إرث الاستقواء بالسلطة في القاعات الامتحانية… بين الأمس واليوم
ليست ظاهرة جديدة أن تتحول القاعات الامتحانية في الجامعات إلى ساحة استعراض نفوذ، لكنها تبقى ظاهرة مستهجنة ومرفوضة بكل المقاييس. ففي زمن النظام البائد كان بعض الطلاب يتكئون على علاقاتهم الأمنية، يستعرضون سلطتهم داخل القاعات، ويمارسون الترهيب ضد المراقبين من أجل تمرير الغش وتجاوز التعليمات، إلى حد حمل الجوالات بل وحتى إدخال الأسلحة الفردية –المسدسات غالباً– إلى القاعات الامتحانية. كان الامتحان بالنسبة لهم مناسبة لإظهار السطوة لا لاختبار المعرفة.
سقط النظام ومعه جزء كبير من مظاهر استقواء الأمن وأجهزته، لكن للأسف لم يسقط "الإرث" الذي خلّفه. فما زالت هذه الممارسات تجد لنفسها طريقاً، وإن بلبوس جديد وبشعارات مختلفة.
فاليوم، ينقل بعض المراقبين في جامعة حلب –من طلاب الدراسات العليا المكلفين بالرقابة– أنّهم يواجهون حالات مشابهة من الترهيب، ولكن تحت ذرائع جديدة: الانتماء للفصائل، أو التلويح بالمشاركة في الثورة، أو الادّعاء بالتضحيات التي أوجبت الانقطاع عن الدراسة لسنوات.
بهذا المنطق، يحاول بعض الطلاب تبرير مخالفة الضوابط، سواء بإدخال الهواتف أو الاعتراض على التعليمات أو حتى التعدي لفظياً وسلوكياً على المراقبين. والمشكلة ليست في "الذرائع" بل في تحويل الانتماء الوطني أو الثوري إلى أداة استقواء بدلاً من أن يكون قيمة أخلاقية ومعرفية تدفع نحو الالتزام والانضباط.
وفي مواجهة هذه الظواهر، أحسن مجلس جامعة حلب صُنعاً حين أصدر توصية تتضمن تشديد العقوبات الامتحانية على المخالفات الكبرى مثل: استخدام جهاز خليوي موصول بسماعات، التزوير، انتحال الشخصية، والتعدي المادي على المراقبين والمكلفين بالإشراف على سير العملية الامتحانية. وقد نصّت التوصية على معاقبة الطلاب المخالفين بالفصل النهائي من الجامعة ومنع عودتهم إليها مستقبلاً.
ولا شك أنّ العقوبة في هذه الحالات ضرورة لحماية قدسية الامتحان وصون العملية التعليمية من العبث والفوضى. غير أنّ الملاحظة الواجبة هنا أنّ العقوبات كان يمكن أن تكون أكثر تسلسلاً وتدرجاً، مع التمييز بين المخالفات بحسب خطورتها. فالتعدي المادي على المراقبين أو انتحال الشخصية جريمة لا تقل عن الجريمة الأخلاقية والقانونية، بينما حيازة جهاز خليوي –وإن كانت مخالفة صريحة– قد لا ترقى في خطورتها إلى مستوى العقوبة النهائية. وهنا يبرز السؤال: هل العقوبة الموحّدة قد تؤدي إلى ردع حقيقي أم أنها قد تفتح الباب أمام شعور بالظلم لدى بعض الطلاب وتالياً إلى التفلت أكثر؟
إنّ ما يجري اليوم في بعض القاعات الامتحانية يعكس خللاً مزدوجاً: خللاً في الثقافة العامة التي ما زالت تسمح بتمجيد النفوذ فوق القانون، وخللاً في آليات المؤسسات الجامعية التي لم تضع بعد الضوابط الكفيلة بحماية العملية الامتحانية من كل أشكال الترهيب والتشبيح.
لا يمكن لمؤسسة تعليمية أن تنهض وتؤدي رسالتها ما لم تُصن حرمة الامتحان. فالقاعات الامتحانية يجب أن تبقى المكان الأشد قدسية، حيث لا يُسمح إلا لصوت القلم والعقل أن يعلو. أما أن تتحول هذه القاعات إلى ساحة نفوذ موازية، فذلك يفرغ التعليم من مضمونه، ويجعل الشهادة الجامعية ورقة بلا قيمة، ويكرّس الذهنية نفسها التي ثار عليها السوريون أساساً.
المطلوب اليوم موقف حازم ومركزي من وزارة التعليم العالي والجامعات والإدارات التعليمية: لا استثناءات، ولا ذرائع، ولا غطاء لفوضى باسم الثورة أو باسم أي جهة كانت. لكن في الوقت ذاته لا بد من عدالة متوازنة تراعي حجم المخالفة وتفرض عقوبة متناسبة معها، لتظل الجامعات مكاناً للعلم والمعرفة، لا ساحة لاستعراض النفوذ.