«تطبيع العلاقات مع سورية»: شعارٌ واحد ومضمونان متناقضان
حين ترفع دولة مثل الإمارات، الموسومة بعار اتفاقات أبراهام مع الكيان الصهيوني شعار تطبيع العلاقات مع سورية، وترفع الجزائر ذات الموقف الثابت ضد الصهيوني الشعار نفسه وإنْ مع اختلاف بالصياغة، وعبر الجهد الذي تبذله في إطار التحضير للقمة العربية القادمة على أرضها، فإنّ على المرء أن يمعن النظر في جوهر الأمور وألا يقف عند ظاهرها...
«التطبيع» و«تغيير السلوك»
الجهات الأكثر استخداماً لتعبير «التطبيع» في وصف تطبيع علاقات سورية مع الدول العربية، هي الجهات المرتبطة تاريخياً بالغرب، سواء المتشددين ضمن المعارضة، أو الأنظمة التي تسمسر للغرب وتلعب دور الباب الخلفي نحوه، كما النظام الإماراتي. وليست مصادفة أن يتم استخدام هذه الكلمة بالذات، أي «التطبيع»، لأنّها محجوزة في الذاكرة السياسية الشعبية لعموم الشارع العربي لمعنى واحدٍ هو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. والحديث عن «تطبيعٍ» مع سورية بدلاً من الحديث عن استعادة موقعها واستعادة علاقاتها وإنهاء حصارها وتسوية الخلافات وإلى ما هنالك من قاموسٍ واسعٍ يمكن استخدامه، هو توطئة لتطبيع عملية «التطبيع» مع الكيان، وتحويلها إلى واحدة من مجموعة عمليات تطبيعٍ يجب أن تجري في المنطقة.
إذا تركنا الجانب الاصطلاحي-النفسي جانباً، وذهبنا نحو الغايات العملية، فإنّ سعي الإمارات ومن خلفها الغرب نحو «التطبيع»، ليس المقصود منه بحالٍ من الأحوال حل الأزمة السورية وإنهاء الكارثة وإنصاف الشعب السوري، بل على العكس تماماً فإنّ المقصود هو تأخير حل الأزمة من خلال إعطاء هوامش إضافية للمتشددين ضمن النظام خاصة، لكي يناوروا بين أستانا وبين المجموعة المصغرة الغربية، والهدف هو إطالة حالة الأمر الواقع وتكريسها، ومن خلالها استنزاف سورية وتجريفها وتفتيتها وتدمير أي إمكانية لقيامها مجدداً.
أبعد من ذلك، فإنّ المساعي الغربية باتجاه «التطبيع»، والتي كما قلنا تلعب فيها الإمارات دوراً متقدماً، تدخل أيضاً في إطار خلق اصطفافات محددة من شأنها في نهاية المطاف تقديم خدمات مجانية للصهاينة ناهيك عن تعميق الأزمة في سورية وإطالتها؛ إذ لم يخف النظام الإماراتي ومن حذا حذوه في هذه «الجهود» أنّ غايتهم هي إبعاد سورية عن كلٍ من إيران وتركيا، ووضعها في موقعٍ مضادٍ لهما، وكل ذلك تحت اسم «العروبة»! وليس خافياً اليوم، بل وطوال السنوات الثلاث الماضية على الأقل، أنّ طبيعة الاصطفاف المطلوب أمريكياً تتمثّل بشعار «الناتو العربي»، الذي هو «عربيٌ»، ولكن مركزه «إسرائيل»! وفي السياق نفسه جاء مشروع خط الغاز «العربي» أيضاً، والمدعوم من الأمريكان ومن بنكهم الدولي!
الجيد في المسألة أنّ هذه الخرافات كلها حول الناتو العربي وخط الغاز العربي قد تبخرت أو تكاد، مع التحولات العميقة في ميزان القوى الدولي، والذي بات من الواضح فيه خلال الأشهر الأخيرة، وخاصة بعد زيارة بايدن الفاشلة إلى السعودية، أنّ كلاً من تركيا وإيران والسعودية ومصر ومن خلفهم الصين وروسيا، يفتحون معاً صفحة جديدة في العلاقات الإقليمية في منطقتنا، تختلف نوعياً عن المعادلة التخريبية الأمريكية التي بنيت خلال العقود الماضية على عداءٍ «سني/شيعي» تارةً أولى، ومن ثم بات هنالك من ينظّر لتحالفٍ عربي مع «إسرائيل» ضد إيران وتركيا! ومن الجيد أنّ هذا الجنون المطلق لم تعد له أي حظوظٍ في عالم اليوم...
وإذاً، وباختصار، «تطبيع العلاقات مع سورية»، الذي ترفع شعاره الإمارات وبعض أشباهها ومن خلفهم الغرب، وكذا متشددون ضمن النظام، ليس المقصود منه سوى إطالة الأزمة وتعقيدها، لا كسر الحصار ولا إنصاف الشعب السوري.
كسر الحصار والحل السياسي
على الضفة المقابلة، وبقيادة الجزائر عربياً، وروسيا ومعها أستانا دولياً، هنالك نمط آخر تماماً من الدعوة لتسوية الخلافات و«تطبيع العلاقات مع سورية». هذا النمط ليس المقصود منه تقوية أطراف الأمر الواقع في سورية وإطالة عمرها وعمر الأزمة معها، وليس المقصود منها إدخال سورية في تحالفات وعداوات تصب في النهاية في المصلحة الغربية والصهيونية، بل العكس تماماً؛ المطلوب منه هو كسر الحصار على سورية، وإنهاء إحداثيات التدمير من خلال الاعتراف بأنّ الحل السياسي في سورية لا يمر عبر نزع شرعية أي طرف من الأطراف الأساسية في النظام والمعارضة، بل بالاعتراف بها، وعبر الاعتراف الذهاب نحو اعتراف هذه الأطراف ببعضها على طاولة مفاوضات مباشرة لا تخضع لعمليات الخنق الاقتصادي والابتزاز السياسي الغربي، وصولاً لتطبيق الكامل للقرار 2254 الذي وافق عليه الأمريكان نفاقاً شأن موافقتهم على اتفاقات مينسك، وعملوا طوال الوقت ويعملون على منع تنفيذه.
في هذا الإطار تأتي مبادرة أستانا نحو تسوية العلاقات التركية السورية، والتي كما سبق وأشرنا مراراً، لم تكن يوماً مبادرة تركية منفردة، بل عملاً منسقاً بين ثلاثي أستانا، سبقته تحضيرات طويلة إيرانية وروسية. وفي هذا الإطار أيضاً تأتي الدعوات الروسية والجزائرية المتكررة لاستعادة سورية موقعها ضمن الجامعة العربية...
وإذاً، ورغم التشابه الشكلي في الشعار المطروح، إلا أنّ الغايات تختلف اختلافاً جذرياً بين طرفي الصراع الدولي والإقليمي والمحلي... والمقصود بطرفي الصراع المحلي هما الشعب السوري من جهة، والمتشددون والفاسدون الكبار في كلٍ من النظام والمعارضة على حد سواء...