ما المطلوب لمنع اجتياحٍ عسكري تركي جديد؟

ما المطلوب لمنع اجتياحٍ عسكري تركي جديد؟

تعيش مناطق عديدة في الشمال السوري، وفي الشمال الشرقي خاصة، على صفيح ساخن، وعلى وقع ضربات مدفعية وجوية تركية، خلفت عدداً من الضحايا، وكذلك دفعت بالآلاف إلى الخروج من مناطقهم تخوفاً من احتمالات اجتياحٍ بريٍ جديدٍ للقوات التركية.

بالتوازي، هنالك حركة دبلوماسية كثيفة جداً، واتصالات مستمرة تقوم بها كل الجهات المعنية على أمل منع تعميق مأساة السوريين، والتي لا جدال في أنها ستزداد سوءاً في حال حدث اجتياح جديد.
إذا نظرنا إلى مواقف القوى الدولية والإقليمية الأساسية المؤثرة في هذا الملف، فإنّ أول ما يلفت الانتباه هو الموقف الأمريكي الملتبس، والذي يقول الشيء وعكسه في الوقت نفسه، وعلى أعلى المستويات؛ فيوم الثلاثاء الماضي، وبعد الإعلان التركي عن عملية «المخلب/ السيف» (يوم الأحد)، وفي وقت متقارب، صدر تصريح عن البيت الأبيض الأمريكي يقول: «تركيا تواجه تهديداً على حدودها الجنوبية، ولها الحق في الدفاع عن نفسها»، بما يفهم منه تأييد أمريكي للعملية، أو على الأقل ضوء أخضر لها. في اليوم نفسه، صدر تصريح عن البنتاغون الأمريكي يقول: «أعلنت القيادة المركزية للقوات الأمريكية أن الولايات المتحدة تعارض أي عمل عسكري يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في سورية». والذي يمكن أن تفهم منه رسالة معاكسة لتلك الصادرة عن البيت الأبيض.
المتابع للمواقف الأمريكية خلال السنوات الماضية، بما يخص العمليات العسكرية التركية التي جرت على الأرض السورية، لن يستغرب هذا التناقض، فهذه ليست المرة الأولى التي يجري التعبير فيها عن موقفين متناقضين تماماً، محصلتهما هي الدفع من جهة نحو عملية عسكرية، ومن الجهة المقابلة محاولة التحكم بحدود تلك العملية ونتائجها... وهذا بالضبط ما جرى أيام ترامب أكثر من مرة.

خلفيات أوسع

يميل كثيرون لقراءة السلوك التركي من زاوية وضع السلطة التركية الراهن وعمليات التحضير التي تقوم بها لخوض انتخابات 2023 التي تفصلنا عنها 7 أشهر تقريباً؛ بهذا المعنى، فإنّ العدوان التركي الذي بدأ والذي يمكن أن يتوسع، يبدو بوصفه جزءاً من الماكينة الانتخابية لأردوغان. هذه القراءة، ورغم أنها قد لا تخلو من الصحة، إلا أنها فيما نعتقد ليست مركز المسألة، وليست أهم ما فيها.
إذا حاولنا التعامل بموضوعية مع حديث الأتراك عن التهديد المحدق بأمنهم القومي، وربط ذلك التهديد بقسد/ مسد، فإنه مما لا شك فيه أنّ السلطات التركية-على الأقل- تبالغ بقدرٍ كبيرٍ في تصوير قسد/ مسد كتهديد لأمنها القومي، إنْ لم نقل إنها تختلق هذا التهديد، فلا وزن قسد عسكرياً ولا سياسياً يسمح فعلياً بتهديد أمن تركيا، ولكن مع ذلك فإنّ هنالك ما يمكنه حقاً أن يهدد أمن تركيا والمنطقة بأسرها.. ذلك هو الاستثمار المركز الذي يحاول الأمريكي تعظيمه في القضية الكردية على امتداد الساحة الإقليمية، ابتداء من الداخل التركي، ومن ثم الشمال العراقي، وكذا الداخل الإيراني، وانتهاءً بالساحة السورية، حيث التهديد هو الأقل موضوعياً.
بكلامٍ آخر، فإنّ الأمريكان، وفي سياق تحضيرهم للأرضية الملائمة لانسحابهم الإلزامي من المنطقة، يسعون إلى تفجيرها ذاتياً، ليستمر المستنقع الذي صنعوه فيها بعد رحيلهم، ولكيلا تتحول المنطقة إلى رصيدٍ لدى منافسيها الكبيرين الصين وروسيا... (لأنّ الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط سيكون وصفة ملائمة لازدهار طرق التجارة الجديدة التي لا تتحكم بها الولايات المتحدة).
تصبح اللوحة أكثر تعقيداً حين نمعن النظر في العناصر الإضافية المتدخلة فيها؛ فالوضع في إيران هو الآخر غير مستقر، ومصدر التهديد فيه هو قطعاً ليس قسد ولا مسد، ولكن بشكلٍ جزئي هو محاولات الاستثمار الأمريكي بالقضية الكردية، ابتداءً من شمال العراق ووصولاً إلى الداخل الإيراني.

لغم دائم

عدم حل القضية الكردية بشكل عادلٍ على مستوى الدول الأربع، شكّل طوال ما يزيد عن 50 عاماً، أحد عوامل التدخل والتفجير الذي يجري الاستثمار به غربياً بالدرجة الأولى، للضغط على هذه الدول وعلى شعوبها، ولتمرير السياسات الأمريكية في كامل المنطقة.
وقد توقفت الوثيقة البرنامجية لحزب الإرادة الشعبية التي حملت عنوان «القضية الكردية وشعوب الشرق العظيم»، والمنشورة عام 2016، مطولاً وبشكل تفصيلي عند هذه المسألة. ومما جاء في مقدمة هذه الوثيقة:
«باتت معالجة القضية الكردية تكتسب أهمية خاصة واستثنائية اليوم في ظل رفع الإمبريالية الأمريكية المأزومة، من مستوى عملها على تأجيج مشاعر التعصب القومي، والقومي المضاد، وصولاً إلى تغذية بعض النزعات الانفصالية والتفتيتية، بوصفها فوالق مطلوبة من قبل الإمبريالية، لتكمل الدور الوظيفي للفوالق الطائفية الثانوية».
لا يمكن نزع هذا اللغم بشكل نهائي دون حلٍ عادل لهذه القضية، على المستويات المحلية وعلى المستوى الشامل، وبما يحفظ وحدة البلدان واستقلالها. ورغم أنّ الوصول إلى هذا الحل ما يزال معلقاً بانتظار ظروف تاريخية أكثر مناسبةً، فإنّ الأكيد هو أنّ مدخل ذلك الحل هو طرد الأمريكان من كامل المنطقة، بالتوازي مع إحداث تغييرات داخلية وطنية وديمقراطية في أنظمة هذه الدول بما يسمح بخلق تمثيلات شعبية حقيقية، والمعلوم أنّ بين شعوب المنطقة كشعوب، لا توجد عداوات وفوالق بالحجم الذي يجري الاستثمار به سياسياً؛ بل إنّ شعوب المنطقة على اختلاف قومياتهم أقدر على التفاهم والانسجام فيما بينهم من الأنظمة القائمة، وحتى من الحراكات السياسية القائمة أنظمة ومعارضات.
ولكن إذا كان الحل الشامل بعيداً نسبياً، فإنّ الحلول الجزئية لا تزال ممكنة، وعلى رأسها الوصول إلى تفاهمات داخلية وطنية في كلٍ من الدول الأربع على حدة. وبما يخصنا في سورية، فإنّ الأمور لهذه الناحية بالذات، أي لناحية المسألة الكردية، هي واقعياً، ورغم كل التعقيدات، أكثر يسراً منها في الدول الثلاث الأخرى.

بالملموس

الأولوية اليوم، هي منع اجتياحٍ بريٍ جديد، والحل الواضح الآن هو تسليم الحدود لعناصر حرس الحدود السوري. وإذا كان لا بد من سحب للأسلحة الثقيلة إلى مسافة 20-30 كم، فهذا أيضاً يمكن تحقيقه عبر توافق سوري داخلي، بما في ذلك توافقٌ على شكل ملموس لعلاقة جديدة بين المركزية واللامركزية تضمن وحدة البلاد وتفتح الأبواب أمام تطورها اللاحق. وعن طبيعة القوى التي يمكن أن تملأ الفراغ، والتي يجب أن تكون قوىً سورية، فهذا أيضاً يمكن التفاهم عليه بين السوريين أنفسهم، وبمساعدة مسار أستانا.
بكلامٍ آخر، ينبغي سد الذرائع كلها، وعدم الاطمئنان إلى الوعود الأمريكية بمنع العملية، فتلك وعود سبق أن أُطلقت وتم الإخلاف بها مراراً وتكراراً. بما يخص مسار أستانا، فإنّ البيان الختامي للاجتماع الأخير، ورغم أن أثره لم يكن طيباً إطلاقاً بالنسبة لأوساط الإدارة الذاتية، وهذا طبيعي ومتوقع، إلا أنّ ما ينبغي أن يحسب له هو أنّه لم يكن مراوغاً ولا احتيالياً، وقال الأمور كما هي. ولذا ينبغي البحث عن حلٍ مع أطرافه بشكل جدي، عبر سد الذرائع وعبر التفاهم مع بقية القوى السورية، التي عليها هي أيضاً أن تكف عن تقديم طلبات تعجيزية تجعل من الاحتمالات متساوية بالنسبة لقسد/ مسد.
بالمجمل، منع العدوان الجديد ما يزال ممكناً، ويتطلب مبادرات خلاقة وجديدة، تسمح بحفظ دماء الناس من جهة، وتسمح بتحويل ما تم الوصول إليه عبر محاربة داعش إلى منصة نحو حل سياسي شامل، يتضمن تنفيذاً حقيقياً وعملياً لصيغة جديدة بين المركزية واللامركزية على مستوى البلاد بأسرها...

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1098
آخر تعديل على الخميس, 08 كانون1/ديسمبر 2022 14:02