العقوبات الاقتصادية مابين الفرصة والأزمة البنيوية
مستوى الجدوى من العقوبات الاقتصادية والعزل الاقتصادي، يعتمد على مستوى انكشاف اقتصاد الدولة المعاقبة على اقتصاديات الدول المشتركة بالعقوبات، ومستوى الانكشاف يعتمد على حجم التعامل الاقتصادي والشراكات الاقتصادية،
يتعلق تأثير العقوبات بمستوى الانكشاف على الخارج وهو ما يرتبط بمستويين أولهما العلاقات المالية والمصرفية، وثانيهما التجارة الخارجية، فكلما زاد اتساع هذين العاملين في بنية الاقتصاد زاد عمق تأثير العقوبات على المستوى الكلي. من حيث إيرادات الدولة، النشاط الاقتصادي، التضخم ومستوى الأسعار، قيمة العملة، البطالة ومستوى المعيشة..
وهذا ما يفسر ضعف تأثير العقوبات الاقتصادية الأميركية السابقة المفروضة على سورية، حيث لاتعتبر سورية شريكاً اقتصادياً للولايات المتحدة الأميركية من حيث التبادل التجاري حيث لا تتجاوز صادراتنا ووارداتنا إلى الولايات المتحدة 3 مليار ليرة سنوياً. أما في القطاع المصرفي فعلى الرغم من هيمنة الولايات المتحدة على النظام المصرفي العالمي وقدرتها على الضغط والتأثير عليه بالإضافة لهيمنة عملتها العالمية، فإن ضعف اندماج سورية في النظام المصرفي الدولي، إضافة إلى علاقاتها التجارية الواسعة مع الاتحاد الأوروبي واعتماد اليورو في كثير من المبادلات جعل هذه العقوبات السابقة محدودة التأثير. إلا أن عقوبات اليوم تختلف عن عقوبات الأمس من حيث اتساع رقعة تأثيرها، ودخول أهم الشركاء التجاريين لسورية (الدول العربية والاتحاد الأوروبي) في الالتزام بهذه العقوبات فاتساع التشابك التجاري مع هذه الدول استدعى اتساع الحاجة للتعامل المصرفي والمالي، وساهم بتأثيرات كبرى مع العوامل الأخرى في تراجع على المستوى الكلي للاقتصاد السوري.
العلاقات المالية والمصرفية:
العلاقة مع النظام المصرفي العالمي ضعيفة في سورية، تحديداً من حيث تعاملات الحكومة مع المصارف العالمية، ويعود ذلك إلى العقوبات الاقتصادية القديمة على المصرف التجاري السوري، وغياب استثمارات حكومية خارجية، ووجود احتياطي كبير يساعد على تسريع الصفقات الدولية في التجارة الخارجية بدون اقراض, ولعل أهم مايدل على ذلك هو أن 95% من الكتلة النقدية السورية خارج النظام المصرفي، أي أن المصارف كبنية في سورية لاتزال ضعيفة جداً.
بدأت العقوبات مع القطاع المصرفي والمالي لتشمل حظر التعامل مع البنك المركزي ، المصرف التجاري السوري، المصرف التجاري السوري اللبناني، مصارف حكومية أخرى مثل المصرف الصناعي، مصرف التوفير، المصرف الزراعي التعاوني، بنك التسليف الشعبي. والحظر يعني رفض التعامل مع هذه المصارف أو منع إقامة العلاقة مع شركات ومؤسسات سورية عامة أو خاصة من خلالها، سواء على النظام المصرفي أو على الشخصيات الاعتبارية.
ويقتصر أثر العقوبات المباشر على تجميد أصول المصرف التجاري في الخارج وهو رقم غير معلن، ويضاف إليه التحفظ على إرسال العملة السورية المطبوعة في مطابع أوروبية وهو أيضاً رقم غير معلن. أما أبعد من الخسائر المباشرة فإن العقوبات المالية والمصرفية بعيدة وعميقة الأثر حيث يعتبر كل من البنك المركزي والبنك التجاري السوري، البنوك الأساسية التي تقوم على تعاملات الحكومة السورية مع العالم الخارجي، أي تتم من خلالهما عمليات الاستيراد والتصدير للقطاع العام، ويتم من خلالهما جزء كبير من عمليات الاستيراد والتصدير للقطاع الخاص أيضاً ( حيث أن النسبة الضئيلة 10% التي تشكلها تسليفات التجاري للقطاع الخاص هي النسبة الأكبر بالمقارنة مع تسليف البنوك الخاصة للقطاع الخاص)، بالإضافة إلى سياسات تمويل الواردات السابقة من البنك المركزي بالقطع الأجنبي لمستوردي القطاع الخاص. فتؤدي القيود المفروضة على المصرف التجاري خاصة ومنع تحويل الدولار إلى سورية، إلى ارتفاع تكاليف المعاملات وارتفاع تكاليف المستوردات بسبب صعوبة التعاقد من جهة وارتفاع تكاليف المخاطر من جهة أخرى، يضاف إليه تكاليف دخول الوسطاءالذين يتم من خلالهم تحويل العملات والدفع. لذلك تعتبر العقوبات المصرفية والمالية هي العقوبات الأوسع تأثيراً حيث تطال إعاقة عمليات التجارة الخارجية، وما يستتبعها من تأثيرات كبرى على الاقتصاد الكلي. وهو ما يربطنا مع الجانب الآخر من الانكشاف على العالم الخارجي وتوسيع أثر العقوبات وهو حجم التجارة الخارجية.
التجارة الخارجية:
يشكل التبادل التجاري نسبة تتراوح بين 35-43 % من الإنتاج المحلي السوري. وذلك في كل من القطاعين العام والخاص. بالبداية مع القطاع العام فإن العقوبات تركز بشكل أساسي على شل حركة قطاع الدولة ومؤسساتها الإنتاجية والخدمية التي تعود وارداتها إلى خزينة الدولة السورية، وهو ممكن وتحديداً إذا علمنا أن هذا القطاع يعتمد وبشكل كبير على الواردات من الخارج في السلع الأساسية والوسيطة والثقيلة. حيث بلغ حجم مستوردات القطاع العام 205 مليار ليرة، بينما تبلغ صادراته 288 مليار ليرة ( بما فيها النفط الخام 209 مليار) وذلك في عام 2010
ففي قطاع النفط يتم الاعتماد بشكل أساسي على الشركات الأجنبية في الاستخراج والخبراء والمعدات، (منعت العقوبات الأوروبية على سبيل المثال تصدير معدات مخصصة لإنتاج النفط والغاز)، وعلى الرغم من وجود مصفاتين لتكرير النفط إلا استهلاك المشتقات النفطية يعتمد على الاستيراد بنسب كبيرة، مقابل تصدير النفط الخام. في هذا العام تراجع الإنتاج النفطي بمقدار 42% مقابل توقف تصدير النفط الخام تقريباً ( حيث يصدر بنسبة 95% إلى أوروبا).حيث تشكل الايردات النفطية 16 - 17 % من واردات الدولة، وتشكل نسبة 72% من قيمة صادرات القطاع العام.
أما القطاع الخاص فلابد أن تأثره المباشر بالعقوبات أقل وذلك لأن حظر التعامل تم على شركات ومصارف ومؤسسات الدولة السورية، وجهاتها الرسمية، لذلك يبقى تأثير العقوبات على هذا القطاع بشكل غير مباشر بنتيجة التراجع الكلي في الاقتصاد السوري، وهذا لايمنع من أن قرارات من نوع وقف تمويل الواردات من البنك المركزي، ومن المصرف التجاري، وإلغاءهما كمصدر للقطع، لها أثر كبير على تعامل القطاع الخاص مع العالم الخارجي، إلا أن لهذا القطاع في سورية خصوصية هي بعلاقاته الواسعة التي كونها خلال الفترات الماضية،( قبل أن ينتقل حجمه المباشر في الاقتصاد السوري ودعم الدولة له إلى العلن) وهذه العلاقات تجعل الصعوبات المصرفية والمالية مقتصرة على تأخير وارتفاع كلف تأمين، وتجعل من الحصول على القطع مشكلة في ظل غياب السخاء السابق للمصرف المركزي، في التزويد بالقطع.
اليوم يقدر الدارسون تراجع الصادرات السورية تقديراً بسبب غياب المعلومات من المراكز الرسمية، ويتم التقدير بناء على حجم التعامل مع كل من الكتل الاقتصادية المشاركة بالعقوبات والتي تحتل النسبة الأكبر من التبادل التجاري.
العقوبات تمنع مواد أساسية :
تعيق العقوبات وصول بعض المواد الأساسية سواء من حيث حاجة المواطنين الماسة لها، أو من خلال تشابكاتها القطاعية ما بين الاستهلاك المنزلي والقطاعات الإنتاجية. وفي مقدمتها المشتقات النفطية المازوت والغاز والفيول، وهي المواد التي تعتبر المدخل الرئيسي في قطاع الإنتاج بسورية، ولكن استهلاكها الرئيسي في قطاعي الاستهلاك المنزلي والنقل.
تستورد سورية 40% من حاجتها للمازوت، أما من الغاز فنستورد مانسبته حوالي 50% من حاجة الاستهلاك المحلي.
أي أن العقوبات تمنع وصول نصف حاجة السوريين من هذه المواد الأساسية، وأدت بالتعاون مع الفساد وأرقام التهريب الكبيرة إلى حصول اختناقات كبرى في هذه المواد.
الأدوية التي يتكفل قطاع الدولة بتقديمها مجاناً وتحديداً الأدوية الكيماوية السرطانية وأدوية زرع الكلية وأدوية الأمراض المزمنة واللقاحات هي إحدى المواد التي تعيق العقوبات وصولها إلى سورية، حيث تتناقص هذه الأدوية في مشافي المحافظات ولا تزال موجودة في مشافي الدولة الرئيسية، وصعوبة استيرادها تتعلق بإعاقة العقوبات المالية والمصرفية على البنوك الحكومية، وصعوبة فتح الاعتمادات وتحويل الأموال إلى الشركات الموردة.
شبكة إنقاذ إقليمية
تتكلم الصحافة ومراكز الدراسات العربية «بأسى» عن الشبكة الإقليمية من العلاقات السورية التي محورها العراق وايران والتي تساعد سورية على تجاوز أزمتها الاقتصادية وتجاوز أثر العقوبات.
وتؤكد توجهات الحكومة السورية وبعض التصريحات على صحة هذا التوجه ومتانته، ويضاف إليه أيضاً دور روسيا الواضح في عملية الدعم الاقتصادي، إلا أن المعطيات الرقمية الدقيقية تبقى غير موثقة نظراً لغياب المعطيات الرسمية ..
في تقرير لهيئة تنمية وترويج الصادرات يذكر بأن زيادة الصادرات في عام 2011 إلى العراق بلغت 40%، أما إلى ايران فقد بلغت 100 %.
جاء في هذا السياق في دراسة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: « تبنت كل من إيران والعراق مع بداية العقوبات سياسة حازمة وواضحة نحو تبني الصادرات السورية، وساعد انخفاض سعر صرف الليرة السورية على تشجيع المصدرين، سهل العراق دخول المنتجات السورية لمدة ستة شهور من دون التقيد بشهادات شروط الجودة والتصديق القنصلي، وقامت إيران بشراء كل فائض من معظم المنتجات السورية بشروط ميسرة وتشجيعية، وأعفيت بضائع سورية(قائمة مؤلفة من 68 سلعة) بقيمة مليار دولار من 60 % من الرسوم الجمركية. وساعد ذلك الصناعة التحويلية في سورية (بناء على مقابلات مع صناعيين سوريين) حيث يتداول بأن بعض المعامل الصناعية في حلب قبل التوتر الأمني قد احتاجت إلى العمل بكامل طاقتها الإنتاجية لتلبية الطلب العراقي والإيراني..»
تظهر الأزمة الاقتصادية والسياسية في سورية بأنها بداية لمفترق طرق على صعيد النظام العالمي اقتصادياً وسياسياً، فكما وضعت القوى الصاعدة ثقلاً سياسياً نوعياً في كبح اتجاه الهيمنة الغربية على القرار الدولي بالحرب والسلم وبالتدخل السافر في شؤون الدول، يبدو أن هذه اللحظة هي اللحظة المناسبة لكي تضع ثقلاً نوعياً باتجاه تعميق العلاقات الاقتصادية، وهي العملية التي تعتبر حجر الأساس في متانة أي توجه سياسي، ولكنها تبقى الأصعب، تحديداً مع هيمنة الغرب الاقتصادية التي تبقى بأدوات كثيرة لتحارب التوجه الجديد، وهو ما يظهر بشكل جلي في سورية حيث تحارب قوى الفساد وسمسرة الغرب التوجه نحو الشرق. التوجه الذي يخسرها عمولاتها وأدوات هيمنتها، ومن هنا العقوبات على سورية على الرغم من عمق تأثيرها ومن تحويلها - مع عوامل أخرى- الأزمة الاقتصادية السورية إلى معضلة بنيوية تحتاج عملاً دؤوباً، إلا أنها تحمل في جانب من جوانبها تسريع ولادة الفضاء الاقتصادي الإقليمي الذي يتناسب مع النموذج الاقتصادي السوري القادم لا محالة.