جهاز الدولة هدف العقوبات والباب الوحيد للخروج منها
يضجّ الإعلام بالحديث عن قانون قيصر/سيزر الذي سيشدد العقوبات الأمريكية على سورية، فالقانون عملياً عَبَر مجلس النواب وأصبح إقراره مرتبطاً بالرئيس الأمريكي، يكمّل هذا القانون ما أقرّته العقوبات السابقة مركّزاً على التعامل مع جهاز الدولة والحكومة السورية في قطاعات النفط والإنشاء، والتعامل مع المصرف المركزي... والأهم من كل هذا أنّه خطوة أمريكية في التصعيد الاقتصادي نحو الفوضى.
«الإجرام السياسي» يظهر واضحاً لدى القوى السياسية والشخصيات السورية التي «تهنّئ الشعب السوري» باحتمال هذا الإقرار بذريعة أنه يدفع نحو الحل السياسي ويزيد «عزلة النظام»، وربما أصبح هذا معتاداً... ولكن ليس أقل إجراماً كل السياسات الاقتصادية داخل البلاد، التي لا تحمي جهاز الدولة بل تعطّل مقاومته للعقوبات، والتي تعتبر عتبة هامة في الضغط الاقتصادي على السوريين وللدفع نحو المجهول وصولاً للعودة للعنف!
محاصرة جهاز الدولة عبر السوق العالمية
العقوبات الاقتصادية مطبّقة على سورية منذ عام 2011، وإذا ما أردنا تلخيص عنوانها العريض: محاصرة جهاز الدولة السوري ونشاطه الاقتصادي، عبر تهديد قوى السوق العالمية بعدم التعامل مع الحكومة السورية.
الإطار القانوني للعقوبات حتى قبل «سيزر» كان يستطيع معاقبة أية شركة أو بنك يتعامل مع جهاز الدولة السوري، وطبعاً هذه العملية تتم بشكل انتقائي مدروس فيتم غض النظر عن شخصيات لفترات معينة ثم التضييق عليها لاحقاً، ويتم غضّ النظر عن قطاعات ثم التشديد عليها لاحقاً... لأهداف وتوقيتات سياسية.
وأياً تكن العقوبات ومستوياتها فإن مواجهتها مواجهة اقتصادية وطنية جديّة تقتضي حماية جهاز الدولة ونشاطه الاقتصادي، وذلك عبر عزله عن سوق المال والأعمال الغربية التي تستطيع العقوبات الأمريكية أن تنشط فيها.
إن مواجهة هذا العزل، أي مواجهة العقوبات لا يمكن أن تتم إلا بعنوانين أساسين: أولاً نشاط اقتصادي سياسي مؤسساتي مباشر لجهاز الدولة، وثانياً إزاحة الدولار من التعاملات المالية.
وكلا الجانبين يتناقض تماماً مع مصالح نخب المال والنفوذ السورية التي تكيّف السياسة الاقتصادية لجهاز الدولة لصالحها، وبالشكل الذي يجعلها مستفيدة من العقوبات بذريعة المخاطرة.
نشاط اقتصادي مباشر للدولة
ما الذي يحتاجه السوريون في اللحظة الحالية؟ إن مستويات الفقر ونقص الأساسيات والبطالة والتوقف الاقتصادي، وما تفتحه من احتمالات فوضى تجعل مواجهة هذه المسائل هي المهمة الكبرى. وهي ترتبط ببعضها البعض، ولها مفاتيح حل أساس:
أن يتم تأمين المواد الأساسية بأقل أسعار ممكنة، بما فيها الطاقة والمواد الغذائية الأساسية المستوردة، وأن يتم تحريك الأموال المكدّسة بالليرة السورية لينشط الإنتاج المحلي، والتشغيل والاستهلاك، وأن يتم فتح منافذ تصديرية وإن كانت ضيقة إلى الأسواق الممكنة.
حالياً السياسات الاقتصادية المحلية عبر الحكومة تضع هذه العناوين أهدافاً، ولكن بالكلام فقط... الفعل المستمر الوحيد هو دعم نشاط الاستيراد الدولاري لكبار المستوردين المتنفذين. هؤلاء الذين يأخذون الدولارات من المركزي بسعر قليل 435 ليرة، ويستوردون مواد أساسية بأسعار أعلى من الأسعار العالمية بذريعة المخاطرة، ويضاربون بالدولار في السوق السوداء، ويهربون دولاراتهم للخارج.
أما الأموال السورية المتكدسة في المصارف وفي السوق فلا يتم تحريكها إنتاجياً، وهو قرار اقتصادي- سياسي لدعم الإنتاج الحقيقي.
استيراد الأساسيات عبر الدولة
إن حلاً جذرياً لهاتين المسألتين وعلى مستوى حجم الأزمة والمخاطر يتطلب دوراً اقتصادياً مباشراً للدولة. والأهم، أن تقوم بعمليات استيراد الأساسيات بشكل مباشر... وهو أمر ممكن تطبقه إيران التي تعاني من عقوبات مشددة أكثر من العقوبات السورية، بل وتحدثت الحكومة السورية عن تطبيقه عندما كثر الحديث والضوضاء حول مؤسسة التجارة الخارجية واستعادة دورها في الاستيراد ثمّ خفت هذا الحديث.
إن استيراد المحروقات والمواد الغذائية الأساسية ومستلزمات الإنتاج الأساسية يجب أن يتم عن طريق جهاز الدولة مباشرة وليس عبر الوسطاء الذين يحصلون على نسبة من هذه الكتلة الهامة من الاستيراد تفوق 40%... ما يعني أنه يمكن تقليص نفقات هذه المواد الأساسية بهذه النسبة تقريباً إذا ما استوردت الدولة مباشرة.
فإذا ما كانت تكلفة هذه المستوردات 5 مليار دولار يمكن تقليصها إلى 3 مليارات دولار وربما أكثر إذا ما تم الكشف عن حجم حصة الربح الاحتكاري الحقيقية، أو تمّ الحصول على أسعار تفضيلية من الجهات التي تستورد منها الدولة.
المهمة الاقتصادية الأساسية الثانية لجهاز الدولة هي إطلاق عجلة الإنتاج، بالفعل وليس بالقول: يجب أن تتحول الليرات السورية إلى حركة في المصانع الحكومية قبل غيرها، وإلى إنتاج زراعي وشبكات ري وإعادة تأهيل أراضٍ وإنتاج بذار، وإلى بناء مساكن وتأهيل أحياء وتزويد بالكهرباء وتشغيل حقول وآبار نفطية مستعادة. وكل هذا مع الوظائف والتشغيل المرافق له الذي يجب أن يتوسع لدى جهاز الدولة بعد تخصيص كتلة مالية إضافية للأجور. وكل هذا يتطلب أيضاً أن تنشط الدولة في استيراد مستلزمات الإنتاج الضرورية: خطوط إنتاج، ومستلزمات صناعية لتزوّد إنتاج الدولة وليتم إقراضها سلعياً للقطاع الخاص المنتج.
إزاحة الدولار من الاستيراد الحكومي
قد يقول البعض إن هذا التوجه صعب في ظروف العقوبات الحالية، ولكن المفارقة أن هذا التوجه هو المعتمد دائماً في وجه العقوبات، بل ويجب القول إن الظرف الدولي يسمح به.
العقوبات ليست حالة خاصة سورية، وتاريخياً العقوبات توسع من الدور المباشر لجهاز الدولة... وهذا التوجه يجد له سنداً لدى قوى اقتصادية دولية، تستطيع أن تواجه العقوبات بالآليات المعتادة وهي التعامل خارج عملة العقوبات الدولية أي الدولار.
فإذا ما بادر جهاز الدولة السوري إلى فتح حسابات بالعملات المحلية، في روسيا أو في الصين فإنه غالباً سيلقى آذاناً صاغية وتجاوباً دولياً. أولاً لأن هذه الدول تبادر بهذا الاتجاه، فالصين مثلاً فعّلت خلال الأشهر الماضية عقودها الاستثمارية مع إيران بقيمة 400 مليار دولار وسط التصعيد الكبير في العقوبات الأمريكية على إيران. وحساب في المصرف المركزي السوري بالعملة الصينية اليوان بما يعادل 3 مليار دولار يستطيع أن يغطي نصف الواردات السورية، ويكون جزءاً من أكثر 213 مليار دولار حسابات واحتياطيات باليوان موجودة في البنوك المركزي العالمية في عام 2019.
أما مع روسيا فأيضاً العملية ممكنة، فروسيا تتحدث عن أن عملتها الروبل متاحة للتبادل بأية عملة محلية عالمية، بغرض إزاحة الدولار من تجارتها، أي يمكن فتح حسابات بالروبل الروسي، ويمكن أن تساعد بشكل فعلي في تأمين عقود للنفط الخام بالليرة السورية مقابل الروبل. وروسيا هي الطرف الدولي الأبرز الذي يتحدث عن رفع العقوبات عن سورية، وعن الحاجة لتأمين الأساسيات لبدء إعادة الإعمار... وآخرها ما تمّ فعلياً من عقد لتوريد معدات هندسية بالعملة السورية بين وزارة الأشغال العامة السورية وبين شركة روسية، العقد الذي يبلغ 9 مليارات ليرة سورية بالعملة المحلية وعلى دفعات.
الحلول موجودة وعنوان إزاحة الدولار من التجارة أصبح عنواناً عالمياً يتكرر في كل المواضع التي تضغط فيها العقوبات الاقتصادية الأمريكية... ولكن سورية تبدو استثناءً في هذا السياق ولا يبدو أن هنالك محاولات ونوايا جدية لإزاحة الدولار من التجارة، أو إيجاد بدائل استيرادية. إن الضرورة الوطنية لتجاوز العقوبات تقتضي الاستيراد المباشرة لجهاز الدولة السوري وعبر عملات غير الدولار، وبعلاقات سياسية مؤسساتية مباشرة مع بنوك مركزية دولية جاهزة لتجاوز العقوبات، مثل الصين وروسيا، ولن تستطيع العقوبات الغربية أن تعاقب ما هو خارج سلطتها المالية وخارج حركة الدولار وبنوك مركزية لدول كبرى، ولكن المبادرة السورية حتى اليوم ضعيفة ومكتومة في هذا الاتجاه، الأمر الذي يفتح على نجاح العقوبات في الدفع نحو الفوضى... حيث تتقاطع مصالح نخب المال والنفوذ المحلية مع مصالح الغرب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 944