مَن ينتصر هو مَن يملك الإجابات
حتى هذه الساعة ما تزال الأحداث تتطوّر بشكل سريع، ويبدو أنّ ظاهرة تسارع التاريخ المتكثّف والمضغوط في أيّام والتي أشار إليها لينين صارَتْ هي، كما ظواهر أخرى، من الملامح الثابتة للمرحلة التاريخية الراهنة كمؤشّر على حاجة وعمق وشموليّة الانتقال. وفي هذا التسارع تطلُّ الحاجة الملحّة للعقل السياسي «من تحت» لكونها مرحلة لم تعد تكفي «إدارتها من فوق».
الحاجة للسياسيّ من تحت (1)
في مراجعةٍ عامّة للحدث اللّبناني والجولة الأخيرة من الحرب مع الكيان الصهيوني، وما أفضتْ إليه من «اتفاق» أنتجَ لدى شراح كبيرة في لبنان وخارجه حالةَ اضطراب فكريّ سياسيّ واضحة، جرى التعبير عنها من خلال منصّات وأصوات لشخصيات تعتبر من صلب إطار المقاومة اللّبنانية وحزب الله بشكلٍ خاص. حالة الاضطراب تلك هي نتاجُ «التخبُّط في فهم» مسار الأحداث، لناحية هل هي انتصارٌ أم هزيمة؟ وبمعزل عن الخوض في نقاش الحدث بحدّ ذاته، وفي كونه مفتوحاً على تطوّرات المنطقة والعالَم، التي أثبتها الحدث السوري في اليوم الثاني مباشرةً، ولكن ما يهمّنا هو العاملُ المنهجيّ لدور تملّك الناس «من تحت» للعقل السياسيّ الذي يعكس المرحلَة وقوانينَها. والعاملُ المنهجيّ هذا يستند أوّلاً، إلى أن البنى الفوقية من تنظيمٍ سياسي وعقل سياسي وأفكار مرتبطة بفهم العالم والمرحلة، لم تعد تصلح لمتطلّبات التطوُّر الموضوعي وحاجاته، وخصوصاً أنه نتيجةٌ للتسارع، بعض الأفكار والفهم تنتهي صلاحيّته كل بضعة أشهر وأحيانا بضعة أيام، لا بل ساعات، نتيجة التسارع الشديد في الأحداث.
الحاجة للسياسيّ من فوق (2)
أما السبب الثاني وهو شديد الأهمية وشديد العلاقة بالأوّل، وهو كون الانتقال يحصل مع انتهاء صلاحيات مجتمع الاستغلال بشكل عام واستبعاد الشعب عن دائرة القرار. وبالتالي فإنّ أي انتقال لا يمكن فصله عن الاشراك الحقيقي، بل الدور الأساس للشعب في إدارة المجتمع ومصيره. وخصوصاً في ظلّ انتهاء صلاحيّة وتعطّل البنى القديمة وعقلها، نتيجة انتهاء هوامش مناورتها التاريخية من الناحية الاقتصادية وشكل الإنتاج، والذي يظهر في دولنا بشكل شديد التكثيف نتيجة «تعفّنها التاريخي» والتي تحتاج فيه إلى أعلى معدلات النمو وأسرعها. والتاريخ الآن مفتوحٌ فقط لحركةٍ تُناقِضُ مجتمعَ الهيمنة على الثروة وإنتاجها ونمط إنتاجها، والإدارة السياسية للمجتمع من قبل قلّة قليلة. وهذا يظهر في مجتمعات أكثر وضوحاً قبل غيرها. وخصوصاً في ظل المخاطر الشديدة من الداخل والخارج والتي تتهدّد هذه المجتمعات.
عن أوهام الحلول المُكرَّرَة
على أساس فهم المرحلة في كونها تتطلب مجتمعاً مختلفاً على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، يمكن أن يتم دحضُ كلّ الأوهام القائلة بنجاح أي شكلٍ من التقسيم والاقتسام للدول على القاعدة الاقتصادية والسياسية السابقة ذاتها التي لتلك الدولة أو على القاعدة ذاتها للدول التي ستقوم بعملية التقسيم/الاقتسام، وهنا بشكل خاص الحدث السوري تحديداً، وخصوصاً في ظلّ ضعف المجتمع الذي يجري تقسيمُه أو «تحريره»، فمتطلّبات الإدارة بعد «التحرير» حسب العقل الذي استعاد اليوم طروحات العام 2011، فيها تكرارُ تجاهلِ الجوهر الاقتصادي السياسي لعملية التغيير، وتجاهلُ أنّها تتجاوز رأس السلطة وشكلها، وفي الوقت ذاته تجاهُلُ مدى التراجع الكبير في قدرات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية.
إن عودة الأوهام السابقة التي تطلّ، سواء عبر طروحات التقسيم أو عبر طروحات الإسقاط الشكليّ للسلطة هي دليلٌ عن مدى الحاجة لرفع مستوى العقل السياسي، فهذه القوى الاجتماعية هي التي يجب أن تقرّر مسار تطور الأحداث اللاحق. ليس في سورية فقط، بل في العالم ككل. وهذا نتيجة مباشرة لكون جوهر عملية الانتقال عالمياً هي انتهاء مفاعيل المجتمع الطبقي، بمعزل عن التعقيد الشديد والهجين الذي تأخذه عمليةُ دخول القوى الاجتماعية التي من مصلحتها دفنُ المجتمع الطبقي، عبر جبهة حضارية واسعة لقوى متباينة في شكلها إن كانت دولاً أو أحزاباً أو تجمعات أو الشعب بشكله الصافي.
متطلبات ما بعد التطوّرات كما قبلها
بمعزلٍ عن شكلِ الأحداث التي أخذتْها أو ستأخذُها التطوُّرات الأخيرة، فإنّ استحقاقات ولغة ما سبقها ليست باقية فقط، بل ستزداد ضرورتُها في حال تعزَّزَ مسارُ العملية السياسية، وخصوصاً لناحية رفع المستوى السياسي للعقل السياسي للقوى الاجتماعية، تماشياً مع الحاجة التي يفرضها اشتراك تلك القوى في تقرير العمليات الجارية. وهنا تظهر محدوديّة القوى التي تتصدّر المشهد بوزنها العسكريّ ومَن خلفَها على تحقيق هذه الحاجات. وإنّ مصيرَ تلك القوى بالمعنى التاريخي سيكون مصيرَ تلك التي قبلها، وكما مصير الإدارات «الذاتية» التي سادت في بعض المناطق السوريّة ومستوى النَّقمة الذي ارتفعَ ضدَّها. ولكنّه اليوم هو أكبر وزناً، لأنّ مهمة إدارة المجتمع دون إطلاق آليات النمو العالي والعدالة العميقة، سيكون مصيرُها الفشل، وهو ما سيفتح البلاد مجدداً على دوامة الفوضى، ولكن هذه المرة بشكل تدميريّ شامل كاحتمالٍ جرى التحذيرُ منه طوال السنوات السابقة ومرتبطٍ عضوياً بعدم تحقيق الحلّ السياسي.
المرحلة القادمة تحتاج إلى قوى قادرة على الإجابة عن هذه المهام، مهما بدى أنّ القوى على الأرض ومَن خَلْفَها ذات قوّةٍ لا رادّ لها. وخصوصاً بأن التوازن الدولي والإقليمي يتطلّب السير بمسار سياسي نحو الاستقرار لا نحو الفوضى في سورية، بمعزل عن طموحات توسيع هامش التفاوض والتأخير، الذي يحاول الصهيوني والأمريكي القيام به، وهو ما يعني ربّما عدة جولات قتال في سياق تطور الأحداث بمنحاها السياسي، ولكن هذه المرّة بمستوى أرقى وتطوّري لا انحداريّ.
إن فرضَ تطوُّر الأحداث باتجاهٍ نقيضٍ للفوضى يتطلّب تعميقَ العملية السياسية من تحت، وهذا نفسُه يتطلّب تقديمَ الإجابات على قضايا تاريخيّة سينتصر فقط من هو قادر على تقديمها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1204