انتقد «السيد الأبيض» العقوبات؟ ... إذاً علينا نحن أيضاً أن ننتقدها!
تحركت خلال الأشهر القليلة الماضية، مياهٌ راكدةٌ في أوساط المعارضة، ومنظمات المجتمع المدني بما يخص موضوع العقوبات المفروضة على سورية، فعقدت ورشات ولقاءات هنا وهناك لمناقشة العقوبات وآثارها السلبية على الشعب السوري و«ضرورة إصلاحها»... وذلك بعد سنوات متواصلة من تحريم أي حديث ضد العقوبات، بل واتهام أي شخص أو مجموعة أو حزب أو توجه سياسي ينتقد العقوبات (ولا نقول يرفضها)، بـ«الخيانة»، وبالعمل لمصلحة النظام... وفجأةً، ينفتح الباب نحو «النقاش الموضوعي الهادئ» الذي يتناول آثار تلك العقوبات على الشعب السوري نفسه، ويسعى لإيجاد السبل لتقليل تلك الآثار عبر المطالبة بـ«تصويب وتصحيح» تلك العقوبات... طبعاً، ما يزال الحديث عن «رفع العقوبات»، ضمن خانة «الكلام الصفري المضر»، ولكن خطوةً ما قد تحققت برفع «التحريم» عن انتقاد العقوبات...
بعض الأشخاص والجهات والأطراف السياسية التي تحمل اليوم لواء «إصلاح العقوبات»، وخاصة ضمن القسم من المعارضة السورية المدعومة غربياً، هي ذاتها من جردت طوال سنوات عديدة سابقة- وحتى وقتٍ قريب- سيوف التكفير والتخوين ضد كل من ينتقد عقوبات السيد الأمريكي والسيد الأوروبي... ولذا، من الصعب تفسير «انعطافتها» هذه على أنها صحوة ضميرٍ مفاجئة، أو استنارةٌ معرفيةٌ أضاءت بشكلٍ غير متوقع عقول أنصار العقوبات، وجعلتهم يدركون أن هذه العقوبات تساهم مساهمة فعالة في قتل السوريين وتعظيم عذاباتهم.
لكي يكون المرء منصفاً، لا بد من القول: إن عدداً محدوداً من الأشخاص، وخاصة الأكاديميين منهم، إضافة إلى بعض الجهات السياسية، كانت لها مواقف منتقدة للعقوبات منذ وقت طويل، وقامت بدراسات جدية حول تأثيراتها، وتدرج انتقادها من المطالبة بـ«توجيهها بشكل أفضل» أي ضمن حدود «إصلاحها»، وصولاً إلى المطالبة برفعها. ولكن هذا الجو كان مطوقاً إعلامياً بشكلٍ مستمر، وعرضة لهجوم متواصل...
بضع كلمات حول العقوبات ورفضها
قبل محاولة تبيان السياق الذي «ينعطف» ضمنه مناصرو العقوبات السابقون إلى منتقدين لها، من المفيد أن نعيد التذكير هنا، وبشكلٍ مكثفٍ جداً، بأهم الحجج التي دفعت «الإرادة الشعبية» لاتخاذ موقفٍ رافض للعقوبات الغربية جملة وتفصيلاً، ومطالباً برفعها (سنضع في نهاية هذه المادة مجموعة من الروابط لمواد تم نشرها في قاسيون سابقاً حول موضوع العقوبات، تشكل بمجموعها مرجعاً مفيداً لتحديد موقف واضح من العقوبات):
أولاً: العقوبات المفروضة على سورية من وجهة نظر القانون الدولي هي عقوبات أحادية الجانب من خارج الأمم المتحدة، ومن خارج مجلس الأمن الدولي، وهي بهذا المعنى غير شرعية وغير قانونية.
ثانياً: دراسة برامج العقوبات الأمريكية والأوروبية المختلفة، عبر ما يصل إلى 60 عاماً مضت، ابتداءً ببرامج العقوبات على كوبا (وهي برامج العقوبات الأطول في التاريخ الحديث)، تثبت أن العقوبات لم تسقط أي نظامٍ من الأنظمة، ولم تغير أي نظامٍ من الأنظمة... ولذا فإن الهدف المعلن من العقوبات هو هدف كاذب، وهنالك أهداف أخرى مختلفة كلياً عما يجري الإعلان عنه، ويجب البحث عنها وتحديدها...
ثالثاً: دراسة برامج العقوبات الأمريكية على دول عديدة بينها العراق والسودان وغيرهما، تثبت أنه حتى بعد أن يتغير نظام من الأنظمة (بفعل الحرب وليس العقوبات، أو لأي سبب آخر)، فإن العقوبات لا يتم رفعها بالضرورة... (العقوبات على العراق التي قيل إنها عقوبات على «نظام صدام حسين» ما يزال جزء منها مستمراً حتى اللحظة، أي بعد 21 سنة من سقوط صدام حسين واحتلال العراق، مثلاً: العقوبات على النفط، التي تجبر كل شارٍ للنفط العراقي أن يحول الثمن للفيدرالي الأمريكي، الذي يتحكم بدوره بتلك الأموال ويحولها بالقطارة، ووفقاً لما يخدم سياساته للعراق!)... في المثال السوداني: لم يتم رفع العقوبات «على نظام البشير» رغم مرور سنوات عديدة على رحيله، إلا حين حقق المجلس العسكري الحاكم الشرط الأمريكي بالمضي باتجاه التطبيع مع الكيان... ومن يقرأ بإمعان قانون قيصر الأمريكي، ليس من الصعب عليه أن يجد بين شروط وقف تنفيذه، ضمان سلامة «دول الجوار»، وفي القاموس الأمريكي فإن «دولة» واحدة لا غير- حين الحديث عن جوار سورية- هي من تجاور سورية، وهي «إسرائيل»...
رابعاً: الدراسة العملية لتأثير العقوبات على الشخصيات التي يقول الأمريكان والأوروبيون: إنها تستهدفهم، تؤكد أن هؤلاء لم يتأثروا تقريباً، وإنْ تأثر بعضهم فأولئك هم في معظم الحالات مجرد واجهاتٍ قابلة للتبديل، لمراكز الثقل المالي والسياسي.
خامساً: أكثر من ذلك، فإن العقوبات نفسها قد تحولت إلى باب واسع للسمسرة وتعظيم عمليات النهب من الشعب السوري عبر التذرع بالعقوبات، بما يخدم عمليات الفساد الكبير ويضخمها.
سادساً: بالمعنى السياسي-الاقتصادي، قدمت العقوبات ذريعة إضافية لتسريع التحولات النيوليبرالية ضمن منظومة جهاز الدولة في سورية وعلاقته بالمجتمع، باتجاه إنهاء أي دور اجتماعي للدولة.
سابعاً: أدت العقوبات إلى تسريع عمليات تحولٍ بنيوية شديدة الخطورة في هيكلية الاقتصاد السوري وطبيعته، باتجاه تنمية الجوانب الإجرامية والسوداء... أي أن الاقتصاد بأكمله تقريباً قد تحول إلى اقتصاد ظل، وضمن اقتصاد الظل هذا بات جزء معتبر اقتصاداً أسود تماماً...
ثامناً: الآثار المباشرة على حياة السوريين ابتداء من مساهمة العقوبات بانهيار سعر الصرف، ومروراً بارتفاعات الأسعار، وتراجع الصناعة والزراعة والصحة والتعليم وإلخ... (وربما من الضروري دائماً أن يشير المرء إلى أن هذه النتائج هي الثمرة السامة لكل من العقوبات والسياسات الحكومية النيوليبرالية والفساد الكبير المهيمن والمتنفذ في سورية، وهؤلاء شركاء مكتملو الشراكة مع العقوبات في نهب الشعب السوري وتدمير اقتصاده، وهذا لا ينتقص من إجرامية العقوبات بأي حال من الأحوال، ولا ينبغي الوقوع في لعبة تراشق الاتهامات بين من هو المسؤول، هل العقوبات أم النظام القائم؟ كلاهما معاً، وموضوع تحديد النسب الدقيقة للمسؤولية يصبح نافلةً يمكن للدراسات المتخصصة أن تقول كلمتها فيها).
تاسعاً: كل حديث عن أن العقوبات لا تستهدف الغذاء والدواء هو حديث كاذبٌ عملياً، لأن الشركات المختلفة حول العالم، بما في ذلك البنوك ومنظمات المجتمع المدني الكبرى، باتت محجمة عن أي تعامل مع سورية خوفاً من العقوبات، لأن تلك العقوبات وخاصة قيصر تستهدف الأطراف الثالثة ضمن أي عملية اقتصادية تكون سورية طرفاً فيها (وسورية هنا ليست النظام بالضرورة، يكفي أن تكون جنسيتك سورية حتى يصبح توقيع عقد معك من أي شركة في العالم أمراً شديد الصعوبة)... لأن هذه العقوبات، وخاصة الأمريكية، تعمل ضمن مبدأ فريدٍ من نوعه، هو أن البريء متهمٌ ومدانٌ حتى يثبت العكس!
لماذا الآن؟
بالعودة إلى الحدث الآني، أي إلى «استفاقة» البعض المفاجئة لنقاش مسألة العقوبات وتأثيراتها، يمكن قول التالي:
ضمن مشروع «خطوة مقابل خطوة»، و«تغيير سلوك النظام» بوصفه الاستهداف المعلن من مجمل الخطوات الغربية من فوق ومن تحت الطاولة، وفي ظل التحركات الأوروبية المتسارعة مؤخراً ضمن ما يسمى «التطبيع مع النظام»، (وهذا كله يجري بإدارة أمريكية في نهاية المطاف)، فإنه قد اقترب الوقت الذي يتم فيه تغيير شدة العقوبات ونوعيتها، ولا نقول رفعها، ولذا فإن الممولين الأوروبيين، ولتسهيل الانعطافة السياسية على حكوماتهم، ولتهيئة الجو المناسب لها، بما في ذلك بين السوريين، قد بدأوا بالدفع نحو «إعادة النظر في العقوبات وتأثيراتها»، بحيث تعلو الأصوات المطالبة بـ«إصلاح العقوبات»...
هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال أن رفع العقوبات قريب، بل هو على الأغلب ما يزال بعيداً... ولكنه يعني: أن بعض النخب قد حولت نفسها إلى عجينة طيعة بيد الممولين، تحدد أجندتها ومهامها انطلاقاً مما يقوله الممول...
يمكن أن نضيف إلى ذلك جملة من العوامل بينها:
أولاً: تتجه الدول الغربية عموماً إلى إعادة النظر بسياسة العقوبات التي اتضح أنها تضعف أولئك الذين يفرضون العقوبات أيضاً، (ربما من المهم في هذا السياق الاستماع إلى ما يقوله ترامب حول هذا الموضوع، والذي وصل حد اعتبار الإفراط في استخدام العقوبات أداة في قتل الدولار ومكانته العالمية، والذي إن تم ضربه، والكلام لترامب، فإن الولايات المتحدة ستتحول إلى دولة عالم ثالث)... ليس المقصود هنا بطبيعة الحال العقوبات على سورية، فهذه العقوبات وتأثيراتها ليست ذات وزن مؤثر في الساحة العالمية، ولكن بالدرجة الأولى المقصود العقوبات على روسيا والصين.
ثانياً: أثبتت استطلاعات رأي ميدانية في مناطق متعددة في سورية، أن أغلبية مطلقة من السوريين ترى أن العقوبات تضر بها بشكل مباشر، ولم يقتصر هذا الرأي على مناطق سيطرة النظام، بل امتد إلى المناطق السورية كلها دون استثناء، وإنْ اختلفت النسب قليلاً بين منطقة وأخرى، لكن في المناطق كلها كانت هنالك أغلبية مطلقة متفقة على أن العقوبات أضرت بها.
ثالثاً: هنالك تحولات واضحة في مواقف عدد من الدول الإقليمية بما يخص الملف السوري عموماً، ومسألة العقوبات ضمناً. على الخصوص هنالك تحول تدريجي في الموقف التركي، والذي من المعروف أنه يؤثر على مجموعات معينة من المعارضة السورية ومنظمات المجتمع المدني بأشكال مباشرة أو غير مباشرة، وأن جزءاً من المعارضة، وإنْ كان غربي الهوى، إلا أنه يضطر لمسايرة الاتجاه العام التركي من باب التقية السياسية. بين مؤشرات تحول الموقف التركي من العقوبات مثلاً: بيانات اجتماعات أستانا الأخيرة، التي بات بند رفض العقوبات الغربية الأحادية على سورية بنداً ثابتاً فيها. يضاف إلى ذلك مواقف بعض الدول العربية من العقوبات وخاصة السعودية، وإنْ بأشكال غير معلنة في معظم الأحيان...
بالأحوال كلها، فمن المؤسف حقاً، وإنْ كان غير مفاجئ نهائياً، أن نرى «نخباً» سورية، تحدد خطابها وسياساتها ليس انطلاقاً من مصالح الشعب السوري، بل انطلاقاً من تحولات المواقف والأمزجة الدولية وخاصة أمزجة الممولين...
مراجع:
نسرد هنا عناوين مجموعة من المقالات والدراسات التي قامت بها قاسيون حول موضوع العقوبات بأبعاده المختلفة، مع إرفاق كل عنوان بتاريخ نشر المادة ورابطها:
بعد العقوبات على النفط السوري.. فلنؤمم شركات النفط!! (7 أيلول 2011).
ارتفاع الأصوات المطالبة بإعادة تأميم النفط السوري.. بدل تصديره خاماً لتهدده العقوبات.. لنستثمر نفطنا وطنياً (13 أيلول 2011).
العقوبات فرصة أخيرة لإعادة الاعتبار للإنتاج الوطني.. فهل سنحسن استغلالها؟! (20 كانون الأول 2011).
كيف تتجاوز سورية مأزق العقوبات الاقتصادية الحالية؟! (20 كانون الأول 2011).
العقوبات الاقتصادية ما بين الفرصة والأزمة البنيوية (7 أيلول 2012).
دراسة آثار العقوبات ووضع البدائل ضرورة تجاهلتها الحكومات المتعاقبة ووزاراتها! (7 أيلول 2012).
العين بالعين (15 شباط 2013).
استيراد السكر: 51% تضخيم الكلف.. فهل تم هدر 69 مليون يورو لذلك؟ (13 آذار 2015).
(ثمار) سياسية للعقوبات الاقتصادية (20 كانون الثاني 2018).
الغرب لن يتنازل عن عقوباته بسهولة.. فما العمل؟ (27 كانون الثاني 2019).
«الاكتفاء الذاتي» 14 مليار ليرة شهرياً لاستيراد القمح! (3 شباط 2019).
العقوبات تشتد... والبراغي مرخية؟ (10 شباط 2019).
العقوبات تحاصر السوريين وتفتح شبكة فساد محلي- دولي (17 آذار 2019).
ماذا نستنتج من تجربة الاستيراد الخاص للمازوت؟ (1 نيسان 2019).
العقوبات مجدداً لماذا لا نشتري سفننا المستقلة؟! (14 نيسان 2019).
جهاز الدولة هدف العقوبات والباب الوحيد للخروج منها (16 كانون الأول 2019).
العقوبات و(السلبطة)... مثال من القمح (20 نيسان 2020).
البنزين المستورد لسورية 3 أضعاف العالمي: و(ربح العقوبات) قد يصل 920 مليون دولار سنوياً! (11 أيار 2020).
هل يمكن تجاوز العقوبات؟ نعم ولكن بإزاحة الطبقة السائدة (1 حزيران 2020).
الموافقة على العقوبات... خيانة وطنية موصوفة! (7 حزيران 2020).
(قيصر)... خيار (الصمود في الهاوية) أو الهجوم الممكن في عالم اليوم! (8 حزيران 2020).
أزمة الطاقة... أقل من نصف الحاجات الدنيا بين التمويل وتجاوز العقوبات (16 تشرين الثاني 2020).
العقوبات الأمريكية جريمة أداتها الاقتصاد السياسي للفساد والفوضى (28 كانون الأول 2020).
فقرة في «نصب واحتيال» مؤيدي العقوبات (27 آذار 2021).
كيف ساهم الحرامية الكبار و«ليبراليتهم» الاقتصادية في مضاعفة وتعميق آثار العقوبات الغربية؟ (24 نيسان 2022).
«التعافي المبكر»... جزرة العقوبات وأهم من ذلك: أداة من أدوات «خطوة مقابل خطوة»! (1 نيسان 2024).
تقرير إسكوا الأخير حول العقوبات على سورية؛ مضمونه، الهجوم عليه، والدفاع عنه... وسياقه الزمني-السياسي (14 تموز 2024).
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1202