«الاهتمام الأمريكي» بسورية... نذير شؤمٍ، ولكن بشارةٌ أيضاً!
ناقشت قاسيون في عددها رقم 1088- وتحت عنوان (ما الذي أيقظ الأمريكان على الملف السوري؟)- الارتفاع المستجد لكثافة اللقاءات والنشاطات ذات الطابع الدبلوماسي التي تقف أمريكا بالأخص والغرب بشكل عام وراءها فيما يتعلق بالملف السوري.
وكانت الفترة التي سبقت هذه الكثافة المستجدة، قد شهدت تراجعاً كبيراً في هذا النوع من النشاط، خلال سنة سابقة على الأقل. وبسبب مجموعة من العوامل والمعادلات الجاري ترجمتها إلى حقائق على أرض الواقع، والتي تهدد بإنهاء الدور الأمريكي في سورية والذهاب باتجاه الحل، بدأت أمريكا بزيادة نشاطها في الملف السوري لمنع كل هذا، وفي المحصلة لمنع التطبيق الحقيقي للقرار 2254.
اقترحت المادة المشار إليها أن العوامل التي دفعت الأمريكان نحو هذا النشاط العالي، هي أنّ «الموازين الدولية الجديدة التي تمظهرت في أوكرانيا نفسها، وفي الاقتصاد العالمي وفي أزمات الطاقة والغذاء، وفي ارتداد العقوبات الغربية على الغرب، وفي اتساع رقعة التحالف الصيني الروسي، وتحالف بريكس وتعمق قوته ونفوذه العالمي، وخاصة في منطقتنا عبر سلسلة مصالحات بين الدول جرت مؤخراً، وخاصة بين السعودية وتركيا، وبين مصر وتركيا، وكذلك بداية حلحلة المعضلة السعودية الإيرانية، وأيضاً العمل الروسي الإيراني المشترك مع تركيا للدفع نحو تقارب تركي سوري، إضافة إلى أنّ هذه الدول كلها (السعودية، تركيا، مصر، وغيرها) أخذت شكلياً موقف الحياد من الصراع الشرقي/ الغربي، ولكن عملياً وقفت في صف روسيا والصين، ابتداءً من سياسات الطاقة، ووصولاً إلى الموقف من المشاريع السياسية المطروحة غربياً، وعلى رأسها مشاريع من نمط «الناتو العربي» وما شابهه». باختصار، واشنطن من خلال نشاطاتها في الفترة الأخيرة تحاول عرقلة ومواجهة تعمق التفاهم بين أطراف ثلاثي أستانا وتوسيع دورها– بل أخذها زمام الأمور– فيما يتعلق بحل الأزمة السورية.
من بين تجليات النشاط الأمريكي خلال الفترة الأخيرة ذكرت المادة «دعوات لاجتماعات في مجلس الأمن، أو على هامشه حول سورية، الزيارات المكثفة للشمال الشرقي السوري، دعوة «هيئة التفاوض» أي الائتلاف إلى سلسلة اجتماعات في جنيف مع دعوة لاجتماع «مجموعة التواصل»، وغيرها الكثير من النشاطات الأقل ظهوراً هنا وهناك».
جرد غير شامل
منذ ذلك الحين، وهي فترة لا تكاد تتجاوز الأسبوعين، شهدنا المزيد من النشاط الأمريكي في الاتجاه نفسه... ولكي تتضح الصورة أكثر، سنقوم بما يلي بإجراء جردٍ غير شامل، ولكن واسع نسبياً، لمجمل النشاطات و«المبادرات» خلال الشهرين الأخيرين، التي أطلقتها أو ترعاها واشنطن بما يخص سورية:
اجتماع لـ «مجموعة التواصل» (أي المجموعة المصغرة الغربية) في جنيف في بداية شهر أيلول الماضي، وتم تنظيم الاجتماع والدعوة إليه من قبل الأمريكان، وخصصوا يوماً على هامش الاجتماعات للقاء مع «هيئة التفاوض» أو فعلياً الائتلاف.
بعد انقطاع قارب السنتين للعمل على الحوار الكردي- الكردي، عادت الحكومة الأمريكية إلى الاهتمام بشكل كبير بهذا الملف، وبملف الشمال الشرقي عموماً، حيث كان هناك نشاط كبير ملحوظ في الآونة الأخيرة للمبعوث الأمريكي الجديد لشمال شرق سورية، نيكولاس غراينجر، والذي عقد عدداً من اللقاءات المكثفة في الفترة الأخيرة مع بعض الأطراف الكردية، ووتيرة زياراته إلى المنطقة تتزايد، وهو حالياً مكلف بالعمل على إعادة إحياء الحوار الكردي- الكردي. في هذا السياق، تم استقبال وفد من المجلس الوطني الكردي في واشنطن.
تتزايد بشكل ملحوظ نشاطات منسوبة إلى «الجالية السورية في أمريكا»، علماً أنّ منظمي هذه النشاطات والذين يحضرونها لا يتجاوزن بمجموعهم 10-20 شخص بأحسن الأحوال، وهم تركيبة من رجال أعمالٍ وسياسيين منخرطين في العمل السياسي الأمريكي الداخلي منذ عشرات السنين، والطريف أنهم يحاولون تمثيل دور «لوبي ضاغط» على الكونغرس الأمريكي... في حين يستطيع المتتبع لهم أن يعلم أنّ معظمهم هو على العكس، لوبي يستخدمه الأمريكيون للضغط على السوريين، وعلى العاملين بالشأن السياسي السوري بما يخدم السياسة الأمريكية... بكل الأحوال فقد عقد هذا «اللوبي»، خلال شهر أيلول ما سماه «مؤتمر الميثاق الوطني السوري»، إضافة إلى نشاطات أخرى بما فيها التواصل بشكل مكثف مع الحكومة الأمريكية ضمن الجهود الهادفة لتفعيل الاستثناءات لقانون قيصر لكي يتمكنوا من الاستثمار في مشاريع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال السوري، وكانوا قد زاروا تركيا خلال الأشهر القليلة الماضية والتقوا مع مسؤوليها سعياً وراء الغاية نفسها، والتي قد تبدو «تجاريةً» في ظاهرها، ولكن جوهرها سياسي بالتأكيد.
عودة النشاط في الكونغرس الأمريكي من خلال مشاريع قوانين متعلقة بسورية، أبرزها حول المخدرات وبالتحديد تصنيع وتجارة «الكبتاغون» وموضوع الأسلحة الكيماوية.
إعلان الأردن عن مبادرة «عربية» جديدة للشروع في عملية سياسية بقيادة «عربية» لحل الأزمة السورية، وحول ذلك قال مسؤول أردني: إن «الأردن يدعو إلى دور عربي لإنهاء تلك الأزمة بالتنسيق مع أصدقائنا وشركائنا». وعادةً ما تكون مبادرات الأردن، وخاصة منها التي تحمل اسم «العربي»، على غرار «الناتو العربي» وخط الغاز «العربي»، ذات منشأ واحدٍ مشترك، ومنشأٍ غير عربي.
ازدياد زيارات مسؤولين أمريكان إلى تركيا، وبالأخص على المستوى الأمني، حيث إنه وفق بعض المصادر كان في تركيا قبل حوالي الشهر وفد ضم ممثلين عن وكالة المخابرات المركزية (CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، ووفق المصادر كان التركيز الأكبر في اللقاءات التي عقدها الوفد- مع عدد من السوريين المتواجدين في تركيا- على السياسة التركية اتجاه الملف السوري، ومعلومات حول العملية العسكرية التركية في الشمال السوري، حيث كانت من المواضيع الساخنة في ذلك الوقت.
زيارة وفد من «هيئة التفاوض» أي الائتلاف إلى الولايات المتحدة خلال فترة انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة آخر شهر أيلول، وتنظيم الأمريكان لاجتماعات معه، وتنظيمها لاجتماعٍ للوفد مع غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة وغيره من الاجتماعات.
المتابع يعلم أنّ درجة النشاط هذه مقارنة بمختلف المراحل السابقة، وعلى الأقل مقارنة بالسنتين الأخيرتين، هي درجة غير مسبوقة، وانطلقت فعلياً بعد قمة طهران مباشرة. وإذا كان الحال كذلك مع النشاطات «المعلنة»، فإنّ النشاطات غير المعلنة ستكون بالضرورة أكثر وأوسع، ولن تقتصر على الجانب السياسي... على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ الأمريكي مشتبه بهٍ سياسياً على الأقل في كلّ عملٍ تخريبي جرى خلال الأشهر التي تلت قمة طهران، وكان يسعى لضرب العلاقات بين ثلاثي أستانا، وسواء قام بتنفيذ الأعمال التخريبية بيده أو بيد المتشددين والفاسدين الكبار في عموم المنطقة، والذين تربط معظمهم علاقات قوية معلنة وغير معلنة مع الأمريكي ومع البريطاني.
نذير وبشارة
بكل الأحوال، فإنّ ارتفاع النشاط الأمريكي اتجاه سورية، هو نذير شؤمٍ دائماً، لأنّ السياسة الأمريكية المعلنة والواضحة والملموسة، هي إطالة الاستنزاف حتى تفتيت سورية وإنهائها، وهي مناصرة «إسرائيل» لا في احتلالها للجولان السوري فحسب، بل وفي طموحاتها لتشبيك المنطقة بأسرها تحت زعامتها، ولكن بعد تدميرها كلياً... وهذه كلها أوهام ميزان قوى دولي قديمٍ فات وانتهى.
في الوقت نفسه، ومع كون ارتفاع النشاط الأمريكي نذير شؤم، فهو أيضاً بشارة خير؛ فوضع الجمود القاتل في سورية هو الوضع المثالي بالنسبة للأمريكان، وما قبل قمة طهران، وطوال سنتين قبلها، كانت الأمور مضبوطة ضمن المستنقع، وضمن «الجمود هو الاستقرار» وتسير بسرعة نحو الانهيار الشامل لسورية، أي نحو مصالح الولايات المتحدة و«إسرائيل». ولذا لم يتعد النشاط الأمريكي خلال هذه الفترة حدود دوزنة قليلة من هنا، وأخرى من هناك، للحفاظ على إيقاع الخراب مستمراً وفق النوطة. فوران النشاط مؤخراً، بشارة خير لأنه يعني أنّ اللحن بات خارج النوطة، وبالملموس، يعني أنّ احتمالات تطبيق القرار 2254 عبر أستانا وبغض النظر عن الأمريكان قد ارتفعت حقاً ووجب تخريبها...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1090