أزمة الطاقة... أقل من نصف الحاجات الدنيا بين التمويل وتجاوز العقوبات
لماذا يصعب لهذه الدرجة تأمين تدفقات مستقرة من الطاقة؟! هل هي العقوبات؟! تنفي الجهات المسؤولة السورية أن تكون العقوبات سبباً أساسياً في الأزمة الاقتصادية الحالية، بل تشير إلى التكيّف معها، وأنها كانت موجودة سابقاً... وتُرجع المشكلة إلى نقص الدولار، وتحديداً نقصه لدى المالية العامة، وعدم القدرة على التسديد للموردين.
حتى الآن لم توزّع مخصصات مازوت التدفئة للشتاء، وحركة النقل العام أقل بسبب عدم توفّر المازوت... ولم تنتهِ عملياً أزمة البنزين، فالمخصصات المدعومة قلّت والأسعار ارتفعت، وما زال تأمين البنزين مشكلة، والأهم: أن الكهرباء لا تحصل إلا على أقل من نصف الطاقة اللازمة لتأمين الأساسيات، وفق تصريحات وزير الكهرباء، الفشل في تأمين تدفقات الطاقة هو فشل ذريع ومتكرر، وهو في جذر التدهور الاقتصادي الذي يجرّ معه كوارث إنسانية أعمق.
إن تأمين تدفقات الطاقة بحصة للفرد تقارب مستويات عام 2010 تعني عملياً تأمين ما يقارب 14 مليون برميل مكافئ نفطي، هذا لتلبية حاجات 15 مليون شخص فقط! وقد ترتفع هذه الحاجة إلى 18 مليون برميل مكافئ نفطي سنوياً، إذا ما كنا نتحدث عن تأمين الحاجات الوسطية من الطاقة لـ 19-20 مليون شخص عندما يتم الحديث عن إدارة كامل مناطق البلاد، أو إعادة اللاجئين من لبنان والأردن ومصر مثلاً...
وفق الإنتاج المحلي من الغاز والنفط لعام 2018 فإن تأمين هذه الكميات يتطلب استيراد ما يقارب نصف الطاقة الضرورية، وما يقارب 7 ملايين طن نفط خام. مع ما يحتاجه هذا من تدفقات مالية، وآليات لتجاوز العقوبات وتأمين السفن وعبورها.
الحاجة إلى استيراد 7 ملايين طن نفط
إنّ حاجات الاستيراد الضرورية وبالحدود الدنيا لعدد السكان حالياً، ولحل أزمة الطاقة تتطلب استيراد: 50 مليون برميل نفط خام سنوياً، وحوالي 140 ألف برميل يومياً... وهو ما يعادل 7 ملايين طن من النفط الخام سنوياً.
مالياً، يمكن القول: إن تكلفة هذه المستوردات النفطية قد تقارب 2.5 مليار دولار سنوياً، وهي المبالغ اللازمة لتغطية هذه الحاجات (وفق الأسعار الحالية للنفط الخام العالمي مع هامش 10% إضافية: 47$ للبرميل). مع أن العقود الفعلية يمكن أن توقّع على أسعار أقل في ظل تراجع الطلب العالمي على النفط، ولكن قد يصعب هذا في الحالة السورية. ومبلغ 2.5 مليار دولار يعادل اليوم ثلثي الموازنة السورية وفق دولار السوق، والأهم أنه مطلوب بالقطع الأجنبي.
إنّ شح الموارد المالية العامة وتحديداً من القطع الأجنبي هو المشكلة الأكبر في تأمين الطاقة، وعملياً لا يتوفر تدفق قطع أجنبي للخزانة العامة إلا من آليات، مثل: بعض الصادرات التي تقلصت إلى حد بعيد، والتي لا يعود إلا جزء من قطعها الأجنبي للخزانة العامة، إضافة إلى أنواع الرسوم وخدمات السفارات في الخارج وجوانب ثانوية أخرى... بينما المورد الأساس لتدفق القطع الأجنبي المتمثل بالحوالات في ظروف سورية الحالية، يتم تحويله إلى السوق السوداء.
إنّ آخر تقديرات رسمية للحوالات كانت في عام 2018 وقاربت في حينها 3 مليارات دولار كتلة الحوالات السنوية الواصلة إلى الوجهات الرسمية، عندما كان سعر صرف المركزي والسوق متقاربان (480 ليرة في المركزي مقابل أقل من 500 ليرة في السوق). ويمكن أن تعود هذه الحوالات إلى التدفق فيما لو تمّ تصحيح سعر الصرف الوهمي المتمثل بسعر 1250 ليرة، الذي لا يستخدم اليوم في أي تقدير للتكاليف، بل تسعّر الحكومة كلف استيرادها وتحاسب المستوردين على سعر يفوق 2200 ليرة. بينما سعر 1250 ليرة للحوالات لا يفيد بشيء، إلّا استمرار تدفق الحوالات للسوق السوداء.
وهذا طبعاً أحد جوانب الموارد الأكثر وضوحاً وعملية، والمتروكة للسوق بوضوح، بينما الكثير من جوانب الموارد الأخرى متروكة أيضاً... مثل: ملفات الفساد التي تتالت الدعاية حولها في العام الماضي، وبيانات الحجز الاحتياطي التي لم توصل إلى أية نتيجة، ولم تزد قدرة الدولة على تأمين أي جانب من الأساسيات، بل على العكس تمادت سياسات تقليص المدفوعات العامة على الأساسيات وزيادة التحصيل من الخبز والمحروقات وغيرها.
الجانب الآخر المتعلق بالنقل
نمط التوريد الحالي لحاجات النفط والمشتقات لا يمكن أن يحل الأزمة أبداً... أو أن يزيد تدفق الطاقة، أولاً: لأن هؤلاء الموردين يستوردون كميات قليلة بأسعار مرتفعة وكلف عالية تفوق السعر العالمي 40%، وثانياً: لأنهم بشركاتهم متقلبة الوجوه واستيرادهم من تجارة النفط والمشتقات الدولية يكونون عرضة للعقوبات، ولا يؤمنون إلا كميات قليلة ومتقطعة وغير مستقرة.
الطريقة الأخرى لتأمين التدفقات عبر إيران هي موضع تساؤل اليوم، فإيران كانت تعتمد آلية مدفوعات تتجنب العقوبات عبر الخط الائتماني الإيراني بين سورية وإيران، واستطاعت حتى عام 2018 أن تؤمن تدفقات دورية متكررة عبر السفن الصغيرة. (تشير هيئة قناة السويس مثلاً بأن الناقلات الإيرانية حملت إلى سورية في 2018 1,5 مليون طن من النفط بـ 55 سفينة عبرت القناة، أي حمولة وسطية للسفينة: 27 ألف طن من النفط وهي حاجة أقل من يومين).
العقوبات على إيران ليست السبب الأساس في توقف هذه التدفقات، لأن إيران عرضت على لبنان في أزمته الأخيرة تأمين النفط بالعملات المحلية... قد تكون المشكلة مركّبة، فالتدفق النفطي من إيران الذي توقف تقريباً مع نهايات 2018 وبداية 2019 ترافق مع بدء تصعيد العقوبات على سورية وعلى إيران، وتحديداً في مجال نقل النفط، وتجلى هذا في مصادرة سفينة إيرانية في قناة السويس، ورغم نفي الجانب المصري أن الإيقاف سببه العقوبات على إيران أو سورية (إذ إن قوانين عمل القناة تمنع مصادرة السفن إلا بقرار من الأمم المتحدة أو بمخالفات على السفن) ولكن يمكن للعوامل السياسية الدولية أن تخلق أسباباً لمخالفة بعض السفن الإيرانية وهو ما يكون قد ساهم في عرقلة تدفق النفط الإيراني... ولكن هل يمكن منع كل تدفقات السفن بحجة المخالفات؟!
على الأغلب أن تدفقات النفط الإيراني قد تباطأت مع جملة التعقيدات الأخرى، ومن ضمنها التكاليف المترتبة على عدم سداد كامل مبالغ الائتماني النفطي الإيراني من الجانب السوري رغم بيعه في السوق المحلية.
الخروج للعلن والمواجهة
إن تقليل المخاطرة في مواجهة العقوبات، ولتأمين تدفقات الطاقة يتطلب العلنية والربط مع جهات رسمية، على العكس من العقلية المتبعة في التعامل مع العقوبات... الضرورة تقتضي أن تكون للحكومة السورية سفن نقلها الخاصة، وعقود مستقرة مع أطراف إقليمية أو دولية وبأسعار مثبتة وآليات دفع بينية. وإن كانت الأطراف الدولية المستعدة للمساهمة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في الأزمة السورية موجودة، وتفتح هامشاً لتجاوز العقوبات، فإن النقص يكمن حتى اليوم في الإرادة السورية لحل الأزمات بطريقة جذرية... طريقة تقوم على دور لجهاز الدولة بحيث يمتلك سفن نقله، ويمتلك موارده المالية، ويمتلك قراراً جريئاً بتعبئة الموارد لتأمين الأساسيات، وصولاً إلى امتلاك القرار بالتعامل بعملات أخرى سوى الدولار لتجاوز العقوبات. بينما لا يزال القرار السوري محصوراً حتى اليوم بالاعتماد على الوسطاء الذين يؤمنون دفعات صغيرة من الطاقة بشكل متقطع وبأسعار خيالية!
إن أزمة الطاقة هي عصب في إنقاذ الوضع السوري الاقتصادي والسماح باستمرارية الحياة... ولا يمكن أن تؤدي طرق توريد الطاقة الحالية والشح الكبير إلّا إلى الأزمات الكبرى اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. لأن الطاقة عصب الإنتاج وعنصر أساس في متطلبات العيش، ولا يمكن حل أزمات إنسانية أكبر إلّا بحل أزمة من هذا النوع... فالطاقة اليوم لا تكفي لحوالي 15 مليون سوري في مناطق إدارة الحكومة، ولا يمكن أن تُحل أزمات تأهيل البنى التحتية وعودة اللاجئين بأقل من نصف حاجات الطاقة الضرورية!
لتحميل العدد 992 بصيغة PDF
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 992