د.محمد المعوش
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
كما صار واضحاً على مستوى الصراع الفكري والأيديولوجي عالمياً والمتصاعد مؤخراً والذي يأخذ بشكل خاص طابعاً فلسفياً، فإن النقاش يتمحور حول المشروع الحضاري النقيض ربطاً بأزمة النموذج الحضاري القائم ومصيره، كمدخل للمشروع النقيض بلا شك. وهنا نتناول جانباً أساسياً من أزمة النموذج القائم من باب تدمير قوى الإنتاج، والإنسان خاصة، على قاعدة الاغتراب وتجلياته الواقعية، ربطاً بأزمة العقل-الممارسة الطبية المهيمنة.
كان بدء تحلل السردية الليبرالية التي شكل «الحلم الفردي» عمودها الفقري نقطة العلام لأزمة الهيمنة الثقافية للنخبة الغربية. ولهذا التحلل معنى تاريخي بدأ يطلق منذ سنوات موجة من التوتر الثقافي-الروحي الظاهر، يلتقي مع التوتر السياسي-الأمني-الاقتصادي-العسكري-الاجتماعي. ونحن في صلب هذا التوتر، وما الكتابة إلا تعبيرٌ وكشفٌ عنه. وهنا نحاول إجمال آفاق هذا التوتّر والنضال الفكري الضروري عالي الوزن، وبشكل خاص حرب المفاهيم.
في مادةٍ سابقة كنا أشرنا إلى أنّ العالم الذي نعيش فيه اليوم لا يمكن اعتباره رأسمالياً صافياً، بل هو توليفٌ صراعيّ لمرحلة التناقض الرأسمالية-الاشتراكية خلال القرن الماضي. والتوليف لا يعني الجمع الميكانيكي بين العناصر بل ضمن وحدةِ وصراعِ الأضداد. وفي هذه المادة توسيعٌ في النقاش حتى لا يظهر اختزالياً، وحتى يمكن الوصول لخلاصات سياسية.
في السنوات الماضية، ومنذ انفجار الأزمة الرأسمالية تحديداً، بدأ تصاعد النقاش حول الاشتراكية، وتحديداً عنوان «عودة الاشتراكية». ولكن، في طيّات هذا العنوان (كما هو) نظرة ميكانيكية للتاريخ، تُطَهّر التاريخ من ظواهره وكأن شيئاً ظهر واختفى بالمطلق. ووقع في فخ «نظرة الصفاء المثالي» للتاريخ تلك حتى «أهل الاشتراكية» أنفسهم. ولأننا في قلب تعريف الانتقال العالمي، وطبيعته، لا بد مجدداً من إفراد مساحة خاصة لهذا النقاش.
يُذكّر ماركس بأن التاريخ يسير دائماً من جانبه المتعفّن. وإذا ما أردنا استكمال النقاط المنهجية السابقة، بما يخص التحولات النوعية في بنية المجتمع عالمياً، يمكن استخلاص الحركة العامة لسير التاريخ في المرحلة الراهنة.
لقد برز موقف لدى الكثير من المحللين «الأقل تطبيلاً والأكثر موضوعية» في سياق طوفان الأقصى والصراع في فلسطين والمنطقة عن عدم اتضاح مسار الأمور وبالتالي عن صعوبة الحسم حولها والتنبؤ بها. وبرر البعض منهم هذا كون القوى الفاعلة في الصراع هي نفسها «غير متأكدة وغير حاسمة ومترددة ومحتارة» فيما ستقوم به. وهذا لا يعني بالتحديد صعوبة التنبؤ بالخط العام، بل بالخط الخاص بأحداث محددة. فما هي الأسباب المحتملة لصعوبة عدم التنبؤ تلك؟
القول بأن المرحلة الراهنة «نوعية» في تاريخ البشرية هو مشتق من طبيعة الانتقال الذي يحصل، والذي بدأ يسلك طريقه إلى الوعي شيئاً فشيئاً. الانتقال الذي يجري توصيفه، لدى أكثر القوى تفاؤلاً، بأنه نحو «تعدد الأقطاب»، ولكنه أكثر من ذلك بكونه انتقالاً للبشرية من حالة حضارية إلى أخرى، وحسب إنجلز، من مرحلة ما قبل التاريخ إلى التاريخ، وهذا يفترض خصوصيات، منها نوع الوعي الانتقالي كتعميم للوعي «الاستباقي-النظري» في التاريخ.
ليست المرحلة بعادية، وما تحمله من مضامين تاريخية ستكشف عن نفسها شيئاً فشيئاً، وبالنسبة للبعض من أصحاب العقل اللا تاريخيّ هي «استمراريّة تكرارية»، وللبعض الآخر من أصحاب العقل الفاعل هي «جديدة» ولكن ضمن حدود (هي حدود موقعه المحدود التجريبي)، أما بالنسبة لأصحاب العقل التحويلي الجذري الشامل فهي نوعية ضمن التاريخ البشري كلّه. في هذه المادة سنعالج قضية «تشامل» المرحلة ودلالتها التاريخية والسياسية-البرنامجية.
هل استنفذنا فعلاً مضمون طوفان الأقصى وما تلاه من أحداث حتى اليوم كميدان اختبار لفرضيات ما يتطور عالمياً وتحديداً حول ما تحتاجه المرحلة من تطوير للمشروع التحرّري للإنسانية. والظاهرة التي تستحق الانتباه ألا وهي تقدُّم الحدث نفسه في جانبه غير الرسمي عن البنية السياسية الثقافية الاجتماعية القائمة، إن كان في جانبها المتراجع (وهذا ضروري) أو في جانبها المتقدم الصاعد كذلك. في هذه المادة سنحاول الإشارة إلى هذه المسافة بين مستوى التطوّر الاحتمالي ومستوى التطور المحقّق فعلاً.
تضمنت المادة السابقة نقاشاً حول التناسب بين المستوى الموضوعي والذاتي، فارتفاع وزن حدث ما وتأثيره على تغيير المشهد العالمي لا ينحصر فقط بالمستوى الموضوعي، فطبيعة المرحلة تفرض أيضاً أن أي حدث «ذاتي» له ذات الوزن الكبير في التأثير، إذا ما عكس فيه ضرورات المرحلة وتكثيف الصراع. والمادة الحالية هي استكمال للمادة السابقة، وتوضيح لها من خلال بعض الأمثلة.