاه سرقة وقحة لحقوق سورية المائية. من الطبيعي أن أية تسوية سياسية بين دمشق وأنقرة تعني: أن هناك فرصة أفضل بكثير للاستناد إلى الاتفاقات التاريخية بين البلدين، والاتفاقات الدولية، ليعود الوضع طبيعياً فيما يخص سورية كدولة مرور لهذين النهرين. ومن الطبيعي عندما تكون هنالك تناقضات بين الدول في قضايا من هذا النوع، فالحل يكون إما بالحرب أو بالتفاوض والحوار، وبشكل عام، ولكن بالتحديد في الوضع السوري اليوم، فإن الحرب خيار غير عملي وغير منطقي فيما يتعلق بهذه المشكلة، ولدينا كسوريين فرصة مهمة عبر تقاطع مصالح واسع مع دول لها مصلحة في إنهاء التوترات في منطقتنا (بالذات لأنها جزء حيوي من مشروعها العالمي- طريق الحرير والأوراسي) أنْ نمتلك أوراقاً قوية في التفاوض مع تركيا حول حقوقنا المائية، دون حرب.

التسوية وليس التطبيع:

أي تسوية سوريّة- تركية في إطار جهود أستانا ستهدف بالضرورة إلى إنهاء إحداثيات التدمير، وبما يصب في حل سياسي لا يقوم على نزع شرعية أي طرف من الأطراف السورية الأساسية، سواء من النظام أو المعارضة، بل الاعتراف بها، ما يعني اعترافها ببعضها وجلوسها إلى طاولة المفاوضات المباشرة التي لا تخضع للضغوطات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، أي لا تخضع للابتزاز الغربي، ما يعزز ويسرّع الوصول إلى التطبيق الكامل للقرار 2254. هذا بالضرورة يعني: العمل بالضد من المشاريع الغربية/ الصهيونية، التي تستخدم هي نفسها شعارات (خطوة مقابل خطوة) و(التطبيع) ولكن في إطار معاكس تماماً (يمكن هنا العودة إلى مادة نشرتها قاسيون بعنوان: تطبيع العلاقات مع سورية: شعار واحد ومضمونان متناقضان).

التهيئة لمشروع يخدم سورية والمنطقة ويضمن الاستقرار:

المنطقة ككل، يتصارع فيها مشروعان بشكل واضح وعلني على الأقل بما يخص خطوط الطاقة ووضع المياه. المشروع الأول: هو مشروع غربي، وأوضح وأوقح تعبير عنه هو المشروع الصهيوني الذي عبّر عنه بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» والذي وفقه يتم تحويل «إسرائيل» إلى مركز في المنطقة على كافة المستويات، الاقتصادية والتنموية والطاقية وحتى الثقافية، ما يدفع إلى ربط كل دول المنطقة بالكيان. وكان إحدى تجليات أو محاولات إحداثه من خلال خط الغاز العربي (ناقش مركز دراسات قاسيون مطولاً هذا الملف وعالجه من زوايا عديدة، ويمكن تنزيل الملف الكامل عبر الرابط). بالمقابل، هناك مشروع آخر، وهو المشروع الأوراسي- الحزام والطريق، والذي من صالحه أن تكون هذه المنطقة مستقرة سياسياً لتكون قادرة على أن تكون جزءاً أساسياً للوصل بين آسيا وأوروبا، الأمر الذي يتطلب إمدادات طاقة ثابتة مستقرة، وخطوط مواصلات متطورة وحديثة، بطاقة عالية وبنية تحتية متطورة في مختلف المجالات، وليس من محض الصدفة كما أشرنا أعلاه أن تتحول تركيا لمركز توزيع الغاز الروسي، لأن تواجد مركز توزيع غاز في مكان مثل تركيا مع تطور طبيعة العلاقات وتطور الاستدارة التركية هو تطور طبيعي بالنسبة للصين والهند وروسيا. بالنظر إلى هذين المشروعين، يمكن رؤية أن مصلحة الشعب السوري، ليست بطبيعة الحال مع «إسرائيل» والمشروع المرتبط بها، بل مع المشروع الآخر الذي يهدف إلى تحقيق استقرار سياسي، ما يعني استقراراً واستقلالاً اقتصادياً... الانخراط في هذا المشروع يتطلب بالضرورة حدوث تسوية سوريّة- تركية.

خلاصة:

نتيجة كل ما سبق، يمكن الاستنتاج أنه من الواضح أن تسوية بين سورية وتركيا، باتت ضرورية للدفع الفعلي باتجاه إنهاء الكارثة السورية والبدء الحقيقي بالحل السياسي الشامل وفق القرار 2254، وذلك لأن هذه التسوية:
تقلّص إلى حد كبير من إمكانيات المجموعة المصغرة الغربية في إعاقة الحل السياسي السوري.
تقلّص قدرة الغرب وبالأخص أمريكا على التأثير التدميري على سورية من خلال العقوبات الاقتصادية والحصار الاقتصادي.
تقلّل إمكانيات التخريب الأمني والعسكري عبر ملفات الشمال الغربي والشمال الشرقي.
تسمح باستكمال تهيئة الحاضن الإقليمي والدولي المناسب وصاحب المصلحة بتحقيق الحل في سورية، أي أستانا والصين والهند والدول العربية الأساسية.
تفتح الباب أمام بناء نموذج اقتصادي جديد في سورية يتميز بإنهاء التبعية الاقتصادية، وبالتالي السياسية، وتطوير القاعدة المادية الحقيقية للنمو الحقيقي اللاحق.

 

روابط ذات صلة

«حول «سوء الفهم» بين سورية وتركيا؟!»، 3 تموز 2022
«افتتاحية قاسيون 1080: قمتا طهران وجدة وولادة عالم جديد!»، 24 تموز 2022
«افتتاحية قاسيون 1083: سورية تركيا إلى أين؟»، 14 آب 2022
«حول تصريحات وزير الخارجية التركي»، 14 آب 2022
«ما الذي ستعنيه عودة العلاقات السورية-التركية؟ وبأي شكل وعلى أي أسس ستعود؟»، 21 آب 2022
«ما هو موقع الشمال الشرقي السوري ضمن التقارب السوري-التركي المحتمل؟»، 22 آب 2022
«ماذا قال لافروف اليوم عن المساعي الروسية بخصوص العلاقات السورية-التركية؟»، 23 آب 2022
«ما هو السبيل لطرد الأمريكان من سورية، بأسرع وقت، وبأقل الخسائر؟»، 27 آب 2022
««تطبيع العلاقات مع سورية»: شعار واحد ومضمونان متناقضان»، 5 أيلول 2022
«افتتاحية قاسيون 1087: ظروف الحل تنضج...»، 11 أيلول 2022
««الاهتمام الأمريكي» بسورية... نذير شؤم، ولكن بشارة أيضاً!»، 3 تشرين الأول 2022
«خمسة مشاريع «أمريكية-صهيونية» في منطقتنا... العصا عصا... والجزرة أيضاً عصا!»، 9 تشرين الأول 2022
«افتتاحية قاسيون 1093: نزع فتيل أي انفجار محتمل!»، 23 تشرين الأول 2022
«افتتاحية قاسيون 1097: حان «وقت الحل»!»، 20 تشرين الثاني 2022
«أين وصل حلّ «سوء الفهم» السوري-التركي؟ وما تأثير تفجير إسطنبول وغارات تركيا؟»، 20 تشرين الثاني 2022
«أبرز ما جاء في بيان ثلاثي «أستانا» للدول الضامنة لتسوية الأزمة السورية»، 23 تشرين الثاني 2022
«افتتاحية قاسيون 1098: منع العدوان مسؤولية السوريين!»، 27 تشرين الثاني 2022
«ما هو المطلوب لمنع اجتياح عسكري تركي جديد؟»، 27 تشرين الثاني 2022
«افتتاحية قاسيون 1099: ماذا يريد السوريون؟»، 4 كانون الأول 2022
«النص الأصلي لتصريحات لافروف يوم أمس»، 8 كانون الأول 2022

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1100
آخر تعديل على الأربعاء, 21 كانون1/ديسمبر 2022 18:21