آلام التطور اللولبي الصاعد والجوهر الثوري للأزمة
في التعامل مع قلق المرحلة ولا يقينها، ومع غياب التطّور الخطّي الصاعد للتاريخ وما يخلقه من شعور بالهزيمة والإحباط والانتكاسة، من المفيد والضروري تكرار، لا بل توسيع حيّز، الكلام عن الجديد في هُويّة المرحلة على مستوى ولادة عقلٍ وإنسانٍ جديد متناسب مع مهامها، يقطع بشكل مؤلمٍ مع عقل الاغتراب المستهلِك لواقعِه والمنتظِر لمسارات التطوّر «الخارجية»، المُنتِج لدوره الاجتماعي-السياسي الساكن.
عن جديد المرحلة مجَدَّداً
في مناسبات سابقة جرت الإشارة إلى أنّ المرحلة بسبب طبيعتها النوعية وما تحمله من جديد تحمل ظواهر جديدة (بالنسبة لعقل اللّيبرالية)، هي تضخيمٌ لظواهر قديمة مرفوعة إلى مستوى أرقى بما لا يقاس مع أيّ مرحلة سابقة. ولأنّ المرحلة في كونها نتاجٌ لنظامِ الهيمنة الهجين الذي تشكَّل كنتاجٍ للتوازن الناشئ عن الحرب العالمية الثانية، فهناك دورٌ كبيرٌ للوعي فيها، خصوصاً في اشتراك أوسع القوى الاجتماعية في عملية الهيمنة مِن موقع القبول بتلك الهيمنة. فالوعي حاضرٌ ضمن عملية الهيمنة عليه. ومِن وظائف عمليّة الهيمنة الهجينة، جرى تعطيلُ العقل هذا، وتعطيلُ ممارسته الاجتماعية الفاعلة (كقاعدة مادّية لأيّ عقلٍ فاعل). وإضافةً إلى المساحة الواسعة للوعي، تعبِّرُ المرحلةُ الحالية عن وصول المجتمع الطبقيّ، ونسخته الرأسمالية، إلى حدودِها التاريخية، على المستوى الاقتصادي والإنتاجي (الاقتصاد البضاعيّ عالمياً) ومعه المستوى الفَوقيّ مِن سياسةٍ وعقلٍ وقيمٍ وأخلاقيات وأفكار، أيْ أزمة البنية السياسية-الاجتماعية (وضمناً أزمة الدول في وصولها إلى حدودٍ تاريخية وانتهاءِ صلاحيَّتها وضمناً دولنا في المنطقة) وأزمة كلّ النظرة إلى العالم.
تفاعل الجديد وآلام وتحدّيات الفعاليّة المطلوبة
في تفاعل اتساعِ دور الوعي مع أزمة التنظيم السياسي-الاجتماعي وأزمة النظرة إلى العالم، تولد ظواهرُ يجب التقاطُها من أجل البناء عليها، نحو نظرةٍ جديدة يجب تقديمها في تناسبٍ مع المهام التاريخية المطروحة عالمياً. ولكن قبل الكلام عن تلك الظواهر المتجدّدة، فإنّ المرحلة الراهنة وبسببٍ من وصولِ طبيعتِها إلى حدّها التاريخي، تَقطعُ مع آلاف السنوات من عملِ التاريخ البشري، فهي تستجلبُ وتستحضر أرقى أشكال الفكر وأكثره تجريداً، وتحديداً الفلسفة والسياسة. ولهذا فإنّ المرحلة هي كما أشرنا سابقاً مرحلةٌ مثقلة بالفلسفة والسياسة بالضرورة.
ولأنها كذلك فهي تستدعي التناقضات بين نظرتين فلسفيتين إلى العالم، المادّية والمثالية، وبشكل خاص المادية في أرقى تمثيلٍ لها - المادية التاريخية. وواحدةٌ من الأفكار ضمن المادية التاريخية هي أنّ القوى التي من مصلحتها تغيير العالم الرأسمالي تُمثِّلُ معها مصالحَ تطوِّرِ المجتمع ككل. ومن الأفكار أيضاً أن أحد جوانب اغتراب الإنسان في المجتمع الطبقي في نسخته الأخيرة الرأسمالية ناتجٌ عن كون العمليات السياسية-الاقتصادية تجري خارجَه وضدَّه، دون اشتراكِه فيها. ومن هنا فإنّ ولادة الإنسان الجديد هي القَطْع مع تلك اللّافعاليّة كشرطٍ لعودة الإنسان إلى ذاته في مرحلة ولادة عملياتٍ اقتصادية-سياسية جديدة، تُعبِّرُ عن الصناعة الجماعيّة للتاريخ، بعد تعطُّل العمليات الاقتصادية-السياسية التي تنتمي إلى العالَم الطبقيّ وتناقضاته. ومن هنا ينبع ليس حجم المهام ومدى المسؤولية الملقاة على الشعب فقط، بل وحجم الألم الناتج عن ضرورات التحوُّل في العقل «الساكن» المتلّقي إلى عقلٍ فاعلٍ، لأنّها الطريقة الممكنة الوحيدة لخلق يقينٍ ما وأملٍ ما نحو المستقبل. إنّ التحوُّل في العقل كعمليةٍ عالميةٍ تَظهر في منطقتنا ولا شكّ بقوة، وكحاجةٍ ملحّة ومعها التربية السياسية ككل، مِن موقع منتظِرِ المستقبل إلى موقع صانِعه، فحتّى التوازن الدولي سيصل، لا بلْ قد وصل في مستويات كثيرة، إلى حدوده، ويجب معها تجاوزُ تناقضاتِه وأولها القطع مع عمليات الرأسمالية ومجتمعها.
عن الدورة اللولبية الصاعدة
من الأفكار التي تظهر اليوم أيضاً، والتي هي من صلب النظرة المادية التاريخية العلمية عن العالم، وضد التطور الخطّي الميكانيكي، أنّ التطوَّر له مسارٌ لولبي (حلزوني) صاعد. فالقديم يظهر ولكن بمستوى أرقى من التطوُّر. ولهذا يبدو للبعض بأنّ التاريخ يكرِّرُ نفسَه، منتجاً إحباطاً عامّاً بأنّه لا شيء يتغيّر. وفي الحدث السوريّ مثلاً نسمع كثيراً مقولات من قَبيل «سورية اليوم هي كما كانت في بداية الأزمة»، أو «الغرب انتصر»، أو «القوى الصاعدة انهزمت». هذا التوصيف وإذا أُخِذَ بمعزلٍ عن فكرة وصول تناقضات العالَم القديم إلى حدودها التاريخيّة، وضمناً البنى في منطقتنا، وحتى الدول الصاعدة نفسها، وما فيها من تَرِكَة العالَم القديم، وإذا أُخِذ بمعزلٍ عن فكرة أن اشتداد الأزمة يقدِّمُ ويُظهِرُ الجوهرَ الثوريّ للمرحلة، وإذا أُخِذ بمعزلٍ عمّا حصل خلال أكثر من 13 عاماً على مستوى الفرز في المنطقة والعالَم والاصطفافات الجِدّية، عندها فقط يظهر خَطُّ الهزيمة. ولكن على الرغم من أن التاريخ لم يَسِرْ في تطوِّرٍ خطّي «انتصاري» صاعد، فإنّ التاريخ لا يكرِّرُ نفسَه. والجديدُ كما القديمُ يَحضُر في الظواهر الحاصلة، دليلاً على تقدّمٍ وارتقاءٍ إلى مستوى أعلى، بمعزل عن الشكل التكراري الذي يظهر فيه.
والبحث عن الجديد في «الانتكاسة» الظاهرة يحمل أهمية بالغة، ويجب إعادة التأكيد عليه وكشفه في كل لحظة. وبشكل سريع، فمن أمثِلة الجديد حجمُ التراجع الغربي عالَمياً وما حصل من ترتيبٍ للمسرح الدّولي نقيضِ الإمبريالية في آسيا وأفريقيا وغيرهما. والأهم هو مدى تأثير المركز الغربي في مسار الأحداث الحالي واللاحق. أيْ يجب حساب مدى التأثير الإقليمي المرتفع، وهذا -بغض النظر عن مدى تلائمه مع «المطلوب» من عدمه- دليلٌ على تراجُع دور الغرب في الحدث.
ولكن ما يهمّنا بشكل خاص، هو أن المستوى الأرقى الجديد للأزمة يكشف عن التناقضات المطلوب حلّها ضمن «القوى الصاعدة» نفسها من أجل سدّ فراغ العالَم القديم. ومنها رفع وزن دور الشعب السياسي في العلميات الجارية. فالحدث السوريّ اليومَ وبسببٍ من «الحاجة» للاستقرار الذي يُهِمّ أغلب الفاعلين الإقليميين والدوليّين يفتحُ البابَ على هذا الجديد المتناقِض ولا شكّ مع تركة العالم القديم الاغترابيّ ككلّ، وتبعات ذلك على مستوى التنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. وهذا لا يحصل دون صعوبات ومهامّ جبّارة حُكماً، ولكنه في نهاية التحليل تعبيرٌ عن تقدُّمٍ لا عن تكرارٍ سلبيّ. وكلّما انكشفت حدود أدوات القوى الصاعدة في مواجهة العالَم القديم، التي لا يمكن حصرُها بالعسكري ولا حتى الاقتصادي دون المسّ بأسس الإنتاج البضاعيّ ومعها كامل البنية الفوقية السياسية، كلّما انكشفَ ذلك، فإنّ مسار التاريخ يسير بشكلٍ تطوُّريٍّ تقدميّ. ومنطقتُنا هي مسرحٌ لدروس العالَم الجديد، يجب على الدول الصاعدة وتحديداً روسيا والصين الاستفادة منها.
التوازن الدولي يمكن الاستفادة منه في معركتنا ولكن له حدوده التي يجب توسُيعها. وأيُّ «تفاؤل» يجب ألّا يكون خارجَ الجهد الفاعل، جهدنا، لبناء العالَم الجديد. هذا أكثر النتائج ثوريّةً مِن الأزمة الحاليّة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1205