العقوبات تحاصر السوريين وتفتح شبكة فساد محلي- دولي
تستمر العقوبات الغربية المطبّقة على سورية لعامها التاسع على التوالي، ولكن رغم تجددها سنوياً، إلا أنها لا تلقى الكثير من الصدى... فلا يحتسب أحد تكاليفها على السوريين، ولا يتحدث أحد عن طرق تجاوزها، ولا يأتي ذكرها إلا كذريعة رسمية في وجه الحرمان الذي يعانيه السوريون! ولكن العقوبات التي تقطع العلاقات الرسمية، تفتح أيضاً مسارب خلفية لبناء علاقات أخرى...
رهن الحاجات للمتنفذين والوسطاء
أسوأ ما في العقوبات هو استهدافها جهاز الدولة، بغرض خنقه. حيث أصبح ممنوعاً بموجب العقوبات، على الجهات والأجهزة الحكومية السورية أن تتعامل مباشرة في السوق الدولية. حيث تمتنع المصارف والشركات عن المجازفة بالتعامل معها، خشية من رصد تحركاتها أمريكياً، عبر منظومة الرقابة المالية الأمريكية القادرة على مراقبة حركة الدولار عالمياً. وعليه فقد أصبحت الحكومة لا تستطيع القيام بعمليات الشراء والتعاقد مباشرة، إلا مع أطرافٍ مستعدةٍ لخوض هذه المخاطرة.
وينتج عن هذه العملية أن جهاز الدولة في ظروف الحرب، وبدفع من مصالح المتنفذين وكبار الفاسدين فيه، يبحث عن شبكة غير معلنة من رجال الأعمال تتوسط لتأمين حاجات سورية من السوق الدولية، ليكون هؤلاء من أصحاب (الثقة والنفوذ). ويستوردوا لنا القمح، أو المحروقات، أو المعدات أو أية بضاعة أو خدمة أخرى، ويجني الطرفان الكثير بالمقابل.
إن شبكة العقوبات الدولية لا تحظر توريد أية مادة عبر رجال الأعمال، ورغم إمكانية تتبع دخول المواد إلى سورية، فإنها تسمح لهؤلاء بإدخالها، مقابل صعوبات ومخاطر في تحويل الأموال والنقل.
ليكون الأمر على الشكل التالي: يتعهد فلان الفلاني، بتأمين شحنات القمح أو المازوت، مدعوماً من شبكة الفساد الكبير في جهاز الدولة، ويطلب تكاليف أعلى من السعر العالمي، وهذه المرابح الإضافية الكبيرة على كل طن مستورد لسورية، تذهب محاصصة بين أطراف السوق الدولية التي تم الشراء منها، وبين الطرف المحلي وداعميه ممن استلموا استيراد الحاجات الأساسية. أما الدفع فيتم عبر المال العام، الآتي مما يجنيه السوريون.
هذه الآلية المستمرة منذ 8-9 سنوات، تؤدي إلى ترسيخ علاقات بين السوق الدولية التي منحتها منظومة العقوبات السياسية فرصة لتستغل وضع السوريين، وبين كبار المتنفذين في جهاز الدولة وأمراء الثراء والحرب، والنتيجة، تعاقد وتوافق بين الفساد الدولي والمحلي، وتهميش دور جهاز الدولة، وحرمان السوريين والربح من كارثتهم.
الأمثلة كثيرة، كأن تحرر فرنسا لنا حسابات مالية، وتبيعنا قمحاً عبر وسيط بسعر وصل إلى 500 يورو للطن في 2013، أو أن يستورد الوسطاء قمحاً من الائتماني الإيراني بسعر أعلى من السعر العالمي بـ 60 يورو بالحد الأدنى. ويتبين أن المشتقات تُستورد بتكاليف إضافية تشكل 20-43% من التكلفة العالمية، كما صرح الحلقي رئيس مجلس الوزراء سابقاً.. بينما تشير معلومات أخرى أن كل طن مشتقات كان يضاف إليه سعر 220 دولار عن السعر العالمي، وهو يعني أرباحاً بمئات ملايين الدولارات سنوياً من استيراد المازوت والبنزين فقط، وغيرها الكثير من الأمثلة.
ومجموع كلف العقوبات الإضافية هذه، هي ربح غير شرعي، يدفع ثمنه السوريون، وتغنمه شبكة فساد دولي- محلي مستفيدة من العقوبات.
شبكة فساد المساعدات
وعدا عن الاستيراد، هنالك كتلة المساعدات الدولية بمليارات الدولارات، التي (تمنحها) الدول التي تفرض وتلتزم بالعقوبات على سورية. وهذه الكتلة التي فاقت الـ 5 مليارات دولار سنوياً خلال سنوات الأزمة بين داخل سورية والإقليم، هي أيضاً شبكة فساد وتحاصص... وتفيد كذلك الأمر في تهميش جهاز الدولة السورية، الذي لا تعنى حكومته بالإغاثة الإنسانية إلا من موقع الترخيص والسماح والمنع! بينما تتسرب المليارات المذكورة عبر شبكة من المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية، تصلها (بضائع المساعدات) من التعاقد مع أطراف في السوق الدولية، ليصل للسوريين من (الجمل أذنه). بعد أن تقتطع مرابح وإتاوات على الطريق، وصولاً إلى شبكات (التشليح) المحلية العلنية، التي تنقل حصة هامة من المساعدات لتباع في السوق. وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة لديها فريق هائل من المنظمات والمتطوعين، إلا أن دراسة واحدة لا تشير إلى ظاهرة بيع المعونات في الأسواق السورية.
إن المساعدات الإنسانية الغذائية فقط، قد ازدادت بنسبة 900% بين 2013-2016، ولكن كل هذا (التدفق الغذائي) المفترض، لم ينعكس انخفاضاً في أسعار الغذاء في سورية، التي بقيت العنصر الأكثر ارتفاعاً من حيث الأسعار ضمن مكونات سلة الاستهلاك السورية. فالمساعدات ولحدٍ بعيدٍ تحولت إلى تجارة استيراد وشبكة توزيع للربح، أيضاً من الكارثة الإنسانية السورية.
ليكون المستفيدون من أرباح العقوبات، هم ذاتهم المستفيدون من أرباح المساعدات الدولية. وهاتان المنظومتان تشكلان إطار علاقات سياسية واقتصادية، وشبكة تعاقد عابرة للحدود مستمرة لسنوات.
طريق واحد للخروج من العقوبات
الخروج من العقوبات الاقتصادية له طريق واحد ومحدد، عدم التعامل مع منظومة الغرب المصرفية والتجارية، لتأمين حاجات السوريين الأساسية، وإنهاء دور الوسطاء. وعوضاً عن التخفي وراء وجوه رجال الأعمال الذين يعرفهم الغرب، ويتيح لهم حرية الحركة لبعض الوقت، ثم يعاقبهم... ينبغي الانتقال إلى العمل العلني الرسمي، الواضح والصريح. بإيجاد منظومات مصرفية وتجارية رسمية بين جهاز الدولة السوري، والدول المتعاونة سياسياً والتي تواجه عقوبات الغرب. لتتم عمليات التبادل مباشرة بعملات وآليات عدا الدولار، ولينخفض أثر العقوبات وكلفها الإضافية، فنستورد القمح دون وسيط وبالسعر العالمي بعلاقة مباشرة بين مصرف حكومي سوري، وآخر روسي مثلاً، وكذلك المشتقات. وليتم الدفع لهؤلاء الشركاء الروس أو الإيرانيين أو غيرهم، من المبالغ التي تُجبى من السوريين لقاء هذه المواد، دون هوامش أرباح عالية. تلك المبالغ التي كان يجبيها جهاز الدولة من السوريين، لقاء الخبز والمشتقات والخدمات، ويدفعها للوسطاء بذريعة تأمينهم الأساسيات! ممولاً بهذه العملية شبكة الفساد الدولي والمحلي، من حيث يدري أو لا يدري. المنطق يقول: إنّ ما من شيء وقف عائقاً جدياً في وجه هذه الإجراءات في السنوات الماضية، إلّا المصالح الضيقة لطابور الفساد الكبير، الذي يريد أن يكون وكيل جهاز الدولة، وكيل سورية، في ساحة الفساد الدولي الغربية التي تبحث عمن تبتزه وتربح منه.
إن إجراءات جدية لتجاوز العقوبات، ستقطع أواصر علاقات الفساد المحلي والدولي، وستلحق خسائر هامة بهؤلاء الوسطاء، ولكنها في المقابل ستبني علاقات صحية مع الشركاء الفعليين لسورية، والأهم: أنها ستقلل من حرمان السوريين واستغلالهم، وتحمي دور جهاز الدولة، وتمنع الفوضى التي ستتحقق حكماً إذا ما بقيت مصالح هؤلاء الضيقة تحدد سياسات (مواجهة العقوبات)!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 905