في أي سياقٍ يعود الحديث عن التسوية السورية - التركية؟ وهل هو أكثر جدّيةً هذه المرة؟
غاب الحديث عن التسوية السورية-التركية بشكلٍ شبه كاملٍ منذ بدأت معركة طوفان الأقصى. وإذا توخينا الدقة أكثر، فإنّ تراجع الضوء الإعلامي والسياسي المسلّط على التسوية المحتملة، قد بدأ قبل 7 أكتوبر ببضعة أشهر؛ بالضبط، في تلك اللحظة التي كان العمل على التسوية فيها قد تصاعد بشكل متواترٍ إلى حدود نقطة اللاعودة؛ أي إلى عتبة محددة كان من شأن تجاوزها المضي بهذه التسوية إلى نهاياتها. وربما من الجائز القول: إنّ اندلاع طوفان الأقصى، قد وفّر غطاءً لأولئك الذين تعاملوا مع هذه التسوية من الأساس بوصفها مراوغةً ومسايرةً وتضييعاً للوقت...
خلال الأسبوعين الماضيين، عاد الحديث عن التسوية إلى التصاعد، وخاصة بعد افتتاح معبر أبو الزندين، وإعادة الحركة التجارية لمعبر باب الهوى. وبالتوازي جرى إطلاق تصريحات على المستوى الرسمي التركي عن مستويات متعددة في هذا الاتجاه. بين أهمها، تصريح وزير الخارجية التركية حقان فيدان خلال لقاءٍ تلفزيوني معه يوم الإثنين 24/6، والذي قال فيه: «إنّ أهم شيء حققته تركيا وروسيا في الشأن السوري هو وقف القتال بين النظام والمعارضة»، وأضاف: «ما نريده هو أن يستغل النظام السوري بعقلانيةٍ هذه الفترة من حالة عدم الصراع، هذه الفترة من الهدوء، وأن يستغل كل هذه السنوات كفرصة لحل مشكلاته الدستورية، وتحقيق السلام مع معارضيه».
بعد ذلك بأيام قليلة، وتحديداً يوم الجمعة الماضية 28/6، قال الرئيس التركي أردوغان: إنه لا يوجد أي سبب لعدم إقامة علاقات بين تركيا وسورية، مشيراً إلى أنه لا يستبعد احتمال عقد اجتماع مع نظيره السوري بشار الأسد لاستعادة العلاقات الثنائية بين البلدين.
على الضفة المقابلة، نشر الحساب الرسمي لرئاسة الجمهورية العربية السورية على تلغرام ومنصات أخرى، خبراً صحفياً مقتضباً عن لقاء للرئيس السوري مع المبعوث الروسي الخاص للأزمة السورية يوم الأربعاء 26/6، وجاء ضمن الخبر: «خلال لقاء الرئيس بشار الأسد المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف، أكّد انفتاح سورية على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سورية وتركيا والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى. مشدداً أن تلك المبادرات تعكس إرادة الدول المعنية بها لإحلال الاستقرار في سورية والمنطقة عموماً.
وأشار الرئيس الأسد إلى أن سورية تعاملت دائماً بشكل إيجابي وبنّاء مع كل المبادرات ذات الصلة، لافتاً إلى أن نجاح وإثمار أي مبادرة ينطلق من احترام سيادة الدول واستقرارها».
إذا قارنّا صياغة هذا الخبر مع أخبارٍ وتصريحاتٍ سابقةٍ حول الموضوع نفسه، ليس من الصعب ملاحظة أنّ لغته جاءت أكثر ليونةً ودبلوماسيةً مما كانت عليه سابقاً، وذلك على الرغم من أنه حافظ على المضمون الأساسي نفسه للموقف المعلن عبر التأكيد على الانفتاح على المبادرات المستندة «إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى».
الملاحظة الثانية التي تعكسها صياغة هذا الخبر، هي أنّ التسوية السورية التركية كانت الموضوع الأساسي للقاء، أو على الأقل بين أهم مواضيعه...
التصريحات الرسمية على الضفتين، وكم المقالات والتعليقات غير وشبه الرسمية، يفتح الباب على التفكير في عدة أمور تتعلق بالتسوية السورية التركية؛ أولاً: لماذا الآن، وفي أي سياق. ثانياً: هل هذه المرة جديّة أكثر من المرات السابقة، وهل سيتم تجاوز نقطة اللاعودة، أم أنّ الأمور ستبقى تراوح في مكانها ضمن محاكاة للتسوية وليس ضمن تسوية فعلية؟
قبل محاولة الإجابة عن هذين السؤالين، لا بد من سردٍ مكثفٍ لتاريخ المسألة وأبعادها، والسياقات التي جاءت ضمنها، الأمر الذي من شأنه المساعدة في فهم عودتها إلى الضوء مجدداً، الآن وهنا...
تاريخ مختصر للمسألة
يمكن القول: إنّ أول إشارة علنية رسمية لانطلاق العمل على تسوية سورية تركية، قد جاءت على لسان وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان مطلع تموز 2022 خلال زيارة أجراها لدمشق، وفي حينه صرح بأنّ «إيران تتفهم المخاوف التركية، ولكنها تعارض أي عمل عسكري في سورية... نحاول حلّ سوء الفهم بين سورية وتركيا عبر الطرق الدبلوماسية والحوار». وكان لافتاً بشكلٍ خاصٍ وذا مغزى توصيفه للمشكلة بين سورية وتركيا بأنها «سوء فهم»، (للمزيد، الاطلاع على مقال: حول سوء الفهم بين سورية وتركيا؟!، 3 تموز 2022).
بعد تصريح اللهيان، جاءت تصريحات للافروف وزير الخارجية الروسي، لتكشف عن أنّ العمل الروسي على تسوية سورية تركية، قد بدأ قبل سنوات...
ترافقت التصريحات الإيرانية والروسية مع تصريحات تركية في الاتجاه نفسه، وتعزز هذا الاتجاه بعد قمة أستانا في طهران، التي عقدت في شهر تموز نفسه، ويبدو أنّ الخطوط العريضة للسير بهذه التسوية قد تمت مناقشتها ضمنها.
لم يطل الوقت حتى تم عقد أول لقاء رسمي على المستوى وزراء الدفاع السوري والتركي والروسي نهاية عام 2022، وتلته جملة من اللقاءات في الأشهر الأولى من عام 2023 على مستوى نواب وزراء الخارجية، وعلى مستوى وزراء الدفاع مرة ثانية، ولكن هذه المرة بشكلٍ رباعي بانضمام إيران، وبدأت التحضيرات إعلامياً وسياسياً من عدة أطراف للوصول إلى لقاء على المستوى الرئاسي، ثم تخامد كل شيء «فجأة»، وغاب بالتدريج الحديث عن التسوية، وجاء طوفان الأقصى ليحتل كامل شاشة الحدث لأشهر متتالية...
أبعاد المسألة وضروراتها
عبّرت قاسيون الناطقة باسم حزب الإرادة الشعبية، ومنذ اللحظات الأولى للحديث عن تسوية سورية تركية، بل وقبل ظهور أي حديث علني عن المسألة، عن دعمها لتسوية تقوم على الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، وعلى احترام الحقوق المتبادل، وعلى إنهاء الوجود العسكري التركي بالتوازي مع المضي في الحل السياسي السوري-السوري. ورأت في هذه التسوية فرصة جديةً لكسر العقوبات والحصار الغربيين على سورية، وفي إنهاء حالة المستنقع والتفكك التي يريد الأمريكي تأبيدها في سورية.
ولتجميع النقاط الأساسية التي طرحتها قاسيون حول المسألة، نستدعي هنا اقتباسات من مقالة مطولة كان قد أنجزها مركز دراسات قاسيون، ونشرت في كانون الأول 2022 تحت عنوان: «أبعاد تسوية سورية تركية أكبر بكثير من 900 كم... لماذا من مصلحتنا كسوريين الدفع نحو الوصول إلى تسوية؟».
ضمن المقالة المشار إليها، حدد المركز 11 نقطة في صالح الوصول إلى تسوية سورية تركية، هي التالية:
1- تقليل قدرة الأمريكي على التخريب:
«إحراز أي تقدم في تحسين العلاقات السوريّة- التركية يعني بالضرورة تضييق هامش اللعب للأمريكي في سورية وفي الملف السوري، أي تسهيل إخراج الأمريكي من سورية سياسياً وعسكرياً، لأن ذلك سيغير الموازين السياسية وعلى الأرض، عبر تقليص التناقضات التي يلعب الأمريكي عليها لتمديد بقائه في سورية».
2- تقليص دور المجموعة المصغرة الغربية:
«منذ تمت إضافة تركيا إلى المجموعة المصغرة الغربية، فإنّ هذا أعطى الغرب القدرة على استغلال وجود تركيا في المجموعة المصغرة، وفي الوقت ذاته في مجموعة أستانا، لضمان ألا يكون هناك قدر كافٍ من التوافق مع تركيا، واستخدام ذلك مدخلاً للتدخل المستمر واستخدام الاستقطاب بين المجموعتين، لمنع أي تقدم في الحل السياسي. ما يمكن أن يقلص من قدرة المجموعة الغربية، حتى في شكلها الحالي، على التأثير في الملف السوري لدرجة تعطيل الحل، هو حصول تقاربات أكبر بين مجموعة أستانا والدول غير الغربية في المجموعة المصغرة... ولكن هذا لن يكتمل دون تسوية سورية- تركية، تشكل حلقة وصل أساسية في البدء بالتقدم الإيجابي نحو الحل».
3- إنهاء التهديدات المستمرة بعمليات عسكرية في الشمال.
4- زيادة فرص حل المشاكل في الشمال الغربي:
«إنّ وقف إطلاق النار القائم على أساس تفاهمات أستانا ومناطق خفض التصعيد، قد أثبتت الأيام هشاشته وقابليته للانهيار في حال لم يتم حل الأمور العالقة التي يستخدمها البعض كذريعة لخرق وقف النار من فترة إلى أخرى، وبينها الأمور العالقة في الشمال الغربي، بما في ذلك عدم تحقق فتح الطريق الدولي M4 وإنهاء وجود جبهة النصرة حتى الآن. هذا قد يكون ضمن قائمة الأمور الأشد تعقيداً، ولكن أي تسوية بين دمشق وأنقرة سيكون لها بالتأكيد تأثير إيجابي على وضع الشمال الغربي، وسترفع إمكانية حل الموضوع بشكل كامل وبسرعة معقولة».
5- إنهاء التدويل الكارثي لملف الشمال الشرقي:
«يستمر الاستثمار الغربي وبالأخص الأمريكي في القضية الكردية ليس في سورية، بل في المنطقة بأسرها، في كل البلاد التي يوجد فيها الكرد، ولطالما تم استخدام استمرار عدم حل القضية الكردية بشكل عادل كذريعة للتدخل الغربي والأمريكي، وتحويل القضية إلى نقطة صراع إقليمي ودولي، واستخدامها كلغم دائم يمكن استخدامه لزعزعة المنطقة متى شاء الغرب ذلك. في المقابل، فإن أية تسوية سوريّة- تركية، متوازية مع حوار وتفاهمات داخلية حقيقية، يمكن أن تنهي قدرة الغرب على استخدام هذا الملف، حيث يمكن أن تتغير طبيعة هذه المشكلة بشكل حقيقي لتأخذ بعدها الطبيعي كأحد أجزاء المشكلة الداخلية السورية، وعلى الطاولة ضمن مجموعة المشاكل التي يمكن ويجب حلها من خلال الحل السياسي. لذلك فإنّ تسوية سورية تركية يمكنها بهذا المعنى أن تقلص درجة التدويل الحاصل، ولكن فقط إذا جاءت بالتوازي مع البدء بحوار سوري- سوري حقيقي على أساس 2254».
6- كسر الحصار والبدء بمعالجة أهم المشاكل الاقتصادية:
«بنظرة سريعة إلى دول الجوار وإمكانية الاعتماد عليها لكسر الحصار المفروض على سورية، يمكن الاستنتاج أن الحدود السورية- التركية تكاد تكون الوحيدة القادرة على تحقيق هذه المهمة.... لعدة أمور، منها: أن دول الجوار الأخرى غير قادرة على تأدية ذلك الدور. بدءاً من لبنان، حيث الوضع الاقتصادي كارثي، ويخضع لبعض العقوبات ومهدد بعقوبات إضافية، والحدود اللبنانية- السورية لا يمكن الاعتماد عليها لكسر حصار بلد بحجم سورية؛ العراق كذلك يعاني من أوضاع أمنية وسياسية واقتصادية أقل ما يمكن القول عنها: إنها كارثية، ناهيك عن أن التأثير الأمريكي هناك كافٍ لتقويض أي قدرة لكسر الحصار عبرها؛ أما الأردن، بالمعنى الاقتصادي وطول حدودها مع سورية وإنْ كان قد يجعلها قادرة جزئياً فقط على كسر الحصار، ولكن سياسياً، وحتى عسكرياً خلال السنوات العشر الماضية وصولاً للمبادرات الأردنية وغيرها من الأدوار التي لعبتها وتلعبها الأردن، فهي حكماً تدور في الفلك الغربي، لذلك لا يمكن أن تكون باباً لكسر الحصار على سورية. لذلك تبقى الحدود السورية- التركية والتي تمتد لأكثر من 900 كم، الباب الأساسي نظرياً لكسر الحصار، بما في ذلك كسر حصار المحروقات وحل أزمة الكهرباء، حيث حتى إذا كان هناك جهة تريد مدّ سورية بالمحروقات وعلى افتراض أنه لا يوجد فساد، فالطرق البحرية وفي ظل حجم التوتر الدولي القائم هي طرق شديدة التعقيد وذات تكلفة عالية، ما يجعلها غير قادرة على تلبية الاحتياجات، ولكن حدوداً برية بحجم الحدود مع تركيا والتي هي الأخرى لديها وصول أفضل مع دول، مثل: روسيا وإيران والصين والهند، تشكل المنفذ الوحيد العملي لكسر الحصار، وبالأخص المحروقات والغاز والكهرباء، ما يمكن أن يكون نقطة بداية لإعادة نفخ بعض الحياة في الاقتصاد المتهالك».
7- البدء بحل موضوع اللاجئين:
«وفق الإحصاءات الرسمية للأمم المتحدة، هناك ما يقارب 6,8 مليون لاجئ سوري في العالم، أكثر من نصفهم– 3,57 مليون– في تركيا. وبالتالي نظرياً على الأقل، فإنّ نصف أزمة اللاجئين يمكن تقريب حلها بشكل فعلي عبر تسوية سوريّة- تركية، والتي يمكن أن تجري بالتوازي مع السير في الحل، ما يعني التمهيد لحل الجزء الأكبر من موضوع اللاجئين. والحقيقة، أنّ الوزن النسبي لتركيا في موضوع اللاجئين هو أكبر حتى من النصف، لأنّ احتمالية عودة اللاجئين في دول الجوار بشكل أسرع أعلى بكثير من احتمالية عودتهم من أطراف العالم الأخرى...»
8- وضع أساسات صلبة لاقتصاد المرحلة التالية:
«كل تجارب إعادة الإعمار التي كانت مرتبطة بالغرب – بشكل أساسي، من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي– كانت فاشلة، وعملياً لم تكن هنالك إعادة إعمار، بل إنها فتحت المجال لتكوين بنية سياسية ناهبة ومرتبطة بالغرب سياسياً واقتصادياً، نتج عنها بلدان لديها ديون غير قابلة للسداد، ولذلك خاضعة وتابعة سياسياً واقتصادياً للغرب، وتحولت عمليات إعادة الإعمار الفاشلة إلى أساس لانفجارات أسوأ من الانفجارات الأولى التي أدخلتها أساساً في أزماتها. من هذا المنطلق، فإن الخيار الغربي ليس صائباً، وإنما ما يمكن أن يكون الأفضل لسورية ضمن التوازن الدولي اليوم هو التوجه شرقاً، حيث ينبغي أخذ الأمور بحركتها ووضعها اللاحق، والتي تشير إلى أن منظومات صاعدة، مثل: بريكس وشانغهاي، ضمن نظام مالي عالمي جديد، ونظام سياسي عالمي جديد، سيسمح لدول مثل سورية، ومن خلال استثمار هذه الفرصة التاريخية لإنهاء التبعية الاقتصادية للغرب، والنهوض بالبنية التحتية في البلد، للوصول إلى استقلال حقيقي اقتصادي، وبالتالي سياسي. هذا بالطبع يعني ضمناً فك الارتباط بعملات، مثل: الدولار واليورو، وإنهاء التبعية لها، وبالتالي، تتحول عقوبات الغرب إلى أدوات لعزله هو بدل أن يكون العكس. بكلام آخر وفي سياق الموضوع الأساسي، يمكن أن تكون تسوية العلاقات السوريّة- التركية بالمعنى السياسي، وبالتالي الاقتصادي، قناةً تسمح لسورية أن تنخرط في عملية الاستفادة الفعلية من الوضع الدولي الجديد...».
9- فرص أفضل لحل مشكلة المياه:
«إحدى أكبر المشاكل التي تواجهها سورية مع تركيا، تاريخياً، ولكن بدرجة أعلى خلال السنوات الماضية، مرتبطة بموضوع السدود على نهري الفرات ودجلة، وخلال سنوات الأزمة، سمح الوضع لتركيا بالعمل باتجاه تأزيم موضوع المياه بشكل أكبر، وباتجاه سرقة وقحة لحقوق سورية المائية. من الطبيعي أن أي تسوية سياسية بين دمشق وأنقرة تعني: أن هناك فرصة أفضل بكثير للاستناد إلى الاتفاقات التاريخية بين البلدين، والاتفاقات الدولية، ليعود الوضع طبيعياً فيما يخص سورية كدولة مرور لهذين النهرين».
10- التسوية وليس التطبيع:
«أي تسوية سوريّة- تركية في إطار جهود أستانا ستهدف بالضرورة إلى إنهاء إحداثيات التدمير، وبما يصب في حل سياسي لا يقوم على نزع شرعية أي طرف من الأطراف السورية الأساسية، سواء من النظام أو المعارضة، بل الاعتراف بها، ما يعني اعترافها ببعضها وجلوسها إلى طاولة المفاوضات المباشرة، التي لا تخضع للضغوطات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، أي لا تخضع للابتزاز الغربي، ما يعزز ويسرّع الوصول إلى التطبيق الكامل للقرار 2254. هذا بالضرورة يعني العمل بالضد من المشاريع الغربية/ الصهيونية، التي تستخدم هي نفسها شعارات (خطوة مقابل خطوة) و(التطبيع) ولكن في إطار معاكس تماماً» (يمكن هنا العودة إلى مادة نشرتها قاسيون بعنوان: تطبيع العلاقات مع سورية: شعار واحد ومضمونان متناقضان).
11- التهيئة لمشروع يخدم سورية والمنطقة ويضمن الاستقرار:
«المنطقة ككل، يتصارع فيها مشروعان بشكل واضح وعلني على الأقل بما يخص خطوط الطاقة ووضع المياه. المشروع الأول: هو مشروع غربي، وأوضح وأوقح تعبير عنه هو المشروع الصهيوني، الذي عبّر عنه بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» والذي وفقه يتم تحويل «إسرائيل» إلى مركز في المنطقة على كافة المستويات، الاقتصادية والتنموية والطاقية وحتى الثقافية، ما يدفع إلى ربط كل دول المنطقة بالكيان. وكانت إحدى تجليات أو محاولات إحداثه هي خط الغاز العربي. بالمقابل، هناك مشروع آخر، وهو: المشروع الأوراسي- الحزام والطريق، والذي من صالحه أن تكون هذه المنطقة مستقرة سياسياً، لتكون قادرة على أن تكون جزءاً أساسياً للوصل بين آسيا وأوروبا، الأمر الذي يتطلب إمدادات طاقة ثابتة مستقرة، وخطوط مواصلات متطورة وحديثة، بطاقة عالية وبنية تحتية متطورة في مختلف المجالات، وليس من محض الصدفة كما أشرنا أعلاه أن تتحول تركيا لمركز توزيع الغاز الروسي، لأن تواجد مركز توزيع غاز في مكان مثل تركيا مع تطور طبيعة العلاقات وتطور الاستدارة التركية هو تطور طبيعي بالنسبة للصين والهند وروسيا. بالنظر إلى هذين المشروعين، يمكن رؤية أن مصلحة الشعب السوري، ليست بطبيعة الحال مع «إسرائيل» والمشروع المرتبط بها، بل مع المشروع الآخر الذي يهدف إلى تحقيق استقرار سياسي، ما يعني استقراراً واستقلالاً اقتصادياً... الانخراط في هذا المشروع يتطلب بالضرورة حدوث تسوية سوريّة- تركية».
السياق الراهن للمسألة
طوال السنتين الماضيتين، وخلال السنة الماضية بشكلٍ أكبر، كان وهم تطبيعٍ مع الغرب من تحت الطاولة أو فوقها، وعبر ما يسمى «خطوة مقابل خطوة»، هو المشروع الأساسي الذي يدور حوله عدد كبير من الأنشطة والمبادرات المتعلقة بسورية.
انطلاق طوفان الأقصى، كان كفيلاً بحد ذاته -لمن تمكن من استيعاب معانيه باكراً- بوضع حدٍ لأي أوهام حول تسوية مع الغرب. ولكن بكل الأحوال، حتى أولئك الذين لم يستوعبوا معانيه منذ البداية، فإنّ النتائج الفعلية بعد تسعة أشهر، على المستوى الفلسطيني والإقليمي (ضمناً السوري) والدولي، باتت تسمح لأي مراقب بفهم مدى التراجع الهائل الذي تعيشه كامل المنظومة الغربية من جهة، وأهم من ذلك، من جهة أخرى، وعلى مستوى الساحة السورية والإقليمية، فقد باتت تسمح بفهم أنّ للأمريكي والصهيوني في منطقتنا مشروعاً واحداً هو إطالة أمد الأزمات وتعميقها وإضعاف كل أطرافها، ولا شيء آخر.
على صعيد آخر، فإنّ عودة الحديث عن التسوية السورية التركية مرة أخرى إلى الواجهة، نابع من أنّ هذه التسوية ضرورة لا مفر منها، وأنّ ثلاثي أستانا مصرٌ عليها، ويرى فيها خطوةً أساسية في مواجهة الفوضى الشاملة الهدامة التي تسعى واشنطن لنشرها وتعميقها.
شمال شرق وشمال غرب
أحد المواضيع الأساسية التي كانت وما تزال جزءاً من التفاوض حول التسوية، والتي ستكون محلاً للتفاوض المستجد، هو مصير وأوضاع كل من الشمال الشرقي والشمال الغربي السوري. وإذا كان الحل يتمثل بإنهاء النصرة وتفكيكها من جهة، وبحصر السلاح وجمعه والتهيئة لجسمٍ سوري موحد من جديد على المستويات العسكرية والسياسية، بالتوازي مع خروج الأتراك ومع انطلاق الحل السياسي على أساس القرار 2254، فإنّ الوصول إلى ذلك الحل سيمر بالضرورة عبر عدة مراحل وخطوات عملية.
ينبغي- ضمن هذه المراحل- العمل على منع تجدد إراقة الدم السوري بكل شكل ممكن، وكذلك منع الاحتمالات الخطرة والتفجيرية التي سيسعى من خلالها أعداء الحل وأعداء التسوية إلى إفشال الأمر برمته.
في هذا السياق فإنّ لابتعاد قسد/مسد عن الأمريكان، وبسرعة كبيرة وبشكلٍ جدي، أهمية كبرى في نزع فتائل التفجير؛ إذ ينبغي تبديد كل التباس حول التواطؤ مع الأمريكي، الذي يحتمي بقسد ويتلطى وراءها للمحافظة على بقائه في سورية، وليس العكس كما يجري الترويج في الإعلام... حل هذه المسألة بشكلٍ مبدئي وسريع جزء أساسي من دفع الحل السياسي ككل...
هل سنجتاز العتبة؟
السؤال عن مدى جدية تحقيق التسوية هذه المرة، هو سؤال شديد الأهمية. ورغم أنّ معرفة النوايا العميقة للأطراف المختلفة أمرٌ ليس بالسهل، إلا أنّ الأكيد هو أنّ أعداء الحل السياسي وأعداء التغيير في سورية من مختلف الأطراف السورية، سيبذلون قصارى جهدهم لمنع تقدم التسوية ووصولها إلى نهاياتها. كذلك الأمر مع أطراف وقوى ضمن الجانب التركي ما تزال تميل صوب الأمريكي، وتسعى لوضع العصي في عجلات أي تقدم يخدم إنهاء الأزمة السورية.
مع ذلك، فإنّ المؤكد، أنّ هذه الأطراف كلها اليوم أضعف، وأقل قدرة على ممانعة السير بالتسوية، وأساس ضعفها هو ضعف المشروع الذي تستند إليه، سراً أو علناً، أي المشروع الغربي... ولذا فإنّ احتمالات المضي بالتسوية هذه المرة، هي بالتأكيد أعلى منها في المرات السابقة...
روابط ذات صلة:
حول «سوء الفهم» بين سورية وتركيا؟! 3 تموز 2022
افتتاحية قاسيون 1080: قمتا طهران وجدة وولادة عالم جديد، 24 تموز 2022
«افتتاحية قاسيون 1083: سورية تركيا إلى أين؟»، 14 آب 2022
«حول تصريحات وزير الخارجية التركي»، 14 آب 2022
«ما الذي ستعنيه عودة العلاقات السورية-التركية؟ وبأي شكل وعلى أي أسس ستعود؟»، 21 آب 2022
«ما هو موقع الشمال الشرقي السوري ضمن التقارب السوري-التركي المحتمل؟»، 22 آب 2022
«ماذا قال لافروف اليوم عن المساعي الروسية بخصوص العلاقات السورية-التركية؟»، 23 آب 2022
«ما هو السبيل لطرد الأمريكان من سورية، بأسرع وقت، وبأقل الخسائر؟»، 27 آب 2022
««تطبيع العلاقات مع سورية»: شعار واحد ومضمونان متناقضان»، 5 أيلول 2022
«افتتاحية قاسيون 1087: ظروف الحل تنضج...»، 11 أيلول 2022
««الاهتمام الأمريكي» بسورية... نذير شؤم، ولكن بشارة أيضاً!»، 3 تشرين الأول 2022
«خمسة مشاريع «أمريكية-صهيونية» في منطقتنا... العصا عصا... والجزرة أيضاً عصا!»، 9 تشرين الأول 2022
«افتتاحية قاسيون 1093: نزع فتيل أي انفجار محتمل!»، 23 تشرين الأول 2022
«افتتاحية قاسيون 1097: حان «وقت الحل»!»، 20 تشرين الثاني 2022
«أين وصل حلّ «سوء الفهم» السوري-التركي؟ وما تأثير تفجير إسطنبول وغارات تركيا؟»، 20 تشرين الثاني 2022
«أبرز ما جاء في بيان ثلاثي «أستانا» للدول الضامنة لتسوية الأزمة السورية»، 23 تشرين الثاني 2022
«افتتاحية قاسيون 1098: منع العدوان مسؤولية السوريين!»، 27 تشرين الثاني 2022
«ما هو المطلوب لمنع اجتياح عسكري تركي جديد؟»، 27 تشرين الثاني 2022
«افتتاحية قاسيون 1099: ماذا يريد السوريون؟»، 4 كانون الأول 2022
«النص الأصلي لتصريحات لافروف يوم أمس»، 8 كانون الأول 2022
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1181