(ثمار) سياسية للعقوبات الاقتصادية
(السياسة هي تعبير مكثف عن الاقتصاد) هذا ما قاله لينين، ويعلمه الجميع... ولكن في بعض الحالات، تتحول الإجراءات الاقتصادية إلى أداة سياسية مباشرة، كما يفعل الغرب في منظومة عقوباته الاقتصادية التي يطبقها هنا وهناك. حيث تستخدم أدوات العزل الاقتصادي للضغط السياسي، ولكن الثمار السياسية تختلف بحسب التوازنات داخل البلدان المحاصرة.
إن كان لهذه الدول مشروع وطني جدي، عبر وزن سياسي فاعل للقوى الوطنية المحلية وإمكاناتٍ اقتصادية وبشرية جدية، يمكن أن تتحول العقوبات والعزل إلى فرصة لرفع إمكانات القدرات الاقتصادية المحلية، ولكن لا يمكن أن يخلو هذا من آثار وتشوهات في بنية الاقتصاد المحلي، ومن آثار هذا على العلاقات السياسية والاجتماعية، ولكن عموماً تدفع ثمن هذا، الطبقات والشرائح الأقل دخلاً ومرونة، والتي يتم التكيف مع العقوبات على حسابها.
عشتار محمود
أما إن أتت العقوبات أو العزل الاقتصادي في ظرف سياسي معقد، كما في الحالة السورية، وفي ظل اختلال كبير في موازين القوى المحلية لصالح كبرى قوى السوق، فإن العقوبات تساهم مساهمة فعالة في التدهور الاقتصادي والاجتماعي...
نتائج الإجراءات القسرية في سورية!
العقوبات المطبقة على سورية من قبل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، ودول مثل: كندا، وسويسرا وغيرها، لا تصنف كعقوبات اقتصادية دولية، بل إجراءات قسرية أحادية الجانب، نظراً لكونها لم تقر بإجماع دولي. إن العقوبات المطبقة على الجهات الحكومية السورية، وعلى القطاعات المالية والمصرفية، والتجارية، والنفطية، والنقل الجوي. ساهمت إلى حدٍ بعيدٍ في إضعاف النشاط الاقتصادي العام لجهاز الدولة، بينما أتاحت إمكانات استفادة واسعة لقوى النفوذ المالي الاقتصادي، التي زادت من رهن جهاز الدولة لمصلحتها، بعد أن أصبح مكبلاً بهذه الإجراءات.
ويمكن تصنيف الآثار الاقتصادية والسياسية للإجراءات القسرية الغربية والعربية وفق التالي:
التراجع الكبير والسريع
في قدرات جهاز الدولة:
صادرت الدول التي طبقت العقوبات على سورية، أرصدة الحكومة السورية في الخارج، أي أنها صادرت الاموال العامة السورية التي أنتجها السوريون، وتحولت لمال عام. ولكن هذا أقل ما يذكر... حيث ساهمت الإجراءات التي طبقت على قطاع النفط السوري، وتجارته، بتراجع كبير وسريع في الموارد النفطية العامة، في بداية الأزمة. وخلقت ضعفاً مالياً مفاجئاً، تمت معالجته بالضخ النقدي، والدين الحكومي. وبدأت من هنا عملية استمرت طوال الأزمة بتوسيع الدين الحكومي، وما له من آثار مالية ونقدية هامة، أهمها: ارتفاع أسعار المشتقات النفطية وتحريرها، وارتفاع تكاليف الإنتاج والمستوى العام للأسعار، وتراجع قيمة الليرة، وارتفاع مستوى التضخم، وتراجع الأجور الحقيقية، وبدأ الفقر يتوسع ليطال أغلبية السوريين. أما على الضفة الأخرى، فإن تراجع الإيرادات العامة الذي أضعف الدور الاقتصادي لجهاز الدولة، شكّل فرصة لقوى الليبرالية وقوى السوق الكبرى، التي كانت تسعى إلى تحويل القطاعات الحكومية الرئيسة، إلى حقوق ملكية باسمها في السوق، مستندة على ذريعة ضعف الموارد العامة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: تخصخصت شركات الخليوي، وأصبحت شركات خاصة قابضة تدير الأملاك العقارية العامة.
توسع دور وثروة قوى السوق والنفوذ
تمنع الإجراءات جهاز الدولة السوري، من أشكال التعامل الاقتصادي الخارجي كافة، إلا بحدود ضيقة. وقد أدى هذا إلى توسع كبير في الاعتماد على كبار الوسطاء من الدوائر الضيقة، لتأمين المستلزمات العامة كله، ومقابل هذا تحصل على حصة وريع للمخاطرة، أي مكاسب وأثمان سياسية واقتصادية لدور ووزن هؤلاء. إضافة إلى هذا فإن الإجراءات التي تمنع الطرق النظامية، تجعل الطرق الملتوية ضرورية لتجاوز العقوبات، ويتحول أسلوب عمل هؤلاء إلى (الشرعية الاقتصادية)، مما يعزز من حالات الفوضى والتهريب والاعتماد على المليشيات بأنواعها. وانعكس هذا انزياحاً كبيراً في السياسيات الاقتصادية، بما يلائم أوزان كبار الوسطاء، ويعاكس المصلحة العامة بطبيعة الحال، فتسرب على سبيل المثال: الجزء الأهم من احتياطي القطع الأجنبي إلى قوى السوق الكبرى، لتلبي حاجات الاستيراد، ولتلبية حاجاتها المضاربية كذلك الأمر. واحتجبت الأموال العامة عن أية مساهمة إنتاجية، كانت تقوم بها سابقاً، سواء في الاستثمار العام أو حتى في الإنفاق على دعم الإنتاج، وقد كان الاقتصاد السوري بأمسّ الحاجة لها في ظروف الأزمة. حيث أصبحت مصالح هؤلاء القلة المتنفذة محدداً للسياسات الاقتصادية. ومصالحهم ليست في الإنتاج، بل في الريع والمضاربة والتجارة والصفقات. وكان لهذا أثر حاسم في مستوى تدهور الإنتاج المحلي، وفقدان أي قرار أو رغبة بترميمه ودعمه، وأثر كذلك الأمر في الأسعار الاحتكارية العالية في السوق السورية، وللمستوردات تحديداً. حيث أصبحت أسعار الوقود والمشتقات النفطية في السوق السوداء السورية أعلى من الأسعار العالمية، وغدت أسعار الغذاء المستورد في السوق السورية، أعلى من أسعار تصديرها العالمية بنسبة 80 % وسطياً (قاسيون 832). ورغم أن بعض الدول التي لم تلتزم بالعقوبات، أتاحت مسارب لتأمين الحاجات الأساسية لجهاز الدولة السوري، إلا أن هذا لم يمنع أو يقلل من دور هؤلاء، بل امتلكوا القدرة على الاستفادة من بعض المواد، مثل: المنتجات النفطية التي انتقل الجزء الأعظم منها للسوق الداخلية والخارجية، بمرابح عالية، رغم أن توزيعها حكومي حصراً. وكذلك امتلكوا القدرة على استثمار جزء هام من المساعدات الإنسانية الدولية...
وبالنتيجة، فإن الطابع الاحتكاري والريعي للسوق السورية قد توسع إلى حد بعيد، وتمركز المزيد من الثروة لدى قلة القلة، وأصبحت المضاربة بالعملة والعقارات والسلع نشاط اقتصادي أساسي. وبالتأكيد فإن مزيداً من الاحتكار والثروة لدى هؤلاء، يعني مزيداً من الجوع والفاقة والبطالة لدى الأغلبية.
التقديرات الدولية تقول: إن الاقتصاد السوري قد خسر قرابة 60% من الناتج الذي كان ينتجه في عام 2010، وتقدر، أن الفقر يطال 80%، بينما في الحقيقة فإن كل أسرة سورية دخلها أقل من 500 دولار تقريباً، لا تستطيع أن تؤمن حاجاتها الخمس الأساسية، ومقابل هذا الرقم فإن الأجر الوسطي السوري لا يزال قرابة 75 دولار شهرياً! أي أن الأسرة داخل سورية تحتاج إلى 6 دخول وسطية لتخرج من دائرة الفقر والعوز الشديد. (قاسيون 843). لا يمكن إجراء تقدير دقيق للخسائر الاقتصادية جراء العقوبات الاقتصادية الغربية والعربية، وإن كان البعض يقدر أنه حتى نهاية 2014 كانت الخسائر المرتبطة بالعقوبات تقارب 20 مليار دولار (المركز السوري لبحوث السياسيات بالتعاون مع UNDP) إلا أن الرقم الفعلي قد يفوق هذا، وهو يتشابك مع أرقام الخسائر السورية كلها، خسائر الناتج، والفقر، والبطالة. وهو شريك كذلك الأمر في المرابح الكبرى للقلة القليلة من أصحاب النفوذ الاقتصادي والمالي، وقوى السوق الكبرى داخل سورية... حجزت العقوبات أموالاً واستثمارات لمتنفذين سوريين كبار، وهي في معظمها أموال فساد وإثراء من التراجع الاقتصادي السوري خلال عقود مضت، وضعوها في هذه الدول التي كانت الشريك الاقتصادي السوري الأساسي، فإن هذه الدول بإجراءاتها قد أتاحت لأغلبيتهم فرصة هامة بتكديس أضعاف مضاعفة من خسائر السوريين خلال سنوات الأزمة.