د.محمد المعوش
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في مواد سابقة جرت الإشارة إلى الإطار الفلسفي الذي يحكم معادلة الأزمة-الانتقال الحضاري التي تعيشها البشرية حالياً، ولكن الموضوع لا زال يحتاج لمزيد من المعالجة، أولاً، لأنه مغرٍ من ناحية مستوى التجريد والوضوح الذي قد يمدنا به، ومن هنا ضرورته النظرية، فالوضوح هو الحقيقة على حد تعبير مهدي عامل، وثانياً، في كونه يقدم أفق احتمالات سير التناقضات وحلّها، ومن هنا ضرورته السياسية العملية.
من ملامح المرحلة الحالية، كما أشرنا سابقاً، انكشافُ الجوهر وتجانسُه مع الشكل، وهناك أيضاً اندماج مستويات البنية الاجتماعية. وهذا التحوّل يقوم تحتياً أوّلاً على اشتداد التناقضات الموضوعية ووصولها إلى «حدّها» التاريخي، وثانياً على التحام النشاط المادي للبشر في مستوييه الذهني/العقلي والجسدي/العملي. وهذا يؤسّس لتقارب البنية التحتية والفوقية، ويسمح بالخلاصة التالية وهي وصول الواقع إلى ظهوره بلغة «منطقه الفلسفي» ولغة «منطقه السياسي» بالضرورة. وهذا رعب العقل في دفعه العالم باتجاه اللاعقلانية والفلسفة الصلفة.
يجري الكثير من النقاش ضمن العقل المهيمن والمواقف الناقدة لهذا العقل حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي على التجربة الإنسانية ككل، وما تحمله هذه التأثيرات من تحولات عميقة تنطوي على معاني انتقال حضاري. وعلى الرغم من أن التأثيرات شاملة، إلا أن التركيز عادة يحصل بشكل خاص على العامل الاقتصادي-الاجتماعي (قضايا استبدال الطبقة العاملة مثلاً). وكنا قد مررنا سابقاً على المعاني الفلسفية للذكاء الاصطناعي وتعظيمها للتناقض الفلسفي التاريخي مادية-مثالية، والتحدي الذي يفرضه على حل هذا التناقض. وهنا نمرّ على الجانب الفردي لهذا التناقض، أيْ انقسام الإنسان على ذاته، كجوهر لقضية الاغتراب.
يمكن المرور سريعاً على مقولات خط موجود ولا يمكن نكرانه على الرغم من خفوت حضوره (المتبلور) مؤخراً، ليس فقط لفهم تخوم الصراع الأيديولوجي بل ولتطوير الموقع النظري-الفكري الخاص بقوى التغيير العميق-الجذري ودعمه. وهذه المقولات وهذا الخط هو ما يعلن عن نفسه بأنه الخط «الماركسي المبدئي»، علماً أنه يجترّ المفاهيم ويعيد ترتيبها وفقاً لتطوّرات المشهد من الموقع الجامد المنقلِب إلى العدائية وموقع العدو التاريخي للإنسانية.
كما صار واضحاً على مستوى الصراع الفكري والأيديولوجي عالمياً والمتصاعد مؤخراً والذي يأخذ بشكل خاص طابعاً فلسفياً، فإن النقاش يتمحور حول المشروع الحضاري النقيض ربطاً بأزمة النموذج الحضاري القائم ومصيره، كمدخل للمشروع النقيض بلا شك. وهنا نتناول جانباً أساسياً من أزمة النموذج القائم من باب تدمير قوى الإنتاج، والإنسان خاصة، على قاعدة الاغتراب وتجلياته الواقعية، ربطاً بأزمة العقل-الممارسة الطبية المهيمنة.
كان بدء تحلل السردية الليبرالية التي شكل «الحلم الفردي» عمودها الفقري نقطة العلام لأزمة الهيمنة الثقافية للنخبة الغربية. ولهذا التحلل معنى تاريخي بدأ يطلق منذ سنوات موجة من التوتر الثقافي-الروحي الظاهر، يلتقي مع التوتر السياسي-الأمني-الاقتصادي-العسكري-الاجتماعي. ونحن في صلب هذا التوتر، وما الكتابة إلا تعبيرٌ وكشفٌ عنه. وهنا نحاول إجمال آفاق هذا التوتّر والنضال الفكري الضروري عالي الوزن، وبشكل خاص حرب المفاهيم.
في مادةٍ سابقة كنا أشرنا إلى أنّ العالم الذي نعيش فيه اليوم لا يمكن اعتباره رأسمالياً صافياً، بل هو توليفٌ صراعيّ لمرحلة التناقض الرأسمالية-الاشتراكية خلال القرن الماضي. والتوليف لا يعني الجمع الميكانيكي بين العناصر بل ضمن وحدةِ وصراعِ الأضداد. وفي هذه المادة توسيعٌ في النقاش حتى لا يظهر اختزالياً، وحتى يمكن الوصول لخلاصات سياسية.
في السنوات الماضية، ومنذ انفجار الأزمة الرأسمالية تحديداً، بدأ تصاعد النقاش حول الاشتراكية، وتحديداً عنوان «عودة الاشتراكية». ولكن، في طيّات هذا العنوان (كما هو) نظرة ميكانيكية للتاريخ، تُطَهّر التاريخ من ظواهره وكأن شيئاً ظهر واختفى بالمطلق. ووقع في فخ «نظرة الصفاء المثالي» للتاريخ تلك حتى «أهل الاشتراكية» أنفسهم. ولأننا في قلب تعريف الانتقال العالمي، وطبيعته، لا بد مجدداً من إفراد مساحة خاصة لهذا النقاش.
يُذكّر ماركس بأن التاريخ يسير دائماً من جانبه المتعفّن. وإذا ما أردنا استكمال النقاط المنهجية السابقة، بما يخص التحولات النوعية في بنية المجتمع عالمياً، يمكن استخلاص الحركة العامة لسير التاريخ في المرحلة الراهنة.
لقد برز موقف لدى الكثير من المحللين «الأقل تطبيلاً والأكثر موضوعية» في سياق طوفان الأقصى والصراع في فلسطين والمنطقة عن عدم اتضاح مسار الأمور وبالتالي عن صعوبة الحسم حولها والتنبؤ بها. وبرر البعض منهم هذا كون القوى الفاعلة في الصراع هي نفسها «غير متأكدة وغير حاسمة ومترددة ومحتارة» فيما ستقوم به. وهذا لا يعني بالتحديد صعوبة التنبؤ بالخط العام، بل بالخط الخاص بأحداث محددة. فما هي الأسباب المحتملة لصعوبة عدم التنبؤ تلك؟