عن الاغتراب وجدلية السّلام والحرب

عن الاغتراب وجدلية السّلام والحرب

ما نشهده اليوم هو أبعد من مجرَّد لحظةِ فهمٍ لمرحلةٍ محدَّدة ومحدودة، بل إعادةُ تكوينٍ للوعي الذي تمّتْ صناعتُه طوال العقود الماضية، للوعي المختطَف، المستلَب والمغترِب عن الواقع والتاريخ، الذي هو تاريخُ حربٍ منذ تشكّل المجتمع الطبقي حتى يومنا هذا، وما لحظاتُ «السلام» فيه إلّا مراحل مؤقَّتة نتيجة القتال نفسه. فالسّلام كان يصنع بالقتال/الحرب، هكذا هي جدليَّتُه.

مجدداً: عن مرحلة الخلاصات الكبرى

إن المرحلة الراهنة، ولأننا نعتبرها مرحلةَ قَطعٍ ليس مع تشكيلة الرأسمالية فقط، بل مع المجتمع الطبقي ككل، فهي ولا شكّ تستدعي بحكم ديناميّتها وضرورتها الدّاخلية الحسمَ على مستوى الوعي حول قضايا تاريخية قامتْ على التناقض ضمن المجتمع الطبقي، ومنها تناقضُ فرد-مجتمع، وتناقض وعي-ممارسة، وغيرها ممّا شكَّل الأسئلة الفلسفية الكبرى في التاريخ. وهذا الاستدعاء للحسم على مستوى الوعي يقوم على ضرورة واقعية في المجتمع، فالتّوجه نحو التدمير والانتحار الجماعي نتيجة فقدان العالم المعادي للحياة والذي يحاول الحفاظ على هيمنته يتطلب هذا الحسم، فإمّا العقلانية أو اللاعقلانية، إمّا حضارةٌ إنسانية وإمّا بربرية، إمّا الحفاظ على الطبيعة وإمّا انقراض، إمّا قبضُ البشرية على مصيرها وإمّا السيرُ حسب أهواء تراكم الثروة لدى القِلّة القليلة، إمّا الحفاظُ على المُنتَج التقدمي للبشرية وضمناً المجتمع وإمّا نحو ما بعد المجتمع، إلخ. وليس نقاشُ الحرب والسِّلم خارجَ هذا الاستدعاء. والأهم أنّ هذه القضايا مندمجةٌ في وحدةٍ لا تنفصل، فالإجابة على قضايا الوعي تتطلّب إجابةً على مستوى الممارسة وتحوّلاً في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية، وبشكلٍ خاص استكمال إشراك البشرية في نقاشِ وتقريرِ مصيرها، أيْ استكمال تجاوزِ الاغتراب الذي بدأ بالتقدّم في الموجة الثورية الأولى. وهذا الدفع نحو صياغة الوعي الجديد تقوم به الحرب القائمة على أتمّ وجْه، أيْ أنه الجانب «التقدُّميّ» من الحرب القائمة.

عن الاغتراب والحرب

إنّ مساهمة الحرب في تشكيل الوعي الجديد كبيرة جداً، ليس في منطقتنا فقط، بل في العالم ككلّ، حسب اختلاف حدّة واتساع الحرب في كل منطقة. فالحرب لا تساهم فقط في استكمال كسر صورة العالم الليبرالي الوهمي، التي انهارت منذ تصاعد الأزمة المالية وتبعاتها وتعطّل آليّات الاستيعاب الناعم منذ الحرب العالمية الثانية، بل تساهم الحرب أيضاً في وضع ضرورة الإجابات على جدول الأعمال اليومي التي لا يمكن تأجيلها، لكونها تخلق أزمة «وجودية» بالمعنى المادي، وليس فقط بالمعنى الروحي-النفسي. فالحرب القائمة، ونتيجةً لطبيعتها الحالية في كونها حرباً معبِّرة عن أزمة عميقة وشاملة في النظام الرأسمالي، والطبقي بشكل عام، تندمج فيها كلُّ القضايا التي قلنا إنّها موضعُ سؤالٍ فلسفيّ-سياسيّ طوال التاريخ البشري. وبالتالي فإنَّ وقف الحرب يتطلب الإجابة عن كل تلك الأسئلة، ولهذا مثلاً ودون صعوبة يمكن تتبع النقاش اليومي حول قضايا التبادل اللّامتكافئ، وأزمة السوق، والتسلح والحرب النووية والإبادة، والتكنولوجيا وإدارتها، وطرق التجارة، لا بل قضية التجارة نفسها كنموذج «للحفاظ على النمو»، والقيم الإنسانية والعقل، وإشراك الجماهير في وقف الحرب، ورفع سوية الاندفاع والصمود، والتعاون السياسي بين الدول على مبدأ المصلحة المشتركة، وليس فقط في بقعة الحرب نفسها كحالة عالمية، إلخ.
الحربُ إذاً تعيد تشكيل الوعي على مبدأ نسف أوهام العالم الرأسمالي «الليبرالية» وعقله ككل، ليس الذي نراه في المركز الغربي فقط، بل في التناقضات البينية لدى الدول التي تدافع عن وجودها، وليس فقط في التناقضات التي بينها وبين الغرب، وتحاول إدارة العالَم على قاعدة «السلام والعدالة».
وأهم قانونٍ تكشف عنه الحرب الدائرة للوعي الاجتماعي-الفردي، لا لعقول نخبة محددة فقط، هو أنّ المجتمع الطبقي هو حالة من الحرب، وأنّ الطمع بالسلام يتطلّب الاشتراك «الفاعل» في الحرب (وتعطيلَها هو شكل من الاشتراك فيها)، لا رفضها المبدئي كما يدعو له أبواق الاستسلام في مجتمعنا.

مثالٌ على هذا الطرح هو مقال نشر الشهر الماضي في النسخة العربية من صحيفة «الإندبندنت» البريطانية حيث نجد جانباً من هذا النقاش ولكن مرفوعاً إلى المستوى النظري الفكري من خلال استعادة «بريئة» لغرامشي تحت عنوان «لا بدّ من العودة إلى غرامشي في أزمنة الحروب»، حيث يركِّز فيها الكاتبُ على دورِ الثقافة في كسر الهيمنة وكآلية «عبقرية» لمواجهة الحرب. ويعرض الكاتب كيف أن غرامشي «عارضَ لينين» في مسألة «حرق المسافات» و«الضربة القاضية»، ويُعلِي الكاتب من فكرة «دور المثقفين»، ويدعو إلى توظيفِها الخَلَّاق في مجتمعنا على حساب «الصراع المسلَّح». لا ينفكُّ التيار السائد عن مفاجأتِك في اجتراحِه المُحَاجَّات بما يخدم القضيَّة التي يجري تعميمُها، إلّا وعيُ أن مسؤولية الحرب تقع على عاتق من اشتركَ بها من موقع صاحب الحقّ والدفاع عن الوجود. هذه هي السّردية اليوم حيث يجري تحميلُ المسؤوليّة في «وقف الحرب» للمقاومة في لبنان، ولإيران، ولليمن، إلخ. على اعتبارها «مغامرةً وسوء تقدير لموازين القوى». هؤلاء هم أنفسهم من طرحوا قضايا إسقاط الأنظمة (في لبنان وسورية مثلاً) منذ سنوات في تجاهل فاضح لموازين القوى، وضحكوا على مَن قال بضرورة الاعتراف بموازين القوى المادية والعمل على أساسها لتغيير الأنظمة تغييراً جذرياً تقدّمياً.
العودة إلى غرامشي (وإلى غيره من المفكِّرين الكلاسيكيّين) بحدِّ ذاتها هي تعبيرٌ عن العمق الفلسفي الذي تفرضه المرحلة الراهنة والذي أشرنا إليه. ولكنَّ غرامشي ولينين، لم يقولا غير أنّ المجتمع الحالي هو في حالة حرب هي نفسها الحرب بين القوى الاجتماعية، كما أنّ تنظير غرامشي الذي يحاول كاتب مقال «الإندبندت» البريطانية مسخَه كنموذج للـ«المثقف السلّمي» كان تنظيراً مجبولاً كلّه بلغةٍ عسكرية.
إنّ هذه الحقيقة (المجتمع الطبقي كمجتمع حرب) قد جرى تَـتْفيهُها في مقولات «الإنسانية والمحبّة والتعايش بين الطبقات»، والتي انتعشتْ في عقود النيوليبراليّة بشكلٍ خاص، وتكثّفت كلُّها في فكرة «رفض السياسة والصراع والدفع باتجاه التوترات الاجتماعية» والتي في جوهرها رفضٌ للفعل الثوريّ التقدميّ، وكانت دعوةً للاستسلام في زمن السِّلم. وما السردية حول تحميل الفعل المقاوم اليوم مسؤوليةَ الحرب إلّا امتدادٌ لتلك السرديّة الرافضة للصراع والفعل السياسي في زمن «الهدوء النسبي». إنّ حالة الحرب في المجتمع لم يكن السلام فيها إلّا حالةً مؤقَّتة ناتجة عن توازن قوى هو نفسه ناتجٌ عن الحرب السابقة. مثلاً، فترة «السلام» المؤقتة عالمياً ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن إلّا تعبيراً عن ميزان القوى ونتيجة لتلك الحرب نفسها. تاريخُ البشرية كلُّه يمكن اعتباره تاريخ الحرب.

وعيٌ جديد أقلُّ أوهاماً

الحرب وتحت الضربات تعيد تشكيل الوعي عالمياً، وتحديداً في منطقتنا، بما يلغي مفاعيل العقل الليبرالي اللاتاريخي وأوهامه، ويستدعي الحاجة إلى استكمال تشكُّل الوعي المادي-التاريخي فلسفياً وسياسياً لدى البشرية، ويعيد لها دورَها ويدفعها لتجاوز اغترابِها عن صناعة تاريخها، فالسّلام لنْ يأتيَ إلّا نتيجةَ الاشتراك الفاعل، لا بدعواتٍ قاصرةٍ ضيّقة الأفق حول تحميل مسؤوليّات تلغي كلَّ تاريخِ البشرية من خارج أزمة النظام العالمي، وإغراق الوعي بأفكارٍ أقلُّ ما يُقالُ حولها إنّها مُضحِكة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1199