افتتاحية قاسيون 1119: من دروس السودان!

افتتاحية قاسيون 1119: من دروس السودان!

تغرق السودان مجدداً في صراعٍ دموي داخلي، لا علاقة له من قريب ولا من بعيد بمصالح الشعب السوداني، بل بمصالح القلة المتنفذة المسيطرة على زمام الأمور، والتي لا تعدو كونها استمراراً معدّلاً للنظام السابق. ويرتبط الصراع القائم بطبيعة الحال بمصالح القوى الخارجية المتدخلة، التي يسعى جزء منها على الأقل إلى تسعير الصراع وتعميقه.

إنّ الوضع المؤلم والمرير الذي يمر به السودان، من شأنه أنْ يعلمنا جميعاً، وفي سورية ضمناً، دروساً جوهرية:

أولاً: إنّ محاولة التركيز على «حكم العسكر» بمقابل «حكم المدنيين»، بوصفه جذر الأزمة ولبّها، ليس أكثر من تعمية وتضليل عن الجوهر؛ فقبل البرهان- حميدتي كان حمدوك «المدني» حاكماً ومندوباً سامياً لصندوق النقد والبنك الدوليين في السودان، وكانت الأزمة هي الأزمة وإنْ اختلف الشكل؛ أي أنّ جوهر المسألة هو طبيعة البرنامج الاقتصادي- الاجتماعي والسياسي الذي يجري تطبيقه في البلاد، والذي لم يشهد اختلافاً يذكر على مدى عقودٍ طويلة، وحتى الآن. وهو البرنامج النيوليبرالي المرتكز إلى نهب السودان وثرواته الضخمة، وضرب إنتاجه لمصلحة قلة متنفذة، وعبرها نحو المراكز الغربية.

ثانياً: خاضت أطرافٌ سودانيةٌ «عسكرية» و«مدنية» في أوحال التطبيع مع الكيان الصهيوني، آملةً بأنّ ثمن التطبيع سيكون رفع العقوبات الغربية عن السودان، وتحسين أوضاعه الاقتصادية، ومعتقدةً بأنّ الأمريكان والصهاينة سيحمون المطبعين من غضب الشعب السوداني ويضمنون استمرارهم في الحكم. وقد أثبت الواقع، ويثبت الآن بصورة أكثر جلاءً، أنّ التطبيع مع الكيان هو باب جهنم تفتحه الأنظمة على شعوبها وعلى نفسها؛ اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وسياسياً. وهذا ما ينبغي أن يعيه جيداً كل المطبعين، وكل من تراودهم أفكار التطبيع عن أنفسهم...

ثالثاً: إنّ الأزمة الراهنة في السودان أشد وأعمق خطراً مما كانت عليه إبان تنحي/ تنحية البشير، إلى الحد الذي تهدد فيه ليس بحرب أهلية دموية فحسب، بل وأيضاً بتقسيم جديد. وهذا يبيّن أنّ عمليات تبديل الطرابيش التي تم اللجوء إليها للخلاص من استحقاقات التغيير الجذري تؤدي إلى شيء واحد فقط: تخدير مؤقت وقصير للأزمة، التي تواصل التضخم والتعمّق لتنفجر لاحقاً بحدةٍ أكبر. ما يعني أنّ كل الأنظمة «الجديدة» التي نتجت خلال العقد الماضي، وليست جديدة حقاً بل «قديماً مزيفاً»، هي وبلدانها ما تزال موضع تهديد بانفجارات قادمة أشد خطورة من كل ما سبق.

رابعاً: طاقة التخريب الأمريكية- «الإسرائيلية» في منطقتنا لم تنفد بعد، وليس من سبيل لإغلاق الباب أمامها نهائياً إلا عبر تحصين الداخل.. عبر تحقيق رضا الناس واحترام كراماتهم؛ بالملموس عبر تغييرات جذرية تعيد توزيع الثروة داخلياً، وتنهض بالاقتصاد على أسس إنتاجية وتنموية، وبالاستفادة من التوازنات الدولية الجديدة.

خامساً: لعل المستهدف الأول بعد السودان مما يجري، هو مصر، التي وحتى إنْ لم تتورط في تدخل عسكري مباشر، فإنّ استمرار الصراع على حدودها سيضعها في حالة استنزاف تُعمق أزماتها الداخلية، وتقودها نحو أوضاع شديدة الخطورة. ما يعني أنّ إغلاق الباب أمام الفوضى الخلاقة في كامل منطقتنا، لن يكتمل دون إغلاق كل الثغرات وحل كل الأزمات، ما يتطلب تعاوناً أعمق بين القوى ذات المصلحة في الاستقرار، على غرار منظومة أستانا. وهو ما يعزز الفكرة القائلة بأنّ وضع نهاية للأزمة السورية يتطلب إحاطة الأزمة من كل جوانبها، عبر تعميق التعاون والتكامل بين أستانا والصين والدول العربية الأساسية وفي مقدمتها السعودية، بالتوازي مع قطع الطريق على كل الألاعيب الصهيونية، سواء جاءت من أطراف غربية أو عربية.

رغم ما تبدو عليه اللوحة السودانية الراهنة من قتامة، إلا أنّ رفض الشعب السوداني الواضح للانخراط في الدم، والعمل الجاد الذي تقوم به روسيا والصين ودول إقليمية أساسية لاحتواء الموقف بالضد من الإرادة الأمريكية- الصهيونية، كل ذلك يسمح بالتنبؤ بأنّ الأزمة الراهنة لن تطول كثيراً... ولكنه لا ينفي أنّ إنهاءها ومنع انفجارها اللاحق يمر عبر طريق واحد لا بديل عنه: حل سياسي وتغيير جذري لمصلحة الشعب السوداني.

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1119
آخر تعديل على الأحد, 23 نيسان/أبريل 2023 18:41