العقوبات الأمريكية جريمة أداتها الاقتصاد السياسي للفساد والفوضى
إن تركيبة العقوبات الاقتصادية الأمريكية تشبه إلى حدّ بعيد الغاية السياسية الأمريكية وسياستها في هذه المرحلة، أي: تخدم في النهاية المسعى نحو التقسيم كأمر واقع ينتج عن استتباب مناطق النفوذ المتعددة، وحكم «الميليشيات» الموسوم بالفوضى، وهو ما سنحاول شرح أبعاده فيما يلي...
بمعدل شهري تقريباً تضيف وزارة الخزانة الأمريكية أسماء جديدة إلى قائمة العقوبات الاقتصادية المطبّقة على سورية، شركات وأشخاصاً لا يعلم السوريون عنهم الكثير إلا أنّهم ذوو وزن اقتصادي ومالي وسياسي طبعاً، ولكنهم يعلمون أيضاً أن أثر العقوبات الجدي يتسرب عبر زواريب وأقنية الفساد ويوسّعها... ليحوّل البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى «مستنقع فوق فوهة بركان» وهو ما يريده الأمريكيون.
تتبّع نصوص العقوبات قد لا يفي بغرض فهم تداعياتها وغاياتها السياسية، فالعقوبات الأمريكية تدّعي مثلاً أنها تستثني كل المواد التي تندرج ضمن المساعدات الإنسانية، وكل عمليات تصدير المواد الغذائية والزراعية والطاقة والمستلزمات الطبية والدوائية إلى سورية. ولكن عملياً تدفع السياسة الأمريكية والدعاية الواسعة للعقوبات إلى تشديد الإجراءات الاحترازية التي يتخذها أي طرف إقليمي أو دولي أو حتى محلي للتعامل مع الحكومة السورية بكافة جهاتها، وقد شهدنا مثلاً: كيف أصبح عبور بواخر النفط أو المحروقات الإيرانية إلى سورية عبر قناة السويس «مقيّداً» بشكل غير مباشر... رغم أن القناة وفق اتفاقيتها الدولية يفترض أن تسمح بحرية العبور لكل السفن المدنية والحربية لكل دولة عضو في الأمم المتحدة، طالما أنها تحمل مواد شرعية، ولكن السياسة والقوّة تحكم القوانين الدولية.
العقوبات تستهدف منع العلاقات الرسمية الاستثمارية والمالية والتجارية مع جهاز الدولة السوري، ورفع كلف المخاطر للمتعاقدين «المغامرين» الذين يحصلون بالمقابل على عوائد استثنائية من نشاطهم هذا، تتجلى هذه العوائد في أسعار مستوردات هذه المواد التي تفوق 40% وتصل إلى 100% من أسعارها العالمية وفي دول الإقليم، والمازوت والأسمدة آخر الأمثلة على هذا الواقع المتكرر.
ولكن بالعموم، وكما نستطيع أن نستقرئ من نص العقوبات الأخيرة الذي أضاف شخصين و9 مؤسسات اقتصادية والبنك المركزي السوري إلى لائحة (SDN List) فإن العقوبات تركز على المتنفذين والشركات التابعة لهم، وعلى مؤسسات جهاز الدولة وآخرها كان المركزي.
العقوبات الجديدة على المركزي
العقوبات الجديدة على مصرف سورية المركزي لا تحمل جديداً، حتى وفق نص العقوبات ذاته، الذي يشير إلى أن المركزي مدرج عملياً ضمن العقوبات، وهو محظور من التعامل الدولي باعتباره واحدة من مؤسسات جهاز الدولة السوري، وأموال مصرف سورية المركزي مجمدة منذ بداية الأزمة في الدول التي يودع بها. ولكن الإشارة التي تحملها العقوبات الجديدة قد تستهدف بالدرجة الأولى المنظومة المصرفية الخاصة العاملة في السوق السورية، والتي ترتبط موضوعياً بالبنك المركزي: تضع جزءاً من احتياطياتها لديه، تستثمر في شهادات الإيداع وسندات الخزينة، وتدير التحويلات ومجمل عملياتها الخارجية ضمن رقابته موافقته وقوانينه وإلخ...
وبناء على هذا، ذهب بعض المحللين إلى الإيغال في الآثار المترتبة على العقوبات الجديدة، وصولاً إلى القول بخروج المصارف العاملة في سورية! ولكنّ محللين آخرين خففوا من الأمر، وأشاروا إلى أن العرف الأمريكي يقول بإنه لا يتم معاقبة البنوك الأم طالما أنها لا تمتلك أكثر من نصف الأسهم في فروعها السورية باعتبارها ليست صاحبة القرار الحاسم. ومجمل البنوك الأساسية التي تستثمر في فروعها السورية تمتلك أقل من نصف الأسهم وفق البيانات المعلنة ووفق القانون السوري، الذي لا يسمح للأجانب بتملك مثل هذه النسبة.
ولكن وجود مثل هذا العرف قد لا يعني حماية المصارف الخاصة من العقوبات، وسيعني حكماً: تشديد إجراءاتها الاحترازية، ويربط البعض بين مفاوضات بيع قرابة نصف أسهم بنك عودة سورية إلى بنك بيمو السعودي الفرنسي بتاريخ 24-12 كمؤشر على أثر هذه العقوبات.
الأهم، أن مصرف سورية المركزي لم تتقيد بعض عملياته رغم وجود العقوبات سابقاً، فمثلاً تمّ إصدار الورقة النقدية من فئة ألفين ليرة في ظل العقوبات وبالتعاون مع جهة خارجية للطباعة، وتمّ تمويل المستوردات لأهم قوى التجارة الخارجية السورية طوال سنوات الأزمة عبر المصرف المركزي، وبوساطة البنوك الخاصة وشركات الوساطة المالية... واستمرت عملية تمويل الحكومة السورية عبر الدَّين العام، كما أن المصرف كان يدير استلام الحوالات الخارجية عبر شركات الوساطة المالية، ويسمح لها بالاحتفاظ بجزء من القطع، ويشتري هو الجزء الأساسي أيضاً خلال فترة طويلة من الأزمة، وهي العملية التي توقفت تقريباً مع مطلع عام 2019 ليس بفعل العقوبات فقط... بل توقفت موضوعياً بفعل قوانين السوق عندما أصبح سعر الصرف الرسمي وسعر شراء المركزي أقل بكثير من سعر السوق، وأصبح من غير المنطقي استلام الحوالات عبر القنوات الرسمية، لأنه قد يعني خسارة تقارب 56% من قيمة الأموال المحوّلة! كما توقف تمويل المستوردات تقريباً، ليس بسبب العقوبات، بل بسبب الشحّ في مصادر القطع الأجنبي، وأصبح التمويل يعتمد على الدولارات التي يستطيع كبار التجار والمتعاقدين أن يجمعوها من السوق المشبعة بالدولار، الذي يعبر عبر القنوات المختلفة غير الرسمية.
العقوبات وآثار استهداف «الشخصيات»
ربما من الصعب التوسع في هذا الشأن في الحالة السورية بسبب قلة المعلومات حول أرصدة المتنفذين الخارجية، والشك المشروع بالانتقائية الأمريكية، ولكن بالعموم يمكن القول: إن العقوبات التي تدرج أسماء وشخصيات وشركات تتبع لهم تدور في فلك قوى النفوذ الكبرى... ومنطقي أيضاً، فإن هذه القوى لا تضع أموالها في متناول العقوبات الأمريكية، أي: في المنظومة المصرفية الغربية وبالدولار (مع وضع الاحتمال الجدي بإمكانية وجود جزء منها ضمن هذه المنظومة التي تسمح سياسات السرية المصرفية فيها، والجنات الضريبية بحماية كل المال غير الشرعي الدولي العابر للقارات). ولكن المثبت، أن أهم واجهات المال والنفوذ السورية لديها أموال مجمدة في المنظومة الغربية، وقد تم رفع دعاوى مثلاً «لفك الحظر» عن أموال موجودة في البنوك السويسرية.
بالعموم، فإن العقوبات على الشخصيات وقوى النفوذ، تؤدي منطقياً إلى أمرين، أولاً: فتح باب التفاوض الأمريكي والغربي عبر الضغط على هؤلاء واستمرار تجميد جزء على الأقل من أموالهم. وثانياً: وهو الأهم، أنها تؤدي إلى لجوء هؤلاء أكثر فأكثر إلى الربح من السيطرة على دورة المال داخل سورية، نتيجة ضيق المسارات الخارجية لاستثمار أموالهم. وهو ما ينعكس بأنهم يزدادون تغولاً وهيمنة على البنية الاقتصادية السورية، عبر التملك وعبر الحصص والإتاوات من كل نشاط يجري، ويتشابكون عميقاً مع المسارات غير الشرعية لمصادر الأموال وحركتها، ويتربصون أكثر بجهاز الدولة، وبتجارة الأساسيات لتحصيل أرباح. أي: إن العقوبات تستهدف زيادة تغوّلهم فساداً على البنية الاقتصادية والاجتماعية المتعبة، لتعويض خسائر أرباحهم من استثمار أرصدتهم في الخارج. وهو واحد من الأسباب العميقة للعقم الذي يَسِم كل محاولات تجاوز العقوبات وبناء سياسة اقتصادية تنتشل البلاد والمجتمع، فلا متسع لهؤلاء ليسمحوا بتخصيص حصص هامة من المال العام للاستثمار الزراعي والصناعي، ولا يمكن لهم أن يسمحوا بتجارة خارجية أقل تكلفة وإدارة أكثر شفافية وأقل مركزية لعمليات الاستيراد، وتحديداً المتعاقدة مع جهاز الدولة، كما في الطاقة والقمح والأدوية وغيرها... إنّ الضغط الذي تقوم به العقوبات على الشخصيات المتنفذة ووكلائها تؤدي عملياً إلى زيادة فساد وجور هؤلاء، وتحويل جهاز الدولة إلى أداة ضعيفة بيدهم، وتؤدي بالمقابل إلى الضغط السياسي عليهم ودفعهم للتفاوض مع الغرب.
تعزيز التقسيم والحالة الميليشياوية
أخيراً، فإن العقوبات الأمريكية التي تستهدف الفوضى والتقسيم، تعتمد على تعزيز القوى المحلية التي لها المصلحة ذاتها. فتقييد التجارة الخارجية وارتفاع كلفها كنتيجة للعقوبات، هو أحد أهم حوافز التهريب كواحد من أهم أوجه التجارة غير الشرعية... والتهريب هو مصدر إثراء وزيادة نفوذ الحالة الميليشياوية، وأنّه أهم طرق تمويل عناصر القوّة التي تهيمن على الأرض في كل المناطق السورية. وربما المعابر الحدودية الشرعية وغير الشرعية، والمعابر المحلية بين مناطق النفوذ هي أوضح مثال على ذلك. وبتقدير أولي للعوائد التي يمكن أن تتحقق من تهريب البضائع التركية فقط، فإن هذه العملية يمكن أن تصل إلى تمويل سنوي يفوق 500 مليون دولار. ومثل هذه المبالغ تجعل القوى المستفيدة تستميت في سبيل الإبقاء على التهريب وتشكر الأمريكان مع كل تعقيد وفرض للعقوبات يفيد بتهميش وظائف جهاز الدولة.
الأمر ذاته في التجارة غير الشرعية بكل أوجهها التي تخدمها الفوضى وتعدد مناطق النفوذ، من المساهمة الفعالة في شبكة المخدرات الدولية والإقليمية نقلاً وعبوراً وحتى إنتاجاً، إلى الاتجار بالبشر والسلاح وغيرها.
الجانب الآخر من أثر العقوبات على تمويل مناطق النفوذ المتعددة والقوى المهيمنة فيها، هو المساعدات الدولية. فالولايات المتحدة التي تتباهي بأنها لا تزال أكبر ممول للمساعدات الدولية إلى سورية بمبلغ معلن قارب 12 مليار دولار خلال سنوات الأزمة، تعلم علم اليقين أنّ هذه المساعدات التي تصل عبر المنظمات غير الحكومية بمختلف أشكالها: (الدولية والإقليمية والإنسانية- العلمانية والدينية والسياسية...) لا يمكن أن تدخل وتوزع ضمن مناطق النفوذ المختلفة، إلّا تحت إشراف وقبول وموافقة القوى المتنفذة في مختلف المناطق السورية، تلك التي تغنم من هذه المساعدات ربما أكثر مما يصل إلى السكان المتضررين.
الخلاصة
العقوبات الأمريكية وقوائمها الدورية تخدم الغاية السياسية الأمريكية، وهي استدامة الجمود السياسي، وتحويل سورية إلى مستنقع تستقر فيه قوى الفساد والفوضى وتتقاسم مناطق نفوذه وصولاً إلى تحوّل التقسيم إلى أمر واقع.
فالعقوبات تستهدف تقويض جهاز الدولة عبر محاصرة معاملاته الرسمية، ومقاومتها حقاً تكون بتعزيز جهاز الدولة، وجعله يلعب دوره بتأمين أساسيات الاستمرار للمجتمع، والبحث عن مخارج استثمارية محلية تعزز إنتاج الغذاء والأساسيات، وتقلل الاعتماد على الخارج. ومقاومة العقوبات تتطلب أيضاً أن يبحث جهاز الدولة عن فرص في الفضاء السياسي والاقتصادي الدولي الجديد ليتعامل بعقود رسمية وبغير الدولار مع القوى الدولية التي لا تستطيع العقوبات الأمريكية أن تطالها. وعلى سبيل المثال لا الحصر: تحويل جزء من الاحتياطي الذهبي السوري إلى احتياطي باليوان يسمح بتنظيم معاملاتنا التجارية مع الصين التي لا تزيد عن مليار دولار، وتمويل حاجات الحكومة مباشرة ودون وسطاء وبتكاليف أقل.
وهذا ليس إجراءً مستحيلاً بل يتبعه أكثر من 70 بنكاً مركزياً عبر العالم، وجزء منها يضع الذهب مقابل اليوان وفق تصريحات مجلس الذهب العالمي، والأمريكيون لن يستطيعوا معاقبة بنك الشعب الصيني (البنك المركزي)، أو بنك الواردات والصادرات الصيني للتنمية... وكلاهما مثلاً معني بالعقود الاستثمارية مع إيران التي تطبق عليها أقصى العقوبات الأمريكية، تلك الاتفاقية التي من المتوقع أن يتم توقيعها في آذار القادم، والتي قد تفوق 400 مليار دولار! ولجوء الأمريكيين إلى إجراءات من هذا النوع لن يحتاج للذريعة السورية... بل قد يكون دونه القوى الاستثمارية الغربية، التي تكثف اليوم أكثر من أي وقت آخر استثمارها في سندات الدَّين الحكومية الصينية باليوان التي يتم فتحها تدريجياً.
ولكن إجراءات سوريّة من هذا النوع تمنعها العقوبات بطريقة غير مباشرة، وذلك لأن العقوبات تعزّز قوى الفوضى والفساد والحالة الميليشياوية. فهي بتضييقها على الشخصيات المتنفذة ووكلائهم تدفع هؤلاء لتعويض الخسائر عبر التغوّل على المنظومة الاقتصادية السورية، والنهش من كل ما تبقى فيها من حياة وتوالد ثروة.
العقوبات تعزّز الفساد وتعيق الحركة الطبيعية للتجارة الخارجية، وتحفّز التهريب الذي يموّل الميليشيات المتحكمة بكل المعابر الحدودية والمحلية، والأمريكيون أيضاً بمساعداتهم الدولارية المتدفقة يمولون أيضاً حاجات قوى النفوذ التي لا يمكن توزيع المساعدات وعمل المنظمات والجهات غير الحكومية إلا تحت غطاء موافقتها.
العقوبات جريمة بحق سورية، وهذه الجريمة أداتها الأساسية تعزيز قوى الفوضى والفساد والتقسيم... ولن يكون بالإمكان تجاوزها جدياً إلا بقوّة المجتمع المتضرر، ومواجهته مع هذه الأدوات، وهي مواجهة حتمية... يمكن أن تأتي تدريجياً عبر استفادة المجتمع السوري من بوابات الصراع السياسي الذي تفتحه الحلول السياسية لتفكيك هذه القوى تدريجياً، ودون ذلك فإن هذه المواجهة الضرورية ستكون دامية على البلاد والمجتمع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 998