خطّ «النقاء» الخطِر يُطلّ مجدداً: بين الحركة الشعبية والحرب

خطّ «النقاء» الخطِر يُطلّ مجدداً: بين الحركة الشعبية والحرب

الحرب الإعلامية في الحرب القائمة تكاد تتجاوز في وزنها السلاح والمتفجرات وباقي مستويات الحرب العسكرية، من أجل تحوير الواقع والتلاعب النفسي والسياسي حالياً ولاحقاً، وهي حرب الوعي التي تتعاظم مع تعاظم غنى المرحلة ومضامينها، وتفكيكُ مقولاتها جزءٌ لا يتجزّأ من الحرب وتطوير الهجوم فيها، والمواجهة خلف خطوط دفاعنا (وهجومنا) وخنادقنا الخلفية.

مجدَّداً: تعاظم وزن الحرب على الوعي

إنّ اتساع وزن الوعي خلال العقود الماضية في نموذج الهيمنة الهجين لما بعد الحرب العالمية الثانية فرضَ توسّع الحرب على الوعي، وفرض التوالد الكبير لوسائل تلك الحرب وتكتيكاتها. وليس حجمُ قطاع «الميديا» وتسارع مادته إلّا مؤشراً على ذلك. والحرب على الوعي في كل مرحلة ومعركة تتماشى ليس فقط مع ضرورات المعركة، بل وكذلك مع تطور علاقة البنية الفوقية والتحتية. وهذا يسمح بفهم أنه مع الاستعصاء في الممارسة السياسية والعسكرية للتيار الذي يحاول الحفاظ على هيمنته فإن وزن الحرب على الوعي تتعاظم. وتعطيل وتدمير الوعي هو أكثر نماذج الحرب على الوعي تطرفاً في مرحلة الأزمة النهائية للرأسمالية وانغلاق أفق مناورتها المتاحة ضمن إحداثيات المجتمع والعقلانية والتماسك البنيوي والتي جرى استنزافها كلها. وكذلك في ظل المعركة القائمة في منطقتنا، وانطلاقاً من وزنها وتكثيف معاني التحول فيها، وانطلاقاً من التوازن القائم في القوى في وجه التدمير الغربي الصهيوني، ومع كل صمودٍ وفعلٍ يَضربُ الكيانَ في عمقه دون قدرته على الردع فإن ارتفاع وزن الحرب على الوعي مفهومٌ بالضرورة، وذلك لتخديم الحرب الهجينة ورفع التوتر الاجتماعي والسياسي في الدول التي تملؤها التناقضات الداخلية الطائفية والمناطقية والاقتصادية، إلخ.

تطور السردية مع تطور المعركة

كما صار واضحاً، وكما أشارت مادة سابقة في قاسيون (بروباغندا «بيع الأذرع الإيرانية» تنهار: لننتقل إذاً نحو «الخطة ب»!)، فإنّ التحول في السردية لدى الخطاب المعادي ،الذي يحاول بث التشكيك والهزيمة وتحوير الأسباب الكبرى الأساسية للحرب القائمة، يجري مع التحول في مجريات المعركة، والتي ولكونها متسارعة وتتطور، فهي تفرض تطوراً في السردية المعادية، ومن المفيد تتبعها، على الرغم من أنها تتساقط بشكل سريع نتيجة عقم مقولاتها وتناقضها مع الميدان والوقائع وضرورات الصراع وتطوره بشكل خاص. ولكن ما يسمح لنا به هذا التتبع هو توقع مصائر هذه السردية من أجل التحصين الداخلي كضرورة في معركة الصمود، ولكن كذلك من أجل التطوير المبكر للخطاب النقيض القادر على تطوير الهجوم السياسي في جبهتنا الشعبية والسياسية، وتعطيل التشويش وضرب مشاريع التوتير الهجينة.

العنوان الجديد: «المشروع النقيض المقاوم لا يمكن أن يكون طائفياً وظلامياً»

حسناً، طالما أنّ عنوان «المسرحية» لم يعد ينفع، ولا الكلام عن «المتاجرة بالمقاومة من قبل إيران، والصمت الروسي والصيني»، والسقوط القريب لعنوان «التصارع تحت المظلة الأمريكية»، فإن أحد العناوين المطروحة (القديمة الجديدة) والتي تُبنى عليها سردية الهجوم على المقاومة كما هي اليوم، وعلى أصل الصراع، فهي، ومن موقع «النقاء»: القول بأنّ القوى التي تقاوم اليوم، بعضها وليس كلّها، هي «قوى طائفية دينية رجعية لا ثورية ظلامية» وكونه «لا يمكن أن تواجه الظَّلام بالظَّلام» فإنّ الفعل المقاوم اليوم «غير مُجْدٍ».
وحول هذا الموضوع يمكن الإشارة إلى مادة سابقة في قاسيون عالجت قضية «النقاء» وهوية القوى التي تصارع انطلاقاً من دورها لا من «هويّتها الشكلية» (ضدّ «صنميّة النقاء»... المقاومة بين العِلم التحرّري والأيديولوجيا). وما سنحاول استكمال الإضاءة عليه في سرديّة «ظلامية القوى التي تقاوم وعدم جدواها» هو عقم المشروع السياسي للعقل «النّقي» الذي يحمل تلك السّردية، لا بل مدى دوره التخريبي والمعطِّل لتطوير العملية السياسية واغلاق أفقها أيضاً. وكما حملها في فترة ما قبل الحرب خلال تصاعد الحركة الشعبية، يحاول اليوم مدّ تلك السردية إلى ميدان الحرب. ولطرح مسألة هوية المشروع النقيض مَعانٍ؛ هي انكشاف الضرورة الداخلية لتطوير المواجهة كونها المسار الإجباري في الحرب الهجينة، ولكن والأهم من بين معانيها أنها تعبيرٌ عن الاعتراف الضمنيّ بأنّ القوى «الطائفية والدينية والظلامية» التي تشغل موقعاً في الحرب القائمة هي فعلاً تقاتل، على عكس ما كانت تقول به سردية «المسرحية والبازار السياسي».
ولكن هل (تطوير الهجوم) هذا هو المطروح فعلاً من قبل أصحاب سرديّة «النقاء»؟ ومِن ثمّ، هل فكرة «النقاء» قادرة على تطوير الهجوم والاشتراك في الحرب؟

عن عقم مشروع «النقاء» وموقعه التخريبي

إنّ مشروع «النقاء» في مرحلة تصاعد الحركة الشعبية سابقاً كان له دور تخريبي من خلال تعطيل أفق تطوير الحركة الشعبية في مستواها السياسي وذلك من خلال طرح شعارات «لا تفاوض» و«لا تواصل» في ممارسة «إقصائية وانعزالية»، عبر طرح عناوين غير متناسبة مع موازين القوى الواقعية. وهو ما أوقع الحركة الشعبية، في سورية ولبنان بشكلٍ أساس في أخطاء قاتلة، وأحسن ما يقال فيها إنها خدَّمَتْ مشاريعَ الحرب الهجينة الغربية.
وفي اختلاف حركة «النقاء» في مرحلة الحركة الشعبية عمّا هي عليه في فترة الحرب، فهي هناك تجاهلت ميزان القوى لمّا كان مضّاداً للعناوين التي طرحتْها أي «الإسقاط والحسم»، بينما هي اليوم ترفع شعار «الانتباه لميزان القوى» في كونها تعتبرُه غير متلائمٍ مع الحرب. في الحالة الأولى جرت المغامرة في مصير الحركة الشعبية، بينما اليوم يجري خنق الجانب الوطني المقاوِم من الحركة التحرّرية. وهذا الاختلاف بين المرحلتين هو واحدٌ في جوهره. فعدم فهم طبيعة المرحلة والتناقضات التي تحكم حركة القوى فيها هو في المرحلتين واحد لدى «العقل النقي». في الحالتين يجري تغييب الجانب العالمي والإقليمي لصالح الغرق في الداخلي من خلال طرحٍ «اقتصادويّ ميكانيكي». في الحالتين يجري نكران ميزان القوى «الاستراتيجي» وعدم فهمه. وفي عدم فهم ميزان القوى الاستراتيجي هناك عدم فهم متجدد لطبيعة الصراع العالمي بين عالمٍ يموت وعالم يولَد وهو لم يكتمل في ولادته، بل تحصل عليه تطورات داخلية وهو ضمن الصراع، دون أن يبقى جوهراً مطلقاً. هذا هو العُقْم الفلسفي «الميكانيكي» لأصحاب هذا الطرح غير الجدلي.
وهذا يعني أن أصحاب طرح أفكار «النقاء» قد جرى تجريبهم مسبقاً وهم أنفسهم يتحمّلون مسؤولية أخطاء كبيرة تجاه الشعب والوطن بشكل عام. ولا يمكن التعويل على فكرة «النقاء» في تطوير المواجهة بل يجب تحطيم تلك الفكرة وعزلُها وعزل أصحابها.
لا ينحصر التأثير التخريبي لهذا الطرح «النقي» في معاداة قوى المقاومة، دون الخوض في نقاش عدم صحة قوله بظلاميّة القوى التي تقاتل، بل يتعدّاهُ كذلك إلى قطع الطريق على تطوير المشروع السياسي الذي جرى قطع تطوِّره قبل الحرب وذلك من خلال المعاداة السياسية المبدئيّة للقوى التي تقاتل وليس فقط في تحميلها مسؤولية «خطأ» في تقديرها دخول الحرب.
إذاً، إنّ المشروع «النقي» يعمل ضدَّ طروحاته بالذات، فهو مجدَّداً يُنكِرُ وحدة المواجهة للقوى في المنطقة والعالَم (وَحدَة الساحات) ضمن التهديد الحضاري الشامل للبشرية ككلّ على مختلف قواها، ويعبِّرُ عن عجزه عن فهم احتمالية التطور الداخلي لتلك القوى. وهو بذلك ينفي دورَه في التصدي الإبداعي للتناقضات الداخلية للعالَم الذي يولَد وتقديم إجابات حوله. وهو بذلك عاجز عن تحقيق دوره التوليفي والتوحيدي لتلك القوى من موقعه المتقدم في التاريخ، بل يعبِّر عن كونه، في ألطف التوصيفات عقلاً عاجزاً، وفي أكثرها صراحةً، عقلاً يُخدّم مشروعَ الاستسلام والتفتيت في المنطقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1200