ما الذي ستعنيه عودة العلاقات السورية- التركية؟ وبأي شكلٍ وعلى أي أسس ستعود؟
شهد العام 2019 نقطة تحولٍ هامةٍ في مسار الأزمة السورية؛ فمع نهاية ذلك العام بالذات، كان قد مضى ما يقرب من 3 سنوات على انطلاق مسار أستانا، وكان هذا المسار قد أنجز من حيث المبدأ، وقفاً شاملاً لإطلاق النار.
بالتوازي، فإنّ الصراع بين «المجموعة المصغرة» الغربية بقيادة واشنطن، وبين ثلاثي أستانا بقيادة موسكو، كان قد وصل ذروته. وليست مصادفة أنّ ذلك العام بالذات قد شهد أكثر التصريحات الغربية حدةً ضد أستانا، بما فيها دعوات دفن ذلك المسار نهائياً، التي أطلقها كل من جيمس جيفري المبعوث الخاص الأمريكي في حينه، وكذلك ممثلة الولايات المتحدة في مجلس الأمن حينها.
وشهدت نهاية 2019 أيضاً، حدثين مهمين؛ الأول هو دخول ما يسمى «قانون قيصر» الأمريكي للعقوبات على سورية حيز التنفيذ في الشهر الأخير من 2019. والثاني قبل ذلك بشهرين، أي في الشهر العاشر، انطلقت اللجنة الدستورية بعد أن استمر التعطيل في عملية تشكيلها سنتين كاملتين بعد مؤتمر سوتشي الذي عقد مطلع 2018.
كل هذه المتغيرات التي شهدها 2019، كانت تعني من حيث الجوهر، أنّ عملية تدمير سورية قد انتقل مركز ثقلها من العمل العسكري (بعد أنْ تم إغلاق الباب أمامه)، إلى العمل الاقتصادي والسياسي/ الثقافي.
فمع دخول العقوبات الأكثر شدة حيّز التنفيذ، وبالتضافر مع السياسات الحكومية السورية التي تصب في مصلحة الفاسدين الكبار، وكذلك مع سياسات المتسلطين والفاسدين في مناطق السيطرة المختلفة في سورية، فقد بدأت عملية تجريف واسعة للسكان، فاقت بعمقها حتى تلك التي جرت خلال الأعمال العسكرية؛ فموجة التجريف التي بُنيت على انغلاق الآفاق السياسية، والتدهور المريع في الأوضاع المعيشية، لم تهجّر سكان منطقة أو مدينة (تخضع لظروف عسكرية كما في السابق)، بل وقع تأثيرها على البلاد بأسرها، وهجّرت بالدرجة الأولى الكفاءات والشباب، وصولاً إلى إخلالٍ كارثي في بنية المجتمع السوري، وفي إمكانيات نهوضه اللاحق.
ربما بين أبرز مؤشرات التدهور، تدهور كلٍ من سعر الصرف، وكذلك مؤشر مستوى المعيشة؛ بالنسبة لسعر الصرف، فقد كان أواخر 2019 عند حدود 900 ليرة سورية للدولار الواحد، وتجاوز اليوم، بعد أقل من ثلاث سنوات، عتبة 4500 ليرة للدولار الواحد. أي أنّ الليرة خسرت 80% من قيمتها التي كانت عليها أواخر 2019، بينما خسرت خلال 9 سنوات من بداية 2011 وحتى نهاية 2019، 95% من قيمتها عام 2011، بمتوسط خسارة هو 32% كل ثلاث سنوات. ما يعني أنّ سرعة انهيار سعر الصرف خلال السنوات الثلاث الأخيرة قد تضاعفت مرتين ونصف عمّا كانت عليه في سنوات الأزمة السابقة لـ 2019.
وأما الحد الأدنى لمستوى المعيشة، فقد وصل وفقاً لمؤشر قاسيون الربعي لشهر تموز الماضي، إلى 1.88 مليون ليرة سورية لأسرة من 5 أفراد، والحد الوسطي للمعيشة إلى قرابة 3 مليون ليرة سورية، بينما الحد الأدنى للأجور ما يزال عند حدود 93 ألف ليرة شهرياً، أي أنّه يشكل 5% من الحد الأدنى لمستوى المعيشة، ويحتاج إلى مضاعفته 20 مرة كي يصل أكثر من 80% من السوريين من أصحاب الأجور إلى حدّ الكفاف الأدنى!
وربما أخطر من ذلك، أنّ العقوبات الأمريكية والأوروبية كانت مصممة أساساً لتغذية وتنمية الاقتصاد الأسود والإجرامي، بما في ذلك المخدرات والجريمة وإلخ. الأمر الذي من شأنه تدمير البنية الروحية والثقافية والأخلاقية للمجتمع فوق تدمير بنيته المادية... وهذه الآثار الكارثية جميعها ستبقى معنا لسنوات عديدة قادمة، وستكون أعباءً إضافية على متون السوريين.
الانتقال من الدفاع إلى الهجوم
يمكن القول إنّ مجمل ما قام به مسار أستانا منذ تشكله وإلى ما قبل قمة طهران الأخيرة، كان محصوراً في إطار الدفاع ضد التخريب الغربي. ومن نافل القول إنّ التناقض الداخلي كان مساهماً أساسياً في تقييد إمكانات هذا المسار، ووضع سقوف لما يمكنه أن يقوم به.
أكثر من ذلك، فإنه يمكن قياس مدى فعالية هذا المسار انطلاقاً من قدرة الثلاثي على حل تناقضاته الداخلية، والتي ما تزال موجودة، ولكن الأكيد أنها تقلصت بشكل تدريجي عبر السنوات الخمس الماضية، وساعدها على ذلك تطور ميزان القوى الدولي العاصف مما بعد أوكرانيا.
عملية الدفاع ضد الغرب كانت على محورين أساسيين، الأول هو الجانب العسكري. والثاني السياسي؛ فأما العسكري فقد تمثل كما أسلفنا في الوصول إلى وقف إطلاق نار شامل، وأما السياسي فقد تمثل في الحفاظ على العملية السياسية حيّة، وإنْ في غرفة الإنعاش المركز، تحت مسمى اللجنة الدستورية.
ولكن بالتوازي مع ذلك، كان الانتقال الغربي، وبالتضافر والتعاون مع المتشددين والناهبين الكبار الداخليين، نحو التخريب الاقتصادي، كأداة فعالة في تعقيد الوضع بشكل كارثي إلى الحد الذي باتت معه أهداف العسكرة على وشك التحقق بأدوات الاقتصاد، والمقصود هو إنهاء سورية نفسها، بالحد الأدنى، كدور وظيفي في المنطقة ضمن الصراع القائم، وخاصة مع الصهيونية، ومع الغرب عموماً، وبالحد الأعلى إنهاء وجودها ككل عبر التقسيم والتفتيت.
كل ذلك، وبما يحمله من تهديدات وجودية كبرى لدول أستانا الثلاث، إضافة إلى تطور الظرف الدولي بالاتجاه الذي يخدم أستانا، وكذلك مع تطور التفاهمات بين الثلاثي، دفع نحو الانتقال من الدفاع إلى الهجوم.
أدوات الهجوم وأهدافه
باتت أوساط مراكز الأبحاث الغربية، وكذلك بعض وسائل إعلامه، ولدى تعاملها مع الشأن السوري، تطرح علناً أسئلة من قبيل: هل ما يزال ممكناً تطبيق 2254 أم أنّ من الأفضل التفكير بالبحث عن بديل؟ وكذلك عن طبيعة العلاقة بين تركيا والمعارضة، وعن طبيعة تموضع تركيا في الشأن السوري.
يضاف إلى ذلك جملة «التسريبات» الإعلامية التي تتحدث عن دفع أمريكي نحو انتزاع الجزء من المعارضة المرتبط بالأتراك من تركيا، مع إغراءات تتعلق بالتمويل وبإعادة التسليح في مناطق محددة من الشمال الغربي السوري، وعملياً تحت جناح النصرة.
كل هذه الإشارات تصب مصباً واحداً، هو أنّ الغرب بات على وشك قطيعة مع تركيا بما يخص الملف السوري، وأهم من ذلك، أنه بات متيقناً من أنّ أستانا ماضية في تولي الملف السوري بغض النظر عن إرادة الغرب ورأيه، ولذا فالغرب يسعى بنشاطٍ للتخريب مجدداً، مستخدماً نفوذه وتقاطع مصالحه مع المتشددين من كل الأطراف، ومع الناهبين من كل الأطراف... وهذا ما نرى نتائجه بشكل شبه يومي عبر مواقف وأفعال تصدر من أطراف سورية متناقضة أشد التناقض شكلياً، ولكن تعمل بالاتجاه نفسه عملياً، أي باتجاه منع الحل.
على الطرف المقابل، أي على طرف ثلاثي أستانا، فإنّه من الواضح تماماً، وليس بالتصريحات الكثيفة المشتركة فحسب، بل وبالأفعال أيضاً، أنّ على رأس جدول الأعمال إخراج الأمريكان نهائياً من سورية، وبالتوازي التجهيز لحل شاملٍ على أساس 2254، وفي هذا السياق بالذات تأتي التصريحات التركية الأخيرة (راجع افتتاحية قاسيون العدد 1083 «سورية تركيا إلى أين؟»، ومادة المحرر السياسي لقاسيون: «حول تصريحات وزير الخارجية التركي»).
إنهاء الابتزاز الاقتصادي
يستند الابتزاز الاقتصادي الغربي لسورية على دعامتين أساسيتين، الأولى هي العقوبات عبر قانون قيصر وغيره. والثانية هي مصالح تجار الحرب والمتشددين من الأطراف السورية الذين لم تعد الأزمة مجرد مصدر نهبٍ يدرّ ذهباً بالنسبة لهم، بل وأكثر من ذلك فقد باتت الأزمة ومعها العقوبات نفسها، أوكسجين حياة؛ أي أنّ انتهاء الأزمة سيعني فتح الباب واسعاً أمام القضاء على الاقتصاد الإجرامي الأسود الذي يدر المليارات، ويعني أيضاً فتح الباب على إزاحة أرباب هذا الاقتصاد، وإنهاء هيمنتهم ونفوذهم.
إضافة إلى هاتين الدعامتين، فإنّ إحدى أهم أدوات استمرارية هذا الاقتصاد الإجرامي، ومعه استمرار تأثير العقوبات، أن تكون سورية محاصرة فعلياً من كل الجهات؛ وراء لبنان هنالك البحر وعبره يجري الحصار، ومع الأردن هنالك قاعدة التنف، وهنالك السياسات الأردنية المعروفة الاتجاه، ومع العراق هنالك القواعد الأمريكية، ومع تركيا هنالك تركيا نفسها ومواقفها. وفي الداخل هنالك الناهبون الكبار الذين يعملون كجهة تنفيذية لقانون قيصر في الداخل السوري.
كسر هذا الطوق بشكل فعالٍ غير ممكن عملياً إلا عبر الحدود التركية، التي هي الحدود الأطول أكثر من 900 كم، وهي حدود حيّة على الجانبين، وأهم من ذلك، أنّ وراء تركيا روسيا والصين وإيران... أي أنّ الحدود مع تركيا يمكنها أن تتحول بشكل سريع وفعال إلى صلة مباشرة لسورية مع القوى الصاعدة، التي بات الاتصال الاقتصادي معها مسألة حياة أو موت ليس لسورية فقط، بل لكل شعب يريد النجاة من المعركة الطاحنة الجارية على المستوى الدولي.
يزيد من إمكانية تحقق هذا الاتجاه، التحسن الكبير للعلاقات الروسية والصينية مع دول الخليج العربي ومصر، وكذلك التقارب التركي مع هذه الدول مؤخراً... كل هذه العلاقات والاتصالات تصب فعلياً في عزل الغرب ومعه «إسرائيل» عن مجمل المنطقة، وتصب في محاصرة المحاصر.
محددات التفاهم
لكن كل ذلك، وإنْ كان يتطلب تفاهماً سورياً تركياً، فإنّ هذا التفاهم نفسه لا يمكن أن يتم بالصورة التي يحاول المتشددون على الجانبين تصويرها، أي بصورة «تطبيع الأمر الواقع»، وهذا ما يعرفه جيداً المتشددون السوريون من كل الجهات، ولذا يبذلون قصارى جهودهم لتعطيل التفاهم وتخريبه إنْ استطاعوا إلى ذلك سبيلاً... بل وفي تركيا نفسها، البلد المنتمي تاريخياً إلى الناتو، والذي ما يزال النفوذ الأمريكي والاختراق الأمريكي فاعلاً ضمنه، رغم ما تلقاه من ضربات منذ 2016، فإنّه تجري أيضاً عمليات تخريب نشطة لمنع السير قدماً في الوصول إلى تفاهم.
أساس التفاهم سيكون الاعتراف اللفظي والفعلي من قبل تركيا بالسيادة السورية، وبحق الشعب السوري بتقرير مصيره بنفسه عبر القرار 2254، أي عبر الحوار بين النظام والمعارضة، وهذه الأخيرة لن يكون من حق تركيا أن تستبعد منها أحداً.
جوهر المسألة
من المفهوم تماماً، أنّ بين الأوساط الشعبية سواء تلك المحسوبة في إطار المعارضة، أو المحسوبة في إطار الموالاة، من يستفزه إلى أبعد الحدود احتمال الوصول إلى تفاهم تركي- سوري؛ فعلى ضفة المعارضين بالمعنى الشعبي، وإضافة إلى التراكم الهائل عبر السنوات الدموية السابقة، فإنّ المسألة يجري تقديمها لهم على أنها انتصار للنظام وهزيمة لأي مشروع تغيير، ويجري بالتالي تجنيدهم وحشدهم ضد أية احتمالات من هذا القبيل. وعلى ضفة الموالين بالمعنى الشعبي، وأيضاً بالإضافة إلى التراكم الهائل، فإنّ المسألة يجري تقديمها كهزيمة للنظام أمام الأتراك.
ردة الفعل هذه وتلك طبيعيتان بعد سنوات من الكلام عن «الحسم» و«الإسقاط»، وبعد سنوات من العمل المنظم لمنع أي احتمال لإبعاد تركيا عن الاتجاه الغربي، والذي تمثل عملياً بالشغل ضد أستانا، سواء في أوساط المعارضة أو في أوساط الموالاة.
ما ينبغي أن يكون واضحاً، هو أنّ جوهر المسألة في مكان آخر غير كل ما يقال إعلامياً من قبل المتشددين من الأطراف المختلفة؛ جوهر المسألة، هو أنّ السعي باتجاه التفاهم السوري التركي، هو إحدى أدوات طرد الأمريكي نهائياً من سورية، وهو تالياً: إحدى أهم أدوات تنفيذ كامل للقرار 2254 الذي كان وما يزال معيقه الأساسي هم الأمريكان والغربيون عموماً والصهاينة خصوصاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1084