عوارض غياب النشاط السياسي وسلاح الإعلام وحرب الوعي
بعد انفتاح أفق العمل السياسي في المجتمع السوري، من الضروري إعادة تأكيد بعض الإحداثيات العامة، كمساهمة في محاولات حماية الحركة الشعبية، وتطويرها سياسياً، وتحقيق غاياتها، التي هي غايات كل حركة شعبية حول العالم، مع اختلاف خصوصيات كل مجتمع، نحو تجاوز نظام قهر الإنسان وسلبه إنسانيته، وفتح أفق تحقيقه لذاته، ماديّاً وروحياً.
في غياب العمل السياسي
تعيش المجتمعات حول العالم، وبشكل خاص مع بدء تراجع الموجة الثورية عالمياً في النصف الثاني من القرن الماضي، لوثةَ الاستهلاك، وتعطيل المشاركة الفاعلة للأفراد في الحياة العامة، وبشكل خاص النشاط السياسي. وهذه الملامح تشترك فيها أغلب المجتمعات مع اختلاف شكل هذا التعطيل. كان تعطيلُ المشاركة والنشاط السياسي في بعضِ المجتمعات -وبشكل خاص الغرب العالمي، وبشكل أقل الدول التي انفتحت مبكراً على السوق العالمية ودخلت في ثقافة الاستهلاك والليبرالية الفردانية- تعطيلاً قائماً على قاعدة «الالهاء والترفيه» (الاستيعاب) والغرق في عزلة المصلحة الفردية، مع دور أساسٍ لسلاح الإعلام والدعاية، الذي جرى توسيعه بما يتناسب مع مهام التحكّم بالوعي، ضمن الحملة ضدّ العمل السياسي (وثقافة التضحية) والأحزاب، وخاصة اليسار، بعد الحرب العالمية الثانية، بعد تثبيت ميزان القوى العالمي لصالح الغرب. أمّا في أغلب مجتمعات الأطراف، مثل دول «التجارب القومية-الدينية»، فكان تعطيلُ المشاركة والنشاط السياسي فيها من خلال القمع الشديد (الرفض على عكس الاستيعاب)، مع مزيجٍ من الليبرالية الاستهلاكية، ضمن الحدود الاقتصادية والثقافية التي تسمح بها تلك المجتمعات والفروق بينها. هذا التقسيم لا يختزل المشهدَ كلَّه، ولكنه الطابع الغالب للدول. وهذا التعطيل للنشاط السياسي-الاجتماعي خلال عقود نتجَ عنه عوارضُ ومتلازماتٌ؛ منها تراجع الوعي السياسي القائم بشكل أساس على فعالية وشدّة تنظيم النشاط السياسي. وهذا من أخطر العوارض التي جرى استغلالُها في بداية صعود الحركة الشعبية في العقدين الماضيين، من أجل إغراق الحركة الشعبية بالدماء وجعل نشاطها معادياً لها بالذات.
وهذا الاستغلال والدفع باتجاه «التطرُّف» واللاعقلانية يقوم بجانب كبير منه على حجم الاستقطاب في المجتمع، الناتج عن شدّة الحرمان المادّي والرّوحي.
انكشاف العوارض مع انفتاح أكبر لأفق الحركة
إذا كانت العوارض الناتجة عن غياب النشاط السياسي لعقود قد بدأت بالانكشاف مع انفتاح أفق الحركة الشعبية في العقدين الماضيين، بعد انغلاقٍ لعدّة عقود سابقة، فإنّ هذا الانفتاحَ نفسَه هو بدايةُ انغلاقِ أفقِ نظام الرأسمالية الإمبريالية، وهو انكشافٌ يتعاظم طرداً مع كلِّ انفتاحٍ في أفق الحركة الشعبية. ومع هذا الانكشاف تتعاظمُ مهام «معركة الإقناع» التي تكلَّم عنها لينين عندما أشار إلى أنّ الحركة الثورية تخوض معركتين: واحدة على جبهة الأعداء الطبقيين، وواحدة على جبهة القوى الاجتماعية ذات المصلحة بالتغيير، ولكن الفرق بأن المعركة الثانية من أجل الإقناع ليست تناحرية (من أجل الإلغاء)، بل هي من أجل جذب القوى الاجتماعية للرؤية والبرنامج القادر على تمثيل مصالح القوى التي تقوم في وجهها «معركة الإقناع». ومِن الطبيعي إذاً أنْ يتعاظم انكشافُ تلك العوارض خلالَ ما حصل مؤخراً في سورية؛ أيْ سقوط جانب من سلطة النظام ومعه خلخلة أدوت تعطيل المشاركة والنشاط السياسي. هذه الخلخلة ناتجةٌ عن ضرورةٍ، هي بالحدّ الأدنى ضرورة شكلية، لقوى «إسقاط النظام» حتى تظهر بمظهرٍ يناقضُ الطرف التي قامت بـ«إسقاطه». ولكن الخلخلة الحاصلة في أدوات تعطيل المشاركة السياسية (الحقيقية) تبقى مؤقَّتة، في حالِ لم يَجرِ أولاً تخفيضُ الاستقطاب المادّي والرّوحي في المجتمع. وقد لا تحصلُ استعادةُ تعطيل المشاركة الشعبية في النشاط السياسي من خلال الأشكال السابقة نفسها، بل قد يتغير شكلها. ومن هذه الأشكال التي تلاقي اتجاهاً عالمياً وتاريخياً ارتفاعُ الحرب على الوعي، ومن أهم تكتيكاتها الزجُّ الكبير بالقوات السياسيّة «لليبراليّة» (أيْ التي تؤيّد برنامج الخصخصة الاقتصادية وتحرير الأسواق لصالح الأغنياء على حساب الفقراء)، التي ظهرتْ في السنوات الأولى للأزمة السوريّة تحتَ شعاراتٍ تطرّفية معروفة بمضمونها التدميري سواءً من جانب المتطرّفين المحسوبين على النظام تحت شعار «الحسم» أو المتطرّفين المحسوبين على المعارضة تحت شعار «الإسقاط». ولهذا، وإذا ما عدنا إلى نموذجَي «التعطيل من خلال الاستيعاب» و«التعطيل من خلال الرفض»، فإنّ خطاب تعطيل الحركة الشعبية الذي سيتصاعد أكثر، ينتمي إلى نموذج الاستيعاب ذاته الذي ساد في الغرب وبعض المجتمعات. وهذا يقوم بشكل أساس على مقولات الحرّيات بالمطلق، بمعزل عن جوهرها الاقتصادي والسياسي، ولكنه هذه المرة نسخةٌ ممسوخةٌ منه، في ظل تراجع وأزمة هذا النموذج عالمياً. وهذا التصاعد للخطاب الليبرالي المتّخذ قناعاً «ثوريّاً» (يمكن مراجعة مادة قاسيون حول السياحة الثورية) وكما كان في السابق يتنكَّر خلف أحد قناعَين يبدوان «متناقضين» شكلياً: «ضدّ القمع» مقابل «ضدّ الإرهاب»، فإنّه اليوم يتنكَّر خلف شكلين آخرَين من الأقنعة: «ضدَّ الدِّين» مقابل «باسم الدّين»، وكذلك خَلْفَ كلِّ مقولات تصعيد التوتير الأهلي الذي هو استكمالٌ للحرب في صيغتها الهجينة، وما يلاقيها من الجانب الآخَر مِن سلطة تنهل حتّى الآن من جدول الأعمال نفسه المميز لنموذج الاستهلاك الغربيّ كالخصخصة والسوق الحًرّة، ولكن في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية لا تكفي حتى لإطعام الشعب فما بالنا لإلهائه. ومن هنا المشهد الهزليّ والفكاهيّ في خطابِ وأداء أيّ سلطة لا تفتح أفقَ الإشراك الفعليّ للشعب في تقرير مصيره ومصير بلاده.
ومن هنا يمكن الاستنتاج بأنَّ قوى البرنامج الليبرالي في حلّتها الجديدة ستجري محاولةُ تعظيم دورها مع الحاجة إليها في تعطيل تطور الحركة الشعبية.
سلاح الإعلام والتكافؤ في حرب الوعي: السرعة والتعقيد
إذا كان سلاح الإعلام هو أحد الأسلحة الأساسية في الحرب الهجينة، فإنّه بلا أدنى شكّ يعمل اليوم في غير صالح تطوير الحركة الشعبية، إمّا في كونه ينتمي لخندق العدوِّ العالَمي وأدواته الإقليميّين والمحليّين، أو لكونه ينتمي لخندقٍ يمكن تسميته بالخندق الذي لا يحمل الجديد. وهو، لعدم قدرته على تقديم الجديد، ينتمي إلى القديم كبُنية. وكلا الانتماءين يعملان ضدَّ تطوير الحركة الشعبية على مستوى الوعي والتنظيم في ظلّ تعقيدٍ وتسارعٍ شديدَين في الاتجاه التاريخي. وعلى حدّ تعبير إنجلس عن أنّ التكتيك محكومٌ بالتكنيك، فإنّ قدرة مناورة وتحرّك أيّ قوة تعمل لصالح تطوير الحركة الشعبية محكومةٌ ضمناً بمدى قدرتها على خوض معركة الإعلام، والقدرة على تغطية التسارع والقدرة على الوصول. فعوارضُ غياب النشاط السياسي والوعي السياسي، هي التي يقوم الإعلام المهيمِن بتعظيمها وتوظيفها لصالح منعِ أيِّ تطوُّرٍ في النّشاط والوعي السياسيّ، وتدميرهما كهدف أقصى. ولهذا فإنّ صحّة النظرية والاستراتيجية تتطلّبان في الوقت ذاته التمكُّنَ من سلاح الإعلام في حرب الوعي. ومتابعةُ بعضِ التفاصيل البسيطة تقولُ بتلك الضرورة، ومنها مدى التشويش والتعمية والإبعاد ضدّ النشاط السياسيّ العالي للجماهير، الذي يشهد اليوم عودةً تاريخية مُبشِّرة، بأشكاله ومستوياته المتنوعة، من التعبير عن الرأي والاحتجاجات والإضرابات المعيشية والمطلبية المتنوعة، مروراً بمبادرة الناس إلى تنظيم أنفسهم للدفاع عن السّلم الأهليّ والوحدة الوطنية في أحيائهم ومناطقهم، وحتى الانتظام في حركات وأحزاب سياسية تملك برامجَ جدّية وتسعى إلى لعب دور في التواصل مع الناس وإقناعها. ولأنّ هذه البشائر بحراك شعبي وسياسيّ أنضج وفضاء سياسيّ تعدّدي في سورية تتماشى مع ضرورة توحيد البلاد وصَون السلم الأهلي وتجنّب المخاطر التي تهدد سورية وشعبها في الداخل والخارج، فمن المفهوم تماماً أنّ الهجوم عليها عبر التشويش والإقصاء (والذي تلعب فيه دوراً كبيراً وسائل الإعلام غير التقليدي كوسائل التواصل الاجتماعي) هو ليس هجوماً على حزبٍ بعينه ولا على حراكٍ شعبيٍّ بعينه هنا أو هناك، بل هو في الجوهر هجومٌ ضدّ وعي «الشارع» السوري لمسار الأزمة والمواقف منها، وضّد دقة هذه المعرفة، فما يعرفه الشارع هو ما سيحدّد في المستقبل موقفه ودوره في مسار الأحداث وقدرة الشعب على تقرير مستقبله بنفسه. ومرةً جديدة، الإعلام المرجو ينبغي أن يكون إعلاماً يتلاءم مع السرعة والتعقيد الحاصلَين في الحركة التاريخية حالياً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1211