الموافقة على العقوبات... خيانة وطنية موصوفة!
نشرت دائرة العمل الخارجي الأوروبي يوم الخامس من الشهر الجاري على حسابها الرسمي على تويتر فيديو ترويجي (2د 45ثا) يتناول العقوبات الأوروبية على سورية، ويدّعي أنها «صُممت بحيث تتجنب إحداث تأثير سلبي على الشعب».
دائرة العمل الخارجي الأوروبي EEAS، والتي باتت مشلولة بالكامل منذ عدة أشهر وعاجزة عن اتخاذ أي موقف موحد عدا متابعة فرض العقوبات على سورية، توضح في مقطعها الترويجي أن الاتحاد الأوروبي: «استهدف بعقوباته 273 شخصاً و70 كياناً، ويعرف معظم السوريين هؤلاء ويعرفون ما قاموا به».
نَشْرُ الفيديو في ظل التهاوي الكارثي والمتسارع لمستوى معيشة ما يزيد عن 20 مليون سوري موجودين على الأراضي السورية في المناطق المختلفة، يوحي بأنّه محاولة أوروبية للتبرؤ من الآثار الكارثية للعقوبات. أكثر من ذلك، فإنّ نشره قبل أيام من دخول حزمة العقوبات الأمريكية الجديدة «قيصر» حيّز التنفيذ، يبدو من جهة تمايزاً ونأياً بالنفس عن آثار قيصر، ولكن من جهة أخرى وفي الوقت نفسه، يأتي دعماً لقيصر عبر محاولة تبرير المنطق العام لآلية العقوبات؛ بالقول إنها تستهدف أشخاصاً محددين وكيانات محددة وتتجنب إصابة الشعب.
نعم نعرفهم جيداً!
يوضح الفيديو آنف الذكر أن المعاقبين «1- ممنوعون من السفر إلى الاتحاد الأوروبي. 2- تم تجميد أموالهم وأصولهم المودعة في حسابات لدى مصارف الاتحاد الأوروبي».
وهذه العقوبات، والعقوبات الغربية عموماً، تضم مجموعة من الأسماء، بينها أسماء شهيرة حقاً بفسادها وتسلطها، ومن الصحيح تماماً أن السوريين يعرفونها جيداً، ويعرفونها أكثر بكثير مما يعرفها الاتحاد الأوروبي، لأنهم يرون كيف يزداد ثراؤها الفاحش وتسلطها العنيف يوماً وراء الآخر، بل ويرون كيف تتحول العقوبات نفسها إلى مزراب ذهب لتضخيم هوامش النهب والسرقة عبر الاستيراد والسمسرة والتحويلات كما سنوضح تالياً.
قبل ذلك لا بد من القول إنّ الاقتناع بتضرر الفاسدين الكبار في سورية من تجميد حساباتهم، يحتاج قدراً عجيباً من السذاجة؛ فعشرات وربما مئات مليارات الدولارات التي نهبت من سورية عبر عقود متتالية، ليست مودعة بالخارج بالأسماء الصريحة للناهبين، بل هي موجودة ضمن شبكات شديدة التعقيد من (الأوفشورز) وعبر واجهات وواجهات لواجهات... وغيرها من أدوات الاحتيال المالي. والأرصدة الموضوعة بالأسماء الصريحة قد لا تتجاوز «مصروف جيب سياحي» للفاسدين الكبار، أي عشرات ملايين الدولارات. ولكن لا ينبغي أن يستنتج أحد أنّنا منزعجون من تجميد (مصروف الجيب ذاك)، فتجميده الآن قد يسمح للسوريين باستعادته لاحقاً، إذا لم تنهبه البنوك الأوروبية كما فعلت في حالات مشابهة.
أما ما يتعلق بمنعهم من السفر إلى الاتحاد الأوروبي، فهو أمر محزن حقاً؛ إذ فقد هؤلاء إحدى وجهاتهم السياحية...
البنوك الأوروبية بوصفها «فاعل خير»!
العقوبات على الكيانات تشمل تجميداً لأرصدتها، كما تشمل منعها من الدخول في تعاملات تجارية مع أوروبا. بين تلك الكيانات مثلاً مصارف سورية الرسمية، ولكن لأنّ البنوك الأوروبية قلبها لله، فإذا شاءت تلك الكيانات أن تستورد غذاءً أو أدوية فإنها لا تمنعها من ذلك.
ولكن لكي تتأكد من أنّ الأموال ستصرف على ذلك النوع المسموح به من البضائع، فإنها تدخل بوصفها وسيطاً ومراقباً ضمن أي صفقة شراء غذاء أو دواء، بل وتتحكم باختيار جهة الشراء وسعره، وذلك بالتعاون والتقاسم مع الوسطاء المحليين (هؤلاء في حالات كثيرة هم مجرد واجهات لفاسدين أكبر "تشملهم العقوبات"). وبهذه الطريقة، فإنّ البنزين مثلاً جرى استيراده لسورية هذا العام بسعر بلغ ثلاثة أضعاف السعر العالمي، (لمزيد من التفاصيل راجع مادة: البنزين المستورد لسورية 3 أضعاف العالمي: وربح العقوبات قد يصل 920 مليون دولار سنوياً- قاسيون العدد 965). ربح العقوبات هذا يتم اقتسامه بين المستوردين السوريين وبين البنوك الإقليمية والدولية كضمانات «مخاطرة»، وكسمسرة وعمولات. ومن هم هؤلاء المستوردون؟ هل نعرفهم؟ نعم، نعرفهم جيداً...
من الأمثلة التي تصب في طاحون النهب نفسه، (والتي قدمت قاسيون دراسات لها في أعداد سابقةٍ يمكن الانتقال إليها عبر الروابط في النسخة الالكترونية من المادة)، يمكن أن نذكر القمح حيث يرتفع هامش ربح المستوردين بمقدار 53-74%، السكر والرز والشاي وأعلاف الدواجن: الذرة وكسبة الصويا، والتي وصلت أرباحها في بعض الحالات إلى حدود 500%.
جزء مهم من هذه الأرباح يتعلق بمسألتين، الأولى هي أنّ عمليات الاحتكار نمت بشكل مطرد في ظل العقوبات التي تضيق المنافذ الطبيعية وتفتح الباب أمام درجات تحكم أعلى فأعلى بالسوق الداخلي، ويمكن القول إنّ المستوردين الكبار قد ابتلعوا السوق والناس. المسألة الثانية التي عززت الأولى، بل ولعبت دوراً حاسماً فيها، هي آلية تمويل المستوردات؛ حيث قدم المصرف المركزي السوري تسهيلات لمستوردي المواد الأساسية (الذين بات الكبار بينهم يعدون على أصابع اليد الواحدة) بأن زوّدهم بدولارات بسعر 438 ليرة سورية للدولار الواحد حين كان سعر صرف الدولار بحدود 1350 ليرة سورية (وصل يوم الأحد 6/6 الساعة الثانية ظهراً إلى 2600 ليرة في السوق السوداء). أي أنّ ربحاً إضافياً شديد الضخامة، يجري تحصيله من الفرق بين ما يدفعه المستورد كسعر للدولار وبين سعر المبيع (المدعوم) في السوق السورية، وهو سعر لا يحتاج أن يتجاوز السعر العالمي كي يحقق أرباحاً فلكية، ولكنه يفعل ذلك في عدة بضائع، منها البنزين كما أسلفنا.
وبما أنّ المصرف المركزي السوري، وكما شأن المصارف الأوروبية، فاعل خير أيضاً، لذا فإنه يختار من المستوردين من ينال حظوة الدولار المنخفض ومن لا ينالها. هل نعرف من هم أصحاب الحظوة؟ نعم نعرفهم جيداً. هل تجهل الحكومات الأوروبية ذلك؟ نعم بلا شك، فهي حكومات فاعلة خير وقلبها لله أيضاً.
منع التحويلات
تحويلات المغتربين والمهجرين واللاجئين السوريين إلى أهاليهم في الداخل، هي جانب آخر في العقوبات يستحق الوقوف عنده. فبين الإجراءات العقابية تشديد الرقابة وتضييق القنوات المفتوحة للتحويلات المالية. الأمر الذي يسمح للسلطات في سورية بتمرير تحويلات المغتربين (أو قسم مهم منها) عبر قنوات محددة تفرض عليهم استلام التحويلات بأسعار صرف أقل بكثير من السعر في السوق السوداء. جرى تثبيت سعر استلام الحوالات على 700 ليرة سورية في حين وصل سعر الصرف الآن إلى 2675 ليرة (تغيّر خلال كتابة هذه المادة)، ما يعني في حال استمرار سعر 700 ليرة للدولار الواحد، أنّ العائلات السورية التي تستند إلى تحويلات بين 50 و200 دولار شهرياً لكي تتمكن من تأمين غذائها الأساسي فحسب، ستخسر ما يصل إلى 74% من القيمة الفعلية لتلك الحوالات، وستنحدر تحت مستوى الفقر المطلق وصولاً إلى الجوع، وهو أمر قد وصلت إليه فعلاً عائلات سورية كثيرة.
أين تصب هذه الفروقات المنهوبة؟ هل نعرف؟ نعم نعرف جيداً...
الموافقة على العقوبات خيانة وطنية
الوقائع الملموسة، بل والقاتلة، تثبت أنّ العقوبات لم تحقق أياً من أهدافها المعلنة، بل وعلى العكس من ذلك، فقد زادت ثراء الفاسدين الكبار بشكل فاحش. هؤلاء الفاسدون، ما يزالون مصرين على أوروبا كشريك تجاري أول وعلى الدولار واليورو كعملة تبادل، رغم وجود البدائل، لأن أياً من البدائل ليس كريماً بقدر كرم الاتحاد الأوروبي معهم.
الوقائع تثبت أيضاً أن «معاقَبي الغرب» وبالتعاون معه، قد عمقوا مأساة الشعب السوري وأثخنوا في جراحه الغائرة.
إنّ موافقة أي سوري على العقوبات الغربية أو قيصر، وبالإضافة إلى كونه انحيازاً لمصلحة الفاسدين الكبار ضد مصلحة الشعب السوري، فإنه خيانة وطنية موصوفة، وأياً تكن الأكاذيب والذرائع التي يجري تغطية تلك الخيانة بها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 969