هل هُزمت الشعوب؟ هل انتصرت الأنظمة؟ الثورة أمامنا وليست وراءنا

هل هُزمت الشعوب؟ هل انتصرت الأنظمة؟ الثورة أمامنا وليست وراءنا

بوحيٍ من المستجدات الدولية والإقليمية، يتسرّع البعض في الوصول إلى استنتاجٍ مفاده أنّ الشعوب العربية قد هُزمت، وأنّ الأنظمة قد انتصرت. وأبعد من ذلك، قلْ: إنّ الشعوب على العموم قد هزمت (لأنّ الحراكات الشعبية لم تكن محصورة بالعالم العربي) وأن الأنظمة قد انتصرت.

أصحاب هذا الرأي متنوعو المشارب والأهداف؛ بينهم من يحاول جاداً قراءة الواقع بموضوعية، بعيداً عن الرغبات والعواطف، وتوطئة للتعامل معه بشكل صحيح، وبينهم من تمثل هذه الآراء جزءاً من عدته الدعائية، خاصة حين الحديث عن الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، الذي يسعى لتثبيط الناس وكسرهم فوق انكسارهم وفوق تعبهم... ولكن بغض النظر عن الدوافع والغايات، فإنّ المقولة تحتاج إلى نقاشٍ مستفيض لن تغطيه هذه المادة، وإنما ستغطي بعضاً من جوانبه...
يستند أصحاب هذه الآراء إلى توصيفٍ شكلي للوقائع؛ فالأنظمة التي قامت ضدها الحراكات الشعبية، ما تزال قائمة في مكانها: سورية مثالاً. وتلك التي تمّ تغييرها فإنها تغيرت شكلياً فحسب، أما بالجوهر فما تزال على حالها إلى حدٍ بعيد، مثال: مصر وتونس. ويبقى النموذج الثالث الذي جرى فيه تدمير الأنظمة والشعوب معاً، وخرج الكل فيه خاسرين، كما في المثال الليبي، وربما السوداني أيضاً.
إذا اكتفينا بهذا التوصيف الشكلي، فربما يمكننا قبول النتيجة القائلة، بأنّ الأنظمة قد انتصرت. ولكن حتى مع قبول هذا التوصيف، يبرز سؤال منطقي: هل انتهت المعركة حقاً حتى تصبح نتائجها الشكلية الظاهرة الآن للعيان هي ذاتها نتائجها النهائية التي ستظهر في المستقبل؟ الجواب هو: قطعاً لا؛ فالمعركة ما تزال مستمرة، بل وهي الآن في أعلى ذراها... (من الضروري الانتباه إلى أنّ قولنا: إنّ المعركة في أعلى ذراها لا ينبغي أن يُفهم منه أن المقصود هو أننا في منتصف المسافة ضمن عملية التغيير؛ فالتاريخ لا يعمل وفقاً لجرس غاوس، بل يعمل بطريقته الخاصة وبمنحنياته الخاصة التي كان فيها سقوط الإمبراطوريات دائماً أسرع بمئات المرات من صعودها).
أبعد من ذلك، وفي اللحظة الراهنة بالذات، وقبل أي قفزٍ تحليلي نحو المستقبل، فإنّ التوصيف القائل بأنّ الأنظمة ما تزال هي هي، هو توصيف ليس شكلياً فحسب، بل وسطحيٌ؛ فالنظام السوري مثلاً: يوم 15 آذار 2011 هو غيره النظام اليوم، وكذا الأمر مع المصري والتونسي، وحتى السعودي، حيث لم يظهر حراكٌ شعبي كذاك الذي ظهر في دول أخرى... وفهم حقيقة وعمق التغييرات الجارية، والتي لم تعبر عن نفسها بعد بصورة كاملة وظاهرة، يتطلب بالضرورة خوضاً في تفاصيل معنى النظام السياسي على العموم، ومعناه المعاصر في سياق الاستعمار الحديث/ «العولمة»/ «النيوليبرالية»...إلخ.

توزيع الثروة والنظام السياسي

النظام السياسي في دولة من الدول، هو تكثيفٌ لِطيفٍ واسعٍ من الإحداثيات التي تحدد طبيعة العلاقات داخل الدولة المعنية، وكذا علاقاتها مع الخارج؛ يشمل ذلك بالدرجة الأولى العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية بين الشرائح والطبقات الاجتماعية، وداخل كلٍ منها، ومن ثم العلاقات القانونية والسياسية والثقافية وإلخ.
جوهر كل نظامٍ سياسي هو أسلوب الإنتاج السائد، وضمناً نمط توزيع الثروة. قبل الاستعمار الأوروبي، كان توزيع الثروة هو توزيعها داخلياً، وإنتاجها داخلياً. بعد الاستعمار بشكله القديم، باتت الأنظمة السياسية في الدول المستعمَرة، مجرد امتدادٍ للأنظمة في دول المركز، وبقيت الموضوعة صحيحة من حيث المبدأ؛ حيث بات النهب من الدول المستعمرة نحو مراكز الاستعمار، هو شكلٌ من أشكال إعادة توزيع الثروة «داخلياً»، أي ضمن المساحة الإجمالية التي يسيطر عليها المستعمر.
التشويش الأكبر، بدأ مع إرساء قواعد نظام الاستعمار الحديث- الاقتصادي (التبادل اللامتكافئ) أواسط ستينيات القرن العشرين (مقص الأسعار، الديون، التبعية التكنولوجية، هجرة العقول)؛ حيث باتت دول «العالم الثالث» مستقلة شكلياً، وباتت أنظمتها السياسية هي الأخرى مستقلة شكلياً، وبات من المفروض- شكلياً- أنّ عملية إنتاج وتوزيع الثروة تجري داخلياً، ولكن الحقيقة كانت دائماً في مكان آخر...
عملية توزيع الثروة في بلدان العالم الثالث طوال أكثر من 60 عاماً مضت كانت تجري بالشكل المبسط التالي: من رأس الكوم تنهب مراكز الاستعمار الجديد الغربي قسماً مهماً من الثروة المنتجة داخلياً في بلدان «العالم الثالث». بالنسبة للقسم المتبقي، فإنّ الشرائح الطبقية المسيطرة على السلطة تبتلع الجزء الأكبر منه، وبعد هذا وذاك يبقى الفتات للشعوب.
هذا النمط من العلاقة الاستعمارية، لم يقتصر على نهب الثروات من رأس الكوم كما أسلفنا، بل وتدخل في طبيعة الإنتاج واتجاهاته، بما في ذلك العمل ضد أية تنمية حقيقية، وضد أية إمكانيات استقلال اقتصادي، وبالتالي سياسي، وصولاً إلى التحكم بالأنظمة المالية- النقدية الداخلية، وتحويلها إلى أداةٍ في إسباغ القيمة على الدولار، وبشكلٍ خاص بعد فكه عن الذهب.
عودٌ على بدء، فليس من الصعب الاستنتاج، أنّ الأنظمة السياسية السائدة في البلدان المستعمرة اقتصادياً، ليست أنظمة مستقلة بشكل كامل، ولكن ربما الاستنتاج الأهم، هو أنّ التبعية الاقتصادية للغرب هي مكونٌ أساسي في بنية هذه الأنظمة. بكلامٍ آخر، فإنّ للغرب حصته ضمن السلطة في كل دولة من الدول المستعمرة اقتصادياً، ورمزياً يمكن القول: إنّ للغرب عدداً من المقاعد في مجلس إدارة الدولة المعنية، سواء كان احتلال هذه المقاعد مفضوحاً وعلنياً بممثلين للغرب ولمؤسساته (كما كانت الحالة مثلاً مع عبد الله الدردري أو مع رفيق الحريري)، أو مستورة وغير معلنة كما هو الأمر في كثير من الحالات الأخرى.
أكثر من ذلك، فإنّ «عدد المقاعد في مجلس الإدارة» كان دائماً كبيراً ومؤثراً إلى الحد الذي ساهم فيه مساهماتٍ حاسمةً، ليس في صياغة طبيعة الاقتصاد الداخلي واتجاهاته فحسب، بل وأيضاً في صياغة طبيعة البنية الفوقية بأكملها، بما في ذلك آليات ممارسة السياسة والاتجاهات الثقافية السائدة والبنى القانونية والحقوقية وإلخ وإلخ. ضمناً، فإنّ أشكال القمع السياسي والتطبيقات «النيوليبرالية» في إدارة المجتمع، هي الأخرى أسهم الغرب فيها إسهاماً مهماً، إنْ لم نقل حاسماً.
وللتذكير، فإنّ وثائق الإرادة الشعبية (اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين سابقاً)، كانت قد نبّهت منذ وقت طويل، منذ 2004 وقبل ذلك، بأنّ ما يسمى بالليبرالية الاقتصادية عبر نموذج «اقتصاد السوق الاجتماعي» ستجلب معها لا الليبرالية السياسية التي انتهت وماتت منذ عقود، بما في ذلك في الغرب نفسه، بل ستجلب معها مزيداً من انخفاض الحريات السياسية؛ لأنّ حجم النهب الذي يترتب على (الليبرالية/ اقتصاد السوق الاجتماعي) وفي الحقيقة النيوليبرالية، يتناسب عضوياً، ويتطلب، حجماً غير مسبوق من القمع... وهو ما كان.

1118-2

ملاحظتان

لا بد هنا من ملاحظتين:
أولاً: قد يبدو الكلام تبرئة للأنظمة وتقليلاً لمسؤوليتها، وهذا ليس صحيحاً قطعاً؛ بل هو على العكس، تِبيانٌ لتلك المسؤولية التي تغدو مضاعفةً حين يصبح ادعاء «الاستقلالية التامة» تغطيةً للنهب الغربي والدولاري خاصة، عبر التبادل اللامتكافئ.
ثانياً: من الصعب بمكانٍ تحديد التناسبات الدقيقة ضمن «مجلس الإدارة» بين ما هو محلي وما هو خارجي، لأنّ الشفافية في هكذا أمور غائبة بطبيعة الحال، ولأنّه يحدث أنْ يلعب أعضاء محليون أدواراً مزدوجة ممثلين لمصالحهم، ولمصالح الغرب في آن معاً. مع ذلك، ليس من الصعب القول: إنّه طوال عقودٍ ستة على الأقل، فإنه كانت للغرب حصة كبيرة ضمن هذه الأنظمة، بناءً على التناسبات في توزيع الثروة بين الداخل والخارج، والتي مالت كفتها في كثير من الأحيان نحو الخارج... فإذا استرشدنا بقول الماركسية: إنّ السياسة هي تكثيف للاقتصاد، فليس غريباً القول: إنّ حصة الغرب في «سياستنا» و«سياساتنا» هي حصةٌ معتبرة.

الأزمة- المعركة

قبل أيّ حديثٍ عن قوىً صاعدة وأخرى هابطة، وقبل الحديث عن توازنٍ دولي جديد وإلى ما هنالك من أمورٍ هي مواضيع الساعة، لا بد من العودة إلى الوراء قليلاً.
يتفق الكل تقريباً، على أنّ أكبر حدثٍ عالمي في النصف الثاني من القرن الماضي هو انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. ولكنّ هنالك أيضاً أبعاداً أخرى قد سمح هذا الحدث بالذات بإخفائها مؤقتاً؛ ما نقصده بالضبط هو حجم وعمق الأزمة البنيوية للمنظومة الرأسمالية ككل، وبمركزها الدولاري خاصة. وكي لا نطيل الغوص في الإحداثيات الاقتصادية، نكتفي بإشارات خاطفةٍ لمحاور هذه الأزمة:
أولاً: مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتقسيمه ورسملته، تم الانتهاء من عملية التوسع الأفقي للنظام الرأسمالي، بحيث وصل عملياً كل بقاع الأرض، ولم يعد هنالك مجال لأي توسع أفقي إضافي. والتوسع الأفقي كان أداة فعالة في القفز فوق الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي. هذا «القفز»، وفي كل مرة كان يتم بها، لم يكن يعني إطلاقاً حلّ الأزمة، بل كان يعني بالضبط شيئين معاً: تأجيل انفجار الأزمة، وتضخيم حجمها.
ثانياً: أداة التوسع الأفقي الأساسية كانت دائماً هي الحرب. مع وجود الردع النووي وانتشاره في عدد غير قليل من البلدان، باتت هذه الأداة مثلومةً وغير قادرة على أداء دورها بالشكل التقليدي السابق (بما في ذلك دورها في ضرب قوى الإنتاج في إطار تخفيض ضغطها على علاقات الإنتاج). وباتت الأدوات البديلة متركزة في الحروب الهجينة، وأدوات الهيمنة الناعمة بأشكالها وأنواعها المختلفة، والتي رغم أهميتها، بات من الواضح أنها بدأت تصطدم بجدران صلبة في إطار الدفاع الخلوي الذي تقوم به الشعوب عن نفسها (ضمناً فإنّ منظومة القيم المتعلقة بالعائلة مثلاً، والتي تنعت بأنها محافظة أو تقليدية، قد تحولت إلى أداة ثورية في يد الشعوب ضد عمليات التفتيت الشامل).
ثالثاً: جرت عملية إعادة تقسيمٍ كبرى للعمل على المستوى الدولي؛ فتعقد التركيب العضوي لرأس المال، وانخفاض معدل الربح، أدى إلى انتقالٍ تدريجي لمركز ثقل عمليات الإنتاج من المركز الغربي إلى خارجه، وخاصة نحو الصين والهند وغيرهما. إلى ذلك الحد الذي لم يعد يملك الغرب فيه عملياً سوى منظومته النقدية- المالية السائدة، ومعها أدوات العسكرة والسياسة لتوظيفها في النهب والسيطرة؛ أي إنّ الغرب بات عملياً لا ينتج سوى جزءٍ يسير من مجمل الإنتاج العالمي، في حين يريد ابتلاع القسم الأعظم من الإنتاج في كل العالم.
رابعاً: ما هو أكثر خطورة وعمقاً، هو أنّ عمليات تمركز الثروة في يد قلة متناقصة على المستوى العالمي، قد وصلت حدود إيقاف إمكانيات دوران العجلة الاقتصادية. فالربح لا يتم دون اكتمال الدورة عبر بيع المنتجات، والبيع لا يتم حين لا تكون لدى الناس قدرة على الشراء... ببساطة لا يمكن للإنتاج أن يستمر مع تراجع الاستهلاك. ومشكلة الرأسمالية، أنها تسعى دائماً إلى تضخيم الإنتاج، ولكن في الوقت نفسه تقليص الاستهلاك عبر تضخيم الأرباح وتركيزها... وصولاً إلى ما نراه اليوم ويسميه الاقتصاديون بالركود التضخمي، والذي ليس له من مخرج سوى إعادة توزيع الثروة.
وإذاً، فإنّ انهيار الاتحاد السوفييتي بحد ذاته، قد شكل متنفساً مؤقتاً للأزمة الرأسمالية الشاملة، وما نراه اليوم من تجدد لهذه الأزمة وبمقاييس أضخم بما لا يقاس من أي وقت مضى، هو نتيجة طبيعية للتراكم المستمر لعملية التمركز... وليست كورونا وأوكرانيا وتايوان وإلخ سوى أعراض جانبية للمرض الأساسي.

المعركة

غرض هذه العودة إلى الوراء هو إزاحة غشاوة «التفكير التقليدي» التي من شأنها أن تعمي الأبصار والقلوب. ما نقصده بالضبط هو محاولات قراءة المعركة العالمية الجارية من الزاوية الضيقة لقوى صاعدة وقوى هابطة، دول تتقدم وأخرى تتقهقر؛ فالمسألة أكبر وأعمق... ما يجري هو تغيير في مجمل المنظومة السائدة في العالم، منذ ما يزيد على ثلاثة إلى أربعة قرون... ليس بجانبها الاقتصادي الاجتماعي فحسب، أي كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، وإنما أيضاً كطرق للتجارة وكتركيب جيوسياسي على المستوى القاري.
بكلامٍ آخر، فإنّ الاستنتاج أنّ «أنظمة العالم الثالث»، ستتكيف قافزة من حضن إلى حضن، يفترض أولاً: أنها مستقلة بالقدر الكافي لتقرر متى وكيف وإلى أين تريد أن تقفز، ويفترض ثانياً: أنها قادرة على القفز.
المعركة الجارية عالمياً لنسف الهيمنة الغربية تمر عبر طريق واضح وواحدٍ، هو الانتقال من التبادل اللامتكافئ إلى التبادل المتكافئ، وهذا يتطلب الانتقال من منظومة التبعية إلى منظومة الاستقلال...

الثورة أمامنا

ما هُزم حقاً هو المحاولة الغربية لتبديل الطرابيش مع الإبقاء على البنية الأساسية للأنظمة في بلدان الأطراف. وعملية تبديل الطرابيش نفسها كانت مطلوبة لأنّ الطرابيش القديمة قد بليت ولم تعد صالحة.
الآن بتنا على أعتاب مرحلة إلغاء الطرابيش، قديمها وجديدها... وهذه العملية ستأخذ وقتها بطبيعة الحال، ولكنّ التراث الثوري القديم والحديث يعلمنا أنّ تلك اللحظة بالذات التي يبدو فيها أنّ قدرة الشعوب على الحركة ورغبتها في الحركة معدومة تماماً، أو شديدة الانخفاض، هي هي فجر الثورة... هذا ما يعلمنا إياه الشهيد باسل الأعرج في محاضرته الشهيرة «بين ألف الانتفاضة وباء الهبّة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1118
آخر تعديل على السبت, 06 أيار 2023 22:51