ما هو السبيل لطرد الأمريكان من سورية، بأسرع وقت، وبأقل الخسائر؟
نشر موقع «رأي اليوم»، يوم الخميس 25/8، مقالاً بعنوان: «ما هي خفايا وكواليس التصعيد ضدّ القوات الأمريكية في سورية؟»، للإعلامي والكاتب الفلسطيني المحترم، كمال خلف. ولأهمية الموضوع الذي يتناوله المقال، سنناقشه فيما يلي...
بدايةً، نتفق مع الكاتب بالرأي بأنّ التصعيد الجاري ضد القوات الأمريكية، هو فعلاً غير مرتبط، أو قليل الارتباط، بمفاوضات الملف النووي؛ وبأنّه يأتي في إطار الضغط لإخراج الأمريكان نهائياً من سورية.
والحقيقة أنّ هذا الاتجاه قد تثبّت ليس في إطاره العام فقط، بل وفي إطاره الملموس إلى حدٍ بعيد، في قمة طهران الأخيرة لمسار أستانا الذي يضم الثلاثي (روسيا، تركيا، إيران).
أحد التعبيرات عن ذلك ليس البيان الختامي للقمة فحسب، بل وأيضاً جملة التصريحات المكثفة التي تخللت وعقبت القمة بما يخص الوجود الأمريكي في سورية، والتي كان بارزاً فيها، وجديداً نسبياً، التصريحات التركية، باعتبار أنّ التصريحات الإيرانية والروسية ليست جديدة في هذا الصدد، وإنْ كانت حدّتها قد ارتفعت مؤخراً.
كلمة حول القمح والنفط
نقطة الاختلاف الأساسية مع الكاتب، هي المطابقة من حيث النتيجة بين الأكراد في الشمال الشرقي السوري وبين الأمريكان، وضمناً الحديث عن «كيان كردي مستقل»... وهي مطابقة خطيرةٌ بمفاعيلها وآثارها، ناهيك عن أنها مغايرة للواقع، خاصة مع تطورات السنتين الأخيرتين اللتين تحسنت خلالهما بشكل ملحوظٍ العلاقات بين قسد/مسد وبين روسيا، وجرى خلالهما، وعلى أساس تفاهمات متلاحقة، انتشارٌ للقوات الروسية، وكذلك للجيش السوري، في مناطق أوسع ضمن الشمال الشرقي السوري، وهذه وقائع لا يجوز التقليل من أهميتها، ناهيك عن إسقاطها من الحساب؛ لأنها وقائع تشير إلى اتجاهٍ للحل بعيدٍ كل البعد عن سيناريوهات «السحق» و«الحسم»، وقريبٍ من سيناريوهات التفاهم والحوار وحقن الدماء السورية.
من المفيد أيضاً التذكير بما يخص مسألتي النفط والقمح، بالحقائق التي تقول إنّ كامل محصول القمح في الشمال الشرقي للعام الماضي قد تمّ بيعه لدمشق، إلى ذلك الحد الذي تسبب بعجزٍ في الطحين في الشمال الشرقي السوري، وجرى العمل على حلّه عبر استيراد قمحٍ من روسيا، وتمت إعاقة هذا المسعى طويلاً من متشددين ضمن النظام.
وبما يخص النفط السوري المنتج في الشمال الشرقي، فإنّ من يتشاركون عملية التربح منه هم أربعة أطراف (الأمريكان: 30%، متشددون وتجار معروفون مرتبطون بالنظام السوري: 30%، الأتراك: 20%، الإدارة الذاتية: 20%)... وهذه النسب ليست عملية تقاسم بسيط، بل هي أيضاً تعبيرٌ عن طبيعة النفوذ والسيطرة في هذه المنطقة، والتي تعكس صورة أكثر قرباً من الواقع من اختصار المسألة بأنّ السيطرة هناك هي أمريكية مئة بالمئة، وأنه يتم استخدام القوى الكردية ضمنها بوصفها مجرد أداة... الواقع في الحقيقة أعقد من ذلك، البحث عن حلٍ حقيقي يتطلب الانطلاق من الحقائق والوقائع، وليس مما يقال ضمن الخطاب السياسي لهذه الجهة أو تلك...
وإذا كان هذا واقع الأمور بما يخص القمح والنفط، فإنّه لا يعني قطعاً أنّ القوى السياسية والقوى المتنفذة في الشمال الشرقي السوري لا تتحمل مسؤولية عما يجري، بل هي تتحمل مسؤولية أساسية؛ ولعل من الطريف والمرير بآنٍ معاً في توصيف وضع السوريين في الشمال الشرقي السوري، هو أنّ الأمور لم تتغير عليهم كثيراً بين سيطرة النظام وسيطرة قسد/مسد؛ فما تزال ملفات محاربة الفساد ومحاربة المحسوبيات ومحاربة التسلّط، هي الملفات الأساسية على الطاولة، وهي الحروب التي لا تبدأ ولا تنتهي، كالعادة...
لمصلحة منْ، طرد الأمريكان؟
بالعودة إلى جوهر الموضوع، فإنه لا شك بأنّ ما نتفق عليه مع الكاتب هو أنّ هنالك هدفاً أساسياً هو إخراج الأمريكان من سورية، واستعادة وحدتها وسيادتها وسيادة شعبها. وأيضاً نتفق معه تماماً بأنّ كلاً من روسيا وتركيا وإيران، لهم مصلحة مشتركة في إخراج الأمريكان من سورية، وصاحب المصلحة الأولى في هذا الشأن هو الشعب السوري... ولكنْ أيضاً، ينبغي التنبه إلى المعنى العميق لطرد الأمريكي من سورية، أي ما سيترتب على عملية الطرد هذه من نتائج، وذلك لمعرفة المصالح العميقة للأطراف المختلفة في هذا الشأن.
حل الأزمة السورية، والذي يتطلب بالضرورة تغييراً جذرياً يصب في مصلحة الشعب السوري عامةً، ويصب في استعادة لا وحدة الأراضي فحسب، بل ووحدة الشعب أيضاً، هو بالضد تماماً من مصالح المتشددين وتجار الحرب والفاسدين الكبار من الأطراف السورية المختلفة. وهؤلاء يعلمون أكثر من غيرهم، أنّ إبقاء سورية ساحة صراع بين الغرب والشرق، بين المجموعة المصغرة الغربية ومجموعة أستانا، يعني تأجيل الحل وتأجيل التغيير إلى أجل غير مسمى، وبالتالي الاستمرار في عمليات النهب والسيطرة.
إخراج الأمريكان من سورية، يعني أنّ الطريق بات مفتوحاً أمام التغيير الحقيقي، وأمام الحل الحقيقي، لأنه يعني في الجوهر إيقاف سياسة «المستنقع» التي هي السياسة الأمريكية الوحيدة الثابتة بما يخص سورية؛ لأنّ الأمريكان لم يعد لديهم من سياسات اتجاه منطقتنا سوى سياسات حرب الجميع ضد الجميع، والتخريب المستمر. وضمن هذا السياق بالذات، فإنهم قد تخلوا منذ سنوات عن شعاراتهم السابقة، وباتوا يرفعون شعار «تغيير سلوك النظام»، والمقصود منه بالجوهر هو محاولة جرّ سورية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وعملياً منح المتشددين من الأطراف المختلفة هوامش للحركة بين أستانا من جهة وبين المجموعة المصغرة الغربية من جهة أخرى، بغرض إطالة الأزمة وممانعة الحل.
وعليه، وبغض النظر عن الشعارات والخطابات المعلنة، فإنّ المصلحة العميقة لتجار الحرب وللفاسدين الكبار من مختلف الأطراف السورية، سواء في النظام أو في «الإدراة الذاتية» أو في المعارضة، هي بقاء الاحتلال الأمريكي في سورية، حتى وإنْ صرحوا ليل نهار ضده...
اتجاهان في التعامل مع المسألة
القوة العسكرية الفعلية للاحتلال الأمريكي في سورية، هي قوة رمزية أكثر مما هي فعلية؛ وما يُصعّبُ عملية طرده نهائياً، هو أنه من غير المتوقع، وربما من غير الممكن، أن يحدث اصطدام علني ومباشر بين أيٍّ من قوى أستانا، وبين الأمريكان، لما لذلك من آثارٍ وتداعيات أكبر بكثير من حجم سورية وحجم المنطقة... ولذا فإنّ تكتيكات الضغط «مجهولة المصدر»، تبدو أكثر واقعيةً، ولكنها بالتأكيد ليست كافية لطرد الأمريكان.
ما يمنح الاحتلال الأمريكي القدرة على الاستمرار حتى الآن في سورية، هو تعطل الحل السياسي، وتعطل التفاهم السوري-السوري، وضمناً فهو يسعى لاستخدام السوريين في الشمال الشرقي السوري، وقواهم السياسية، كدروع بشرية وسياسية يحتمي بها للحفاظ على وجوده.
وبهذا المعنى، ولأن الطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة، فإنّ الحديث عن «كيان كردي مستقل»، والمبالغة المفرطة في الحديث عن «النزعات الانفصالية»، (ولا نقصد هنا حديث الأستاذ كمال خلف، بل الأحاديث التي نسمعها بين المتشددين الأتراك، وكذلك المتشددين ضمن النظام، والتي تتقاطع تماماً مع الأحاديث التي تخرج عن بعض المتشددين ضمن قسد/مسد)، يصب فعلياً في مصلحة الأمريكان، لأنه يغلق الطريق على التفاهم بين السوريين فيما بينهم، ويربط مصير سكان الشمال الشرقي السوري، ومصير القوى السياسية فيه، ربطاً نهائياً بالأمريكان، ويحكم عليهم تالياً بأن يكونوا دروعاً بشرية بيد العدو الأول للشعب السوري ولكل شعوب المنطقة والعالم، أي بيد الأمريكان...
أبسط المعادلات في العمل السياسي وحتى العسكري، وحتى بافتراض أنك تواجه عدواً، هو العمل على استمالة أقسامٍ كبرى من صفوفه، أو على الأقل فرزها... هذا إنْ كنت تتعامل مع عدو، فكيف إذا كان التعامل هو مع سوريين ينبغي التفاهم معهم في نهاية المطاف...
الحل المستدام
طرد الأمريكان هو بالضرورة مصلحة سورية، ومصلحةٌ لكل شعوب ودول المنطقة، ولذا يجب تسريعه للحد الأقصى، ويجب إضعاف قدرة الأمريكان على المناورة والابتزاز والتخريب. ويجب فوق ذلك قطع الطريق على محاولتهم زرع ألغامٍ متفجرة كبرى في المنطقة بأسرها...
فلنتخيل سيناريو طرد الأمريكان بالتوازي مع سحق القوى السياسية في الشمال الشرقي السوري، ولنتخيل نتائجه...
أولاً: ستكون عملية الطرد أصعب بما لا يقاس، وأطول زمنياً.
ثانياً: سيتم خلالها هدر مزيد من الدم السوري من الأطراف المختلفة.
ثالثاً: سيؤدي هذا السيناريو إلى تعميق جروح الوحدة الوطنية السورية، وسيكون تكراراً لمقولات «الحسم» و«السحق»، وسيأخذ شكلاً قومياً شئنا أم أبينا؛ ما يعني أنّه سيخلّف موجة تخريب تشمل لا سورية فحسب، بل وتركيا أيضاً على الخصوص، ومعهما العراق وإيران... وسيكون هذا بالمحصلة السيناريو المثالي للانسحاب الأمريكي من المنطقة؛ لأنّ هدف وجود الأمريكان هو الفوضى والتخريب، وسيكونون سعداء تماماً إنْ أدى شكل خروجهم إلى فوضى وتخريب بمستوى أعلى...
بالضد من هذا السيناريو، فإنّ السيناريو الوطني السوري الذي ينبغي العمل عليه بكل إخلاص، هو سيناريو الوصول إلى تفاهمات حقيقية بين السوريين أنفسهم، والتوقف نهائياً عن خطابات التهديد والوعيد والتخوين من جهة، وخطابات التكبر ومحاولات فرض الأمر الواقع من جهة أخرى... وهذا ممكن ضمن الظروف الجديدة؛ فرغم أنّ صوت المتشددين ما يزال هو الأعلى في مختلف الجهات، إلا أنّ هؤلاء باتوا أضعف وأعجز في أعمالهم التخريبية ضد الحل، والوقائع الملموسة تجري باتجاه معاكسٍ لما يأملون...
الحوار بين السوريين، والتطبيق الكامل للحل السياسي على أساس القرار 2254، وبمساعدة ثلاثي أستانا، وبما يصب في إعادة توحيد سورية، لا أرضاً فقط، بل وشعباً أيضاً، هو الطريق الحقيقي لاستعادة وحدة سورية، ولطرد الأمريكان ومعهم الصهاينة من الأرض السورية، وأيضاً لإنهاء الاحتلال التركي، ولإخراج كل القوى الأجنبية من سورية...
أخيراً، فإنّ ضرورة التفاهم والحوار بين مختلف القوى السياسية في سورية، باتجاه استعادة وحدة سورية أرضاً وشعباً، وإنهاء وجود كافة القوى الأجنبية وأولها الأمريكي و«الصهيوني»، ليست إطلاقاً «كرتاً أخضر» تعبر من خلاله هذه القوى إلى مستقبل سورية، بل هي في الحقيقة ضرورة لعبور سورية نفسها والشعب السوري نحو ضفة الأمان، حيث سيسأل هذا الشعب بالذات عن رأيه بالجميع، وستكون له الكلمة الفصل في أوزان القوى المختلفة ومدى تمثيلها له...