مجدَّداً حول «المنتصِر والمهزوم» والجوهر الثوريّ للأزمة
منذ نحو العقدين من الزمن، وتحديداً منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008، بدأ ينضج عالمياً خطابٌ يمكن تسميته بالتاريخي، حملتْه أطرٌ وأصوات ومنصات في العالَم، وكانت وما زالت «قاسيون» واحدة منها. وفي الخطاب هناك ولادة للجديد وموت للقديم. واليوم أكثر من البارحة، وغداً أكثر من اليوم، نقترب من تلمّس جوهر هذا الخطاب وتحوُّله إلى ملموسٍ سياسيّ ويوميّ، ومنه خاصّة «نقرأ كفّ» القوى و«مَن هُزِم ومَن انتَصر».
مرةً جديدة عن اقتراب الجوهر من الشكل
من ملامح المرحلة التاريخية الراهنة أنّ الجوهر الفلسفي لأزمة المجتمع الطبقي ككل يظهر للعلن نتيجةَ وصول التناقضات الداخلية لهذا المجتمع إلى حدوده التاريخية. ومن ضمن ما يعنيه ذلك، إضافةً إلى تسارع المرحلة واقتراب التناقضات واندماجها، أنّ الحدث السياسي الملموس، ومهما بدا معقداً للناظر، فإنه يعكس إلى حدٍّ ما، هذا الجوهر. والمقصود بهذا الجوهر أنّ مجتمع الانقسام الطبقي، في نسخته الراهنة، الرأسمالية، وما يعنيه ذلك على المستويات الاقتصادية والتنظيم الاجتماعي والعلاقة مع الطبيعة، وعلاقة إنسان-إنسان (مجتمع)، وعلاقة الإنسان بنفسه، التي كلّها تعبّر عن الانقسام في المجتمع الطبقي والتدمير المادي والمعنوي المرتبط بهذا الانقسام. وبالتالي فإنّ الجديد والقديم يتمّ قياسهما انطلاقاً من المسافة التي تفصلهما عن تجاوز الانقسام المذكور (أو تثبيته). هذا الانقسام القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والثروة والمصالح العالمية التي تحاول الحفاظ على هذا النمط من الإنتاج، والتي صارت متركّزة لحدّ تدمير الحياة على الكوكب نحو حالة من اللاعقلانية البربرية. وهذا النظام له تركته داخل كلّ مجتمع بغضّ النظر عن اختلاف النسب في ذلك. وكما قياسُ الجديد والقديم، فإنّ قياسَ المنتَصِر والمَهزوم يجري أيضاً نسبة لمن يسير في ركب الجديد وتحقيقه، ومَن هو الذي سيموت مع القديم، إذا ما جرى طبعاً تحقُّق الجديد، وجرى الحفاظ على المجتمع البشري ضدَّ التدمير الحضاري.
مشاعر الانتصار والهزيمة
في منطقتنا بشكلٍ خاص وبعد وصول التوتر إلى ذروته في سياق الحرب مع الكيان الصهيوني ومع الناتو والأمريكيّ وتوابعه بشكلٍ خاص، وبعد إعلان الهدنة بين لبنان والكيان الصهيوني، وما سبقها من ضربات ضدَّ المقاومة اللبنانية، وخاصةً اغتيال أغلب قادة الصفّ الأول، واستمرار الحرب على غزّة (وارتفاعها في الضفّة لاحقاً)، والضربات التي تلقّتْها المقاومةُ الفلسطينية؛ كاغتيال القائد السِّنوار وقبلَه اسماعيل هنيّة في إيران، ولاحقاً تسارع اهتزاز المشهد السوريّ والضربات العسكرية التي قام بها الكيان الصهيوني ضدّ سورية ودخوله البرّي، كلّ ذلك جرى تصنيفُه على أنه انتصارٌ للغرب، وهزيمةٌ لمَن هو في مواجهتِه، ويجري وضعُ روسيا والصّين إلى حدٍّ ما ضِمن الخاسِرين.
وانطلاقاً مِن علاقة القديم والجديد التي ذكرناها سابقاً يمكنُ القول بشكلٍ أكيد إنّ هذا التصنيف للنَّصر والهزيمة هو تبسيطٌ شديد. وما قِيل في سياق الحرب، وقبل «الانتكاسة» التي تصوَّرُ على أنّها الهزيمة، حولَ أنَّ تطويرَ الهجوم الشّامل وحدَه يسمح بمواجهة المشروع التدميري في المنطقة والعالَم، انطلاقاً من الفهم الشامل لأزمة البنية المأزومة للرأسمالية، هو ما تظهِرُه الأحداثُ اليوم، كما يَظهَرُ أيضاً من خلال نضوجِ تحليلاتٍ ومواقفَ على لسانِ محلِّلين مختلفين إلى حدِّ أنها صارت «لغةً وخطاباً» مكوِّنَين للنّقاش والجدل القائمَين حول ما يحصل.
صار عنوان «تطوير الهجوم» أكثر حضوراً، وإنْ كان بوزنٍ غير كبير، وهذا طبيعيّ ومفهوم. وهو ما نسمعه على لسان بعض المحلِّلين أصحابِ العقل الحيّ في إطار قوى المواجهة.
تطوير الهجوم وحدود البنى القديمة
أن يصبحَ شعارُ تطوير الهجوم أكثر حضوراً يعني ضمنيّاً وعلنيّاً أنَّ نقاشاً حول حدود أشكال المواجهة السابقة والاستراتيجية بشكلٍ عام سيتطوّر، والأمثلةُ على ذلك النقاشِ كثيرة. وهذا هو التعبير «العقلي» عن أنَّ جدليّةَ القديم والجديد بدأت تنضج على مستوى الحدث اليومي والملموس. فالبنى القديمة لا تُوجَد في «قوى الشر»، بل هي حاضرةٌ عالمياً في كلِّ بنية اجتماعية وكل دولة، في كل عقل وعلاقة مهيمنة، هي نمط الحياة السائد بحدِّ ذاته، وما يستتبعه من انعكاسٍ لذلك على القوى السياسية وبرامجها وجدول أعمالها؛ سواء تلك المقاومة منها أو تلك القوى التي تحاول اللّعب في الهوامش واستغلال الفرص الناتجة عن «الفراغ» النسبيّ الناتج عن توازن القوى العالمي، فتظنُّ أنَّ مَلْء الفراغِ بوزنها الحاليّ يكفي لمواجهَة التحدّيات.
ولأنّ القديم موجودٌ في بنى المنطقة كما كلّ العالَم، في سورية ولبنان وإيران وتركيا والأردن ومصر، إلخ... وفي العلاقة بين الدُّوَل، وفي شروط وضرورات الصّراع العالمي وقوانينِه في وجه التدمير الشامل أو التقدُّم الشامل المشترك، لأنّ ذلك هو كذلك، فإنَّ هذه البنى، وما هو مبنيٌّ عليها مِن قوى، قد وصلت إلى سقفِها المحكوم بتناقضِها المنتمي إلى القديم وأزمته، وهو ما يظهر بشكلٍ خاصّ في نمط إنتاجها وتوزيع الثروة وعلاقة الدّولة بالشعب، والقدرة على الصّمود، وتجنُّب الاقتتال الداخليّ، والاقتتال البينيّ بين الدول، أيْ في الجانب الآخر من مشروع الحرب الهجينة التي تتجاوز الجانبَ العسكري وتتخطّاه إلى الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والروحيّ-النفسيّ والعقليّ، إلخ.
إنّ وصولَ هذه البنى إلى سقوفها يعكسُ نفسَه في خطابٍ أكثرَ علميّة، يمكن استقاؤه من بعض الأصوات في بلادنا؛ ألا وهو أنّنا لم نُهزَمْ كما أنّنا لم ننتصرْ. وبغضِّ النظر عن تقييم وزنِ الهزيمة على حساب وزن الانتصار في هذا الموقف، فإنّ هكذا توصيف يمكن أنْ يُقالَ عنه إنّهُ أكثر دقّة في عكس مسألة تسقيف البنى. ولهذا تَستكمِلُ تلكَ الأصواتُ القولَ بأنّ هذا الموقِفَ يفرضُ وضعَ مهمّة تطويرِ الهجوم على جدول الأعمال. وتطويرُ الهجوم، كما يقول هؤلاء، يكون من خلال تطوير القوى لنفسِها، وتجاوزِها لنفسِها، وبرنامجِها، وخطابِها، ورؤيتها لنفسِها وللعالَم.
مجدَّداً، هذا الموقف نسمعُه على لسان شخصيّاتٍ لا تُعلنُ أنَّها تلتزمُ موقفَ المادّية التاريخية (الماركسيّة)، بل هي تقوم بتطوير رؤيتِها على وَقْعِ الحَدَث، أيْ على وقعِ التَّجريبِ نفسِه، انطلاقاً من صِدق موقعِها وعقلِها الحَيّ. وهذا تأكيدٌ آخَرُ على ما كنّا ذهبْنا إليه سابقاً بأنَّ التجريبَ نفسَه يدفع القوى إلى الاقتراب من موقفٍ نظريٍّ أقربَ للفهم المادّي التاريخيّ بمعزلٍ عن موقعِ تلك القوى الأيديولوجيّ.
مجدَّداً عن الجوهر الثوريّ للأزمة
وصولُ الصِّراع إلى هذا المستوى ممّا يسميه البعض بـ«لا نصر - لا هزيمة»، أو ما نسمّيه بأنّه تسقيفٌ لإمكانيّات البنى التاريخية القديمة القائمة، هو الجوهرُ الثوريُّ للأزمة، أيْ الجانبُ المؤسِّسُ للانتصارات القادِمة. هذه الخلاصة هي قاعدةٌ مؤسِّسةٌ للإيجابيّ في قَلْب «اللايقين» والمعنى الثوريّ للأزمة الراهنة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1209