هل يمكن تجاوز العقوبات؟ نعم ولكن بإزاحة الطبقة السائدة
العقوبات الاقتصادية التي من المرتقب أن يتشدد تطبيقها على البلاد في منتصف حزيران القادم، ستمثل انعطافة جديدة في التدهور السوري، فيما لو بقي الوضع على حاله... الكثير يُقال في مواجهة العقوبات، ولكن الآلية الأساسية واحدة لا بديل لها: (إزاحة الدولار) فالدولار هو أداة تطبيق العقوبات الأساسية، وتقليص وزنه في الاقتصاد السوري يقلص فعالية العقوبات. فهل هذا التقليص ممكن؟ نظرياً نعم، ولكن عملياً تقف المصالح السياسية للطبقة السائدة داخل البلاد عائقاً جدياً.
من (يسود) اقتصادياً وسياسياً داخل البلاد، هم كبار مالكي الثروة أصحاب الاحتياطات في الخارج، ومن تفيض أموالهم في الداخل لتشمل كافة القطاعات، وتطال حصصاً من كل ما يمكن أن يخلق ثروة أو يُستهلك.
وهؤلاء أسماء محددة يتداولها ويعلمها أغلبية السوريين، بعضها ظاهر وبعضها مغلّف برجال مال وأعمال وواجهات، وكل ما يمكن قوله على صفحات جريدة محلية هو: أنّ مستوى تمركز الثروة السورية مرتفع إلى حدّ بعيد ومعتمد على النفوذ، والأهم: أنه مرتبط بالعمق بالخارج وبالعملات الأجنبية.
ويمكن أن يقدم العام الماضي صورة واضحة على سلوك هؤلاء الذي يشكّل المسار الاقتصادي للبلاد في ظل العقوبات.
ماذا فعل الأثرياء (المتسيدون) في عام مضى؟!
خلال العام الماضي، ومع تشديد العقوبات عمّ اتجاه وحيد ومحدد في الاقتصاد السوري: التهافت وراء الدولار، وإن كان الحديث بسعر السوق للدولار قد أصبح ممنوعاً (بينما التداول والتسعير به هو أمر واقع) فإن الذهب يستطيع أن يعبّر تعبيراً بليغاً عما جرى، حيث ارتفع سعر الغرام منه أربع مرات خلال عام فقط.
الملفت، أن أسعار العقارات مثلاً لم ترتفع بالمستوى ذاته، ما يمكن أن يعطي دلالة على ما كان يجري وكأنّ بعض الأثرياء السوريين كانوا يجمعون ما (خفّ حمله وغلا ثمنه)، وقد توقفوا حتى عن تبييض أموالهم في العقارات، بل كانوا يحتاجون إلى السلع حافظة القيمة عالية السيولة والقابلة للحفظ في كل مكان في الداخل أو الخارج، وأهم هذه السلع العملات الأجنبية، بينما الذهب يرتفع بنتيجة ارتفاع العملات لأنه حافظ للقيمة وأكثر سيولة نسبياً من العقارات.
ولكن بطبيعة الحال، العملات الأجنبية هي السوق الأفضل لهؤلاء، لأنها أكثر حركة ويمكن تدفقها من الخارج للداخل وبالعكس... عبر التجارة الشرعية وغير الشرعية وعبر التدفق من سوق التحويلات غير الرسمية.
يسيطر هؤلاء على التجارة الخارجية بمعظمها إذ يتقاسمون استيراد سلع أساسية، مثل: النفط ومشتقاته والقمح والأدوية والمواد الغذائية الأساسية، وهذه بالنسبة لهم تجارة شرعية تؤمن سيولة هائلة ومضمونة بالليرة السورية، وبسعر احتكاري يتغير وفق تغيرات الدولار، وتتيح لهم تحويل دولارات من حساباتهم المصرفية وإليها، ولهذا السبب أيضاً يوزعون أموالهم في قطاع المصارف المحلية الخاصة، لأنها غطاء لفرض أسعار احتكارية في التجارة الخارجية، وتستطيع أن تحوّل لهم الأموال المنهوبة إلى حساباتهم في الخارج.
وبالكتلة الكبيرة من الليرة التي يمتلكونها يمكنهم شراء دولارات السوق السوداء الآتية عبر منافذ التحويلات غير الشرعية الواسعة، وقد سعوا أيضاً إلى الهيمنة على منتجات السوق الزراعية ليوسّعوا تهريبها، فتصبح أسعار اللحوم والخضار والفواكه المحلية بأسعار دول الإقليم غير المنتجة! هذا عدا عن توسيع تجارة الحبوب والمخدرات التي سجلت مستويات غير مسبوقة في العام الماضي، والتي لا يمكن أن تتفاقم بهذا الشكل من دون غطاء من شبكة الفساد الكبير الذي لا يعرف القانون طريقه إليه إلا بمصادرات هنا وهناك... بينما تخرج أطنان من الممنوعات من المرافئ المحلية للإقليم.
إن الشريحة الضيقة المتنفذة والمتسيّدة على الاقتصاد السوري معنية بالنشاط المضاربي إنها تملك التحكم بالثروات المحلية والحاجات الأساسية وتقلّبها بين الليرة والدولار وتهربها للخارج. وقد حوّلت جهاز الدولة إلى جابٍ للموارد من عموم السوريين ليسدد لهؤلاء الأثرياء وللشركات والمصارف التي يعملون معها ومن خلالها في الداخل والخارج أضعاف المبالغ التي ينبغي سدادها. وهذه الشريحة معنية أيضاً بالنشاط الإجرامي الذي يدل توسّع حجمه إلى الارتباط العميق بين هؤلاء وبين الحاجة إلى الفوضى واستدامة الصراع، بل والحاجة إلى جهاز دولة ضعيف.
مواجهة الجوع وإزاحة الدولار ممكنة ولكن!
هل يمكن تجاوز العقوبات؟ ربما الجواب لا... طالما أن هؤلاء هم مالكو الثروة والقرار الفعلي. البلاد في ظرف الجوع الذي وصلت إليه تحتاج لمواجهة العقوبات والفوضى المحتملة منها إلى مواجهة الجوع أولاً عبر توسيع إنتاج الغذاء وإتاحة الحصول عليه وهذا وذاك لا يتطلب دولار! فهل توسيع مساحات زراعة القمح لتشمل أماكنه المعهودة وغير المعهودة يحتاج إلى دولار؟! وهل زيادة أعداد الأغنام والأبقار وزراعة أعلاف للدواجن يحتاج إلى دولار؟ أيضاً لا... ولكن كل ذلك يحتاج إلى إنهاء احتكار هؤلاء لسوق تهريب واستيراد الغذاء ومستلزمات إنتاجه. هل توسيع الإنتاج الصناعي المحلي يحتاج إلى دولار؟! الحكومة ذاتها قالت: إنه يمكن تقليص المستوردات بنسبة 80% ببدائل إنتاج محلية، ولكنها تحتاج إلى تمويل على شكل آلات ومعدات ومستلزمات أساسية، وقد تحتاج إلى خطوط تجارة نقدية مباشرة ومخفية عن القطاع المصرفي العالمي، مع العراق ومع لبنان وحتى مع تركيا لتأمين هذه المعدات بالدفع المباشر، وهو ما يستطيع العديد من المنتجين السوريين تأمينه فيما لو تمّ تغطيتهم وحمايتهم عوضاً عن التغطية على مهربي السلع والمخدرات!
ورغم أن العقوبات القادمة ستعقد العلاقات مع الدول، ولكن الظرف الدولي لا يزال يسمح بالوصول إلى اتفاقات تجارية مع دول كبرى تتحدى عموم السياسات والعقوبات الأمريكية، ليتم التعامل بالعملات المحلية أو فتح حسابات بعملاتها، مثل: الصين وروسيا... عبر التعامل مع حكوماتها، وليس مع شركات خاصة!
يمكن أن تتحول كتلة الليرة المتراكمة في السوق إلى إنتاج، ويمكن أن يتم جمع كتلة دولار كافية للمستوردات الأساسية أيضاً من السوق السورية، ولكن من سيفعل هذا؟ يفترض أن يقوم به جهاز الدولة في وجه كبار محتكري الثروة... ولكن في الوضع الحالي هؤلاء يحتكرون جهاز الدولة ويوظفونه إلى حد بعيد، فكيف يستطيع أن يواجههم بسياسات جدّية وجذرية ومبدئية تتطلبها مواجهة عقوبات بهذا الحجم؟!
إنّ آخر ما يعني النخبة المتنفذة هي مواجهة فعلية للعقوبات، وعدوهم اللدود هو إزاحة الدولار، وهم إذ يتمنون زوال العقوبات فلأنهم في خوف على حساباتهم الخارجية، ولأن لديهم آمال بعقد صلح مع الغرب ليبيعوه البلاد تحت مسمى إعادة إعمار ويبقيهم وسطاءه وسماسرته كما كان الحال...
لذلك بالإجابة عن سؤال: هل يمكن تجاوز العقوبات؟ يمكن القول: إن الإجابة لا. لا يمكن إلا بإنهاء نفوذ أصحاب الثروة وملوك الفساد، ووضع حد لسطوتهم على المسار الاقتصادي للبلاد الذي يتحول إلى مفصل أساسي في المسار السياسي... فالعقوبات هدفها تحويل سورية لمستنقع مستدام، كما يقول السياسيون الأمريكيون وضوحاً، وعلينا نحن أن نستنتج: أن هذه النخبة الفاسدة هي العفونة والمياه الآسنة التي تمنع تجديد التربة السورية، وتساعد الغرب في التجويع والتيئيس ونشر الفوضى.
اليوم وسابقاً، لا يمكن تجاوز العقوبات وحل عقدة مسار التدهور الاقتصادي، إلا بانعطافة سياسية تسمح لعموم السوريين أن يُظهروا الوزن الحقيقي للملايين من المنتجين والعاطلين والمتعبين والمبعدين، وأن تكون لهم فعاليتهم السياسية وقدرتهم على تغيير القرار الاقتصادي والسياسي، ليستطيعوا أن يتسيدوا على بلادهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 968