(قيصر)... خيار (الصمود في الهاوية) أو الهجوم الممكن في عالم اليوم!
العقوبات الغربية المطبقة على سورية هي جريمة إنسانية تُضاف إلى السجل الغربي الحافل دولياً... لقد أصبحت العقوبات الأداة الأمريكية رقم (1) لاستدامة الفوضى في البلاد، وتمهيد أرضية من التدهور الاجتماعي تفتح كل الاحتمالات، وهي تعتمد اعتماداً كلياً على سياسات (الصمود) السابقة والمستمرة التي تجعل نخب الفساد الكبرى السورية قادرة على إدارة الدفّة إلى حيث يريد الأمريكيون.
العقوبات ليست جديدة على الاقتصاد السوري الذي يحتاج اليوم للخروج من هاوية الجوع والعوز والتدهور، ولن يستطيع أن يفعل ذلك جدياً إلا بسياسات هجومية ممكنة في عالم اليوم واللحظة الدولية التي نعيشها. إن جوهر الهجوم على العقوبات هو الهجوم على الدولار أداة هيمنة النظام المالي الغربي، واستبعاد وساطة المصارف الدولية وفروعها المحلية والإقليمية، وهو ما تفعله دول عديدة عبر العالم، ليست في معركة وجود كما هو حال سورية!
المسار السابق يقود نحو الهاوية
إذا اعتبرنا أن السياسات المتبعة خلال السنوات الماضية، وتحديداً منذ أواخر 2018 هي (سياسة لمواجهة العقوبات) فيمكن القول: إن هذه السياسة فشلت وتقودنا نحو هاوية، إذ أصبح بضعة مضاربين كبار قادرين على فرض هيمنة الدولار على كل عمليات التداول، لتغلق المحال التجارية الصغرى والكبرى مع الانهيار اليومي لليرة وارتفاع الدولار، كما يتدهور الإنتاج بكافة مستوياته لنصل إلى توقف اقتصادي وتراجع القدرة على تأمين الغذاء الكافي وصولاً إلى الدواء.
فعلى ماذا قامت هذه السياسات؟! عملياً لا يصح تسميتها (سياسات) بل إدارة فوضى تركت لقلة من الوسطاء أن يتحكموا بجهاز الدولة، ويفرضوا نسبة تراوحت بين 40- 60% تكلفة إضافية يتم دفعها من المال العام لهؤلاء وللمصارف الوسيطة محلياً ودولياً، يتم دفعها في كل عملية استيراد لصالح الحكومة، بل حتى استيراد القطاع الخاص الذي لا تطبق عليه العقوبات... ولكن تطبّق عليه تكاليف شحن ونقل وتأمين مماثلة، كما تدّعي شركات الأدوية مثلاً!
العقوبات تهدف إلى تفسّخ جهاز الدولة عبر عدم قدرته على تأمين الأساسيات وارتهانه (لأولياء أمر البلاد) الساعين لتأمين الحاجات الأساسية لها بالتكاليف الدولارية والحصص التي يفرضونها، والتي يعطون الغرب والمنظومة المصرفية حصة هامة منها! وهي حالة كانت تعيشها سورية قبل تشديد العقوبات، وتفاقمت إلى حد بعيد منذ نهاية 2018. السياسات الهجومية ينبغي أن تتضمن ليس فقط هجوماً على منظومة الدولار الدولية، بل على منظومة الدولار المحلية التابعة.
وسننتقل لبعض من التفصيل في شرح ما يمكن اعتباره لحظة دولية مناسبة لردع العقوبات.
العقوبات سلاح أمريكي مستمر حتى الردع
الغرب يعتمد اليوم العقوبات الدولية سلاحاً وأداة (دبلوماسية) أساسية في سياسته الدولية القائمة على مواجهة الأزمة العميقة والتراجع متعدد الأوجه للمنظومة الغربية: اقتصادياً وتكنولوجيا وعسكرياً.
لقد أصبح الردع العسكري الدولي واضح المعالم، وعطّل إلى حد بعيد الفعالية السياسية للعسكرة الغربية، إذ أنهى عملياً وظيفة (الناتو) وبدأت الولايات المتحدة بتحجيم دورها العسكري عالمياً، إذ لم تعد قادرة على التوسع أو فتح مواجهة مباشرة بل بدأنا نرى معالم (نقل قواتها لتواجه المجتمع الأمريكي في الداخل).
ولكن، هذا التراجع العسكري جعل السلاح المالي في المقدمة، واشتدت دائرة العقوبات الدولية على روسيا وإيران وسورية وغيرها، بل أكثر من ذلك على الاتحاد الأوروبي والصين في مشاريع محددة في مجالات الطاقة (مثل السيل الشمالي الأوروبي) وقطاع التكنولوجيا (كما في حالة هواوي الصينية)... وهو نهج لن تتراجع عنه الولايات المتحدة بل ستتمادى به، ويتفاقم إلى أن تكتمل آليات الردع المالي الدولي التي قد تحجّم القوة المالية الأمريكية، وتعيد الدولار أيضاً إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي لا يمكن تقدير آجاله الزمنية، ولكن المؤكّد أن الأزمة الحالية ستزيد سرعته.
الأمريكيون يرون هذا الهجوم الدولي على سلاح العقوبات وعلى الدولار، والذي يُبنى دولياً بجهود ومقدارت الصين بالدرجة الأولى، وكل خطوة صينية بهذا الاتجاه يقابلها صرخات غربية حول (تفكك هيمنة الدولار).
ردع السلاح المالي الأمريكي
إن الخروج من هيمنة المنظومة المالية للدولار لن يكون باستبداله بعملة أخرى، بل بإيجاد نظام تبادل دولي جديد... ولكن هذا في مرحلة متقدمة، بينما يمر عالم اليوم بمرحلة تحجيم السلاح المالي الأمريكي، وهي عملية مديدة وشهدت نقلات نوعية (مثل: فرض اليوان كعملة احتياطي دولية، وإصدار عقود النفط باليوان، وتوسيع القاعدة التكنولوجية المرتبطة بالخدمات المالية التي تراقب تحويل وحركة الأموال، مثل: نظام بديل عن سويفت ونظام gps مستقل، وهو ما يتم بين الصين وروسيا، وأبعد من ذلك العملات الرقمية وتحديداً العملة المرتقب صدورها عن البنك المركزي الصيني، والمشروع الموجود لدى عديد من البنوك المركزية عبر العالم)... وجميعها خطوات في عملية مستدامة وصعبة.
ولكن، بعيداً عن تفاصيل مستقبل المنظومة النقدية والمالية العالمية، فإن ما يعني المرحلة الحالية هو مواجهة العقوبات، سواء على المستوى الدولي أو السوري، وهو أمر تتوفر العديد من أدواته في الوقت الحالي.
وكما ذكرنا سابقاً فإن مواجهة العقوبات تتطلب أولاً: أن تتقلص كتلة الدولار في المبادلات المالية بين سورية والخارج واستبداله بعملات أخرى، ومن جهة ثانية: تتطلب مؤسسات مالية بديلة معزولة عن النظام المصرفي الغربي (أي لا تودع أموالها فيه، ولا تجري معاملاتها عبر منظومة سويفت مثلاً التي تضم أكثر من 10 آلاف مؤسسة مالية دولية، وغيرها من مكونات المنظومة المالية الغربية)، وتتطلب أطرافاً دولية رسمية تكون (أكبر من أن تطالها العقوبات)! (يمكن العودة إلى مادة قاسيون: العقوبات الاقتصادية: «العذول الأمريكي» يسرّع تكوّن بدائله لمزيد من التفاصيل).
اليوان في وجه الدولار والعقوبات
لم تعد الشروط السابقة لتجاوز العقوبات تعجيزية... وتحديداً مع المسعى الصيني الواضح لإزاحة الدولار واستخدام عملتها في تجارتها الدولية، منذ عام 2008 بدأت الصين بفتح خطوط swap (تبادل عملات بين البنوك المركزية لليوان مقابل العملة المحلية) امتدت بين 2008 و2015 لتشمل 35 بنكاً مركزياً عبر العالم وبقيمة تبادل عادلت 480 مليار دولار أمريكي مع مجموعة كبيرة من الدول في آسيا وأميركا اللاتينية، وأوروبا الشرقية بالإضافة إلى دول الخليج ومصر وتركيا، وحتى مع الاتحاد الأوروبي وكندا.
وتوسعت هذه العملية مع الاعتراف باليوان كعملة احتياطية دولية في عام 2016، حيث أصبح اليوان جزءاً من احتياطيات أكثر من 70 بنك مركزي عبر العالم، ما يعني إمكانية استخدامه في التبادلات الدولية مع الصين أو مع غيرها من الدول التي لديها احتياطي باليوان، أو المؤسسات التي تتداول به. (تقرير تتبع اليوان- SWIFT 2020).
كما أن الصين تُنشئ غالباً مع هذه الاتفاقيات مؤسسات مالية مستقلة، مثل: مجموعة بنوك المقاصة والتبادل التجاري المشتركة بين الصين ومجموعة من الدول أكثر من 24 بنك عبر العالم معنية بالتبادل التجاري باليوان، كما في بنك(BSCA) الكونغو للتبادل مع إفريقيا، ومع استراليا والفلبين وغيرها الكثير.
إن هذه الآليات الصينية بالتعامل المباشر مع البنوك المركزية وبالعملات المحلية وعبر مؤسسات مالية مستقلة ومختصة بالتبادل الثنائي تتيح إلى حد بعيد تجاوز العقوبات، أولاً: لأنها لا تستخدم الدولار ولا ترتبط بالمنظومة المصرفية أو منظومة التحويلات المالية الغربية، أي لا يمكن تعقّب معاملاتها وتبادلاتها ومنعها وإيقافها ومعاقبة المساهمين فيها، فهي تتم بعملة بديلة وبمؤسسات مستقلة وبغطاء البنك المركزي الصيني... وهو عدا عن كونه طرفاً رسمياً فإنه البنك المركزي لثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر شريك تجاري دولي لا يمكن أن يتم فرض عقوبات عليه، ولا يلتزم بالعقوبات الدولية أمريكية المنشأ.
كما أنه في العلاقات المالية مع الصين، فإن الوصول إلى توافقات حكومية يتيح عملياً الوصول إلى مجموعة من الشركات المملوكة للدولة الصينية، وهي من أهم الشركات في كافة المجالات، والتي يكون مستوى التزامها بالعقوبات الدولية أقل، وهي أكثر استقلالية عن المنظومة المصرفية الدولية، ويتيح أيضاً للقطاع الخاص على الأقل التعامل مع أكثر من 2241 مؤسسة مالية عبر العالم تتعامل باليوان.
كيف يمكن أن نستفيد من تجربة INSTEX؟
الظاهرة الثانية الهامة في تجاوز العقوبات هي: آلية INSTEX الأوروبية للتبادل التجاري مع إيران، الآلية التي أعلنت عن تأسيسها كل من: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في مطلع عام 2019... ورغم تأخر تفعيلها إلا أنها سجلت أول عملية تبادل في شهر آذار الماضي، ومن المفيد الاطلاع على آلية عملها للاستفادة منها.
عملياً INSTEX ستكون أقرب إلى شركة وليس بنك، لتعمل كوسيط يقدم خدمات لتسهيل التبادل التجاري والمدفوعات بين إيران والدول الأوروبية الثلاث، لتقوم بتأمين اليورو اللازم للمدفوعات، وتقلل عدد التحويلات والمعاملات الوسيطة اللازمة، وهو ما سيسمح للأطراف الأوروبية التي تُصدر لإيران بأن تستلم مدفوعاتهم مباشرة من التمويل الموجود ضمن أوروبا، وبالعكس.
الآلية تعتمد أيضاً على المقاصة بين الاستيراد والتصدير، فعلى سبيل المثال: مُصدّر أوروبي للأدوية إلى إيران يمكن أن يحصل على مدفوعاته من مستورد أوروبي للفستق من إيران، إذ تتيح الآلية أن يدفعا لبعضهما البعض داخل أوروبا وعبر الآلية، ويقوم الطرف الإيراني بإجراء عملية مماثلة داخل إيران، أي يدفع مُصدّر الفستق الإيراني إلى مستورد الأدوية. من المتوقع أن تنضم أطراف أخرى من داخل وخارج أوروبا إلى الآلية، مثل: الصين والهند واليابان، كما أن الشركة قد تفرض رسوماً بمعدل 2-3% من قيمة الصفقات، لتستطيع أن توازن المدفوعات وتمول العمليات، كما هي النسبة المدفوعة الآن للبنوك التي تسهل العمليات بين إيران وأوروبا.
المشكلة الأساسية التي تُعقّد العملية وتجعلها أصعب، هي أن الأطراف الغربية والأوروبية من شركات ومؤسسات مالية لن تندمج بسهولة في الآلية لأنها ستبقى عرضة لتطبيق العقوبات على أعمالها وأموالها الواسعة في الولايات المتحدة، والمشكلة الأخرى أن الهدف الإيراني الأساسي هو تصدير الطاقة بينما صادرات النفط تُطبق عليها أشدّ العقوبات الأمريكية، ما يجعل هذه الآلية أكثر تعقيداً وأصعب...
ولكن، بكافة الأحوال في الحالة السورية لا يمكن تطبيق هذه الآلية مع الاتحاد الأوروبي طالما أنه ملتزم بالعقوبات الدولية على سورية، كما أنه شريك في سنوات من العقوبات والتدهور السوري. ولكن الآلية مفيدة في حال تطبيقها مع الدول التي لدينا علاقات استيراد وفرص تصدير إليها، وتحديداً في حالتي إيران وروسيا، وهي يمكن أن تشكّل ممراً لبعض الدول العربية التي توجد فيها أطراف منفتحة لتجاوز العقوبات، أو حتى شركات تركية لا تزال أهم مَصدر لتوريد البضائع إلى سورية بعد الصين! كما يمكن دمج هذه الآلية في العلاقات المالية المستقلة مع الصين المذكورة سابقاً، الأمر الذي قد يتيح تحفيز الصادرات السورية، ويشكل غطاءً مستقلاً للأطراف المساهمة.
ضرورة سورية (وجودية)
إن فتح باب التعامل باليوان هو ضرورة سورية، فالصين هي الطرف الأقوى دولياً والأكثر قدرة على مواجهة العقوبات، كما أنها المصدر الأساسي والأقل تكلفة لمجموعة كبيرة من السلع الأساسية الغذائية والدوائية والصناعية إلى سورية. إن فتح حساب بالبنك المركزي السوري باليوان وتأسيس بنك مستقل للتعامل مع الصين يتيح للحكومة السورية أن تستورد دون وسطاء، وبتكلفة ثابتة للقطع الأجنبي المستخدم في عمليات التداول، حيث إن عقود SWAP (تبادل العملات) تكون بأسعار فائدة محددة وكميات محددة، وفترات زمنية محددة يتم تجديدها. كما أن مساهمة البنك في عمليات التأمين، وتمويل شراء سفن شحن سورية خاصة بهذا التبادل ينهي كل الكلف الإضافية: للدولار والمخاطرة وتكاليف التأمين والنقل والشحن التي توصل أسعار المستوردات السورية إلى نسبة أعلى من السعر العالمي بمقدار 40% وصولاً إلى 60% في العديد من السلع (المحروقات والقمح والسكر والأرز والزيوت والشاي والحبوب العلفية وغيرها... كما ورد في العديد من مواد قاسيون سابقاً).
كما أن هذه العملية يجب ألّا تشمل التعاملات الحكومية فقط، بل من المنطقي أن تمتد لتشمل المستوردين في القطاع الخاص، الذين يمكن أن يساهموا في البنوك المذكورة وفي تمويل الحسابات مقابل تقليل المخاطر والكلف والرسوم، بحيث يشكل البنك المستقل غطاءً لهم. كما يمكن أن تنشأ حسابات مقاصة عبر شركات مستقلة كما في حالة INSTEX للحصول على مستوردات نفطية من روسيا أو إيران مقابل تصدير لسلع وفوائض سورية باستخدام العملات المحلية، وهو ما تقوم به كل من إيران وروسيا مع دول في محيطها.
إن أطرافاً دولية وإقليمية عديدة سواء الصين أو روسيا أو إيران معنية بعدم نجاح العقوبات الأمريكية بالتحول إلى مفصل سياسي وانعطافة نحو التدهور واستعادة الفوضى والعنف في سورية ، وهي جميعها احتمالات جدية في حال الاستمرار بالوضع الحالي. وجميع هذه الأطراف لديها تجارب في هذا السياق ومنفتحة على خيارات من هذا النوع، (الصين وقعت عقوداً استثمارية مع إيران بقيمة 400 مليار دولار بعد تشديد العقوبات الأمريكية، وروسيا أعلنت مراراً أنها مستعدة للتعامل بعملتها مع أية دولة، كما أن الطرف الإيراني ساهم بالخط الائتماني لسنوات دون أن يستعيد إلاّ الجزء القليل من قيمة تزويده لسورية بالنفط، وهو يبادر اليوم بإيصال سفن النفط إلى فنزويلا محمية بالسلاح الإيراني!) ولكن الطرف السوري لا يبدو مبادراً حتى اليوم...
الأطراف المحلية التي تعتبر نفسها مسؤولة عن إدارة أزمة البلاد، مسؤولة عن تقديم تفسير لسبب عدم اتباع سياسات هجومية في وجه العقوبات، منطقياً لا يمكن تفسير عدم وجود مبادرات في هذا الإطار إلا بالمصالح الضيقة لنخبة فاسدة ومتنفذة تستفيد من العقوبات، ومن ارتفاع كلف الاستيراد، وتخشى المواجهة المالية مع الولايات المتحدة والغرب... وغير مستعدة لقطع الخيط الأخير المتبقي للعلاقات مع المنظومة الغربية، ولكن يجب أن يدرك هؤلاء، أن ما يفعلونه قد لا يُبقي بلاداً لينهبها أيّ منهم، وهذا ما تريده العقوبات!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 969