تمارين أوّلية في الفوضى ولكن في السلطة الشعبية أيضاً
ليست الأحداث الأخيرة في سورية تعبيراً عن موجة من محاولة التوتير الطائفي والديني فقط، بل هي أيضاً وبفعل تلك الموجة تعبيرٌ عن تمرينٍ أوّلي للمشاركة الشعبية في الحكم في لحظة التوازن النسبي، بل انطلاقٌ عمليّ لـ«الحوار» وتشكُّلُ نواته القاعدية.
بين الشِّعار والواقع
لكون الشِّعار تعبيراً عن آمال ورغبات وحاجات واقعية، يكون بالنسبة للغالبية حاملاً لصورة «إيجابية مطلقة» مقارنة بالواقع المعاش ما قبل تحقُّق الشِّعار. ولكن، عندما يصير الواقع منفتحاً على تحقُّق مضمون الشعار، يظهر وكأنّ الواقع يفتقد لتلك الإيجابية التي جرى تخيُّلُها سابقاً عند رفع الشِّعار. هذه الحالة «الطبيعية» هي تعبيرٌ عن أنّ العقل ينحِّي جانباً أو يفتقد لتخيُّل الجانب المرتبط بـ«المهام»، ربما نتيجة عدم التمرُّس المسبَق في قضية الشِّعار نفسها، وخصوصاً في حالة شعار يطال مجمل حياة المجتمع، ومرتبط بخلق حالة تاريخية نوعية جديدة، وهي لذلك تكون مهاماً جبارة تطغى على الجانب الإيجابي لبداية تحقق نسبي لجوهر الشعار نفسه. فكيف إذا كان الشعار «كل السلطة للشعب» مع ما يحمله من تحوُّلٍ في كلِّ منظومة الأفكار والممارسة وحتى المشاعر والقيم والصورة عن العالم؟ كل ذلك يصير واقعاً محسوساً أثقل بلا شك من كلمات الشعار نتيجة المسؤوليات المترافقة مع القبض على المصير.
تمارين في القيادة والحكم
السلطة الشعبية لا تعبّر عن نفسها وفي الخلفية أغنيّةٌ حماسية أو أعلام ترفرف في الهواء وأوشحة تتطاير، بل هي مسائل الإدارة والتنظيم، و«حلّ المشاكل» والتناقضات. وما السلوك الشعبي الذي رافق محاولات التوتير والفتنة خلال الأيام الماضية إلّا تعبيرٌ كامل عن الدور السياسيّ القيادي للشعب، ليس في مواجهة مشروع الفتنة فقط، الذي هو شكل من أشكال التدمير والحرب الهجينة في المنطقة، بل في تطوير شعور المكوِّن الشعبي بذاته، أيْ بقدرته على إدارة المجتمع من تحت، خصوصاً في ظلّ التشكُّل الجديد للسلطة. ونتيجة أنّ الانتقال الثوري والجذري في العالَم اليوم، وفي منطقتنا خاصّة، يتجاوز الأشكال التقليدية التاريخية من الحركة الشعبية «العمّالية»، ويرتبط ببنية المجتمع التاريخية، فهو بذلك يعبِّر عن نفسِه من خلال أجسامٍ اجتماعية ومؤسَّسات قد يعتبرها البعضُ عودةً للخلف أيْ رِدَّةً إلى ما قبل الدولة، ولكنّها في الواقع رفعٌ لتلك الأجسام إلى مستوى المسؤولية الجديدة، لأنّ الدولة في منطقتنا لم تحقّق ذلك التجاوز لبنى ما قبل الدولة. ونقصد بذلك المرجعيّات والشخصيات الاعتبارية ذات الوزن المعنوي غالباً.
تجارب أخرى قريبة
على الرغم من تشوُّه الحركة الشعبية في المنطقة سابقاً نتيجةً لتراجع وزن التنظيم السياسي، ودور البرنامج المتناسب مع المرحلة، إلّا أنّ الحركة الشعبية في لبنان مثلاً راكمتْ بعض الدروس، على الرغم من غياب «الذاكرة» الثابتة المتبلورة نتيجةَ غياب الحامل السياسي التنظيمي الواضح لتلك الذاكرة. ومن هذه الدروس ما يعبِّرُ عن نفسه عند كلَّ استحقاق جِدّي. فخلال الحرب الأخيرة والعدوان «الإسرائيلي» على لبنان، وموجة النزوح الكبيرة والسريعة، ظهر، إلى جانب الأحزاب والجمعيات التقليدية، الدورُ الكبير للأطر الجديدة (وبشكل أساس العناصر التي تربَّتْ خلال الحركة الشعبية في مرحلة صعودها) التي تشكّلتْ خلال الحركة الشعبية، كونها لم تكن فقط حركة اجتماعية لمساعدة النازحين، بل كانت تعبيراً عن وعيٍ سياسيٍّ عالٍ لمواجهة الفتنة بين المجتمع الأهلي الذي حضن النازحين وبين النازحين. وهذا الدور تطلَّبَ تكوُّنَ أدواتٍ وتدريبٍ، فكرية وعمليّة، لم تكن لتوجد لولا الموجة السابقة من الحركة الشعبية. وهذا ما يسمح للأجسام الجديدة أحياناً بتخطّي الدور القيادي للأجسام السياسيّة التقليدية، لكونها أكثر قدرة في التعامل مع المهام المعقَّدة.
تمرين في الفوضى وفي السلطة الشعبية أيضاً
المقصود من ذلك أنّ التجارب الحاصلة الآن في سورية في تمرينٍ أوّلي ليس فقط لمحاولات الفوضى والفتنة التي يجري العمل عليها، بل وكذلك تمرين أولي على تطور الحركة الشعبية والسلطة الشعبية بالتحديد، خصوصاً في ظلّ احتمالٍ أكبر اليوم أن يكون لهذه الحركة الدور الأكبر في المشهد القادم، نتيجة تعطُّل البنى المتاحة للتصدّي للمهام التاريخية في ظلّ حاجة «التوازن النسبي» في المنطقة للاستقرار. وهذا السبب بالتحديد هو ما سمح مثلاً خلال الأيام الماضية بتصدّر المحاولات الشعبية للجم الفوضى، من خلال التنسيق مع هيئات السلطة المؤقّتة، وقبول واضح من تلك السلطة، كونها بحاجة إلى «المساعدة» نتيجةَ تناقضها الداخلي بين حاجتها للاستقرار وبين افتقادها للأدوات السياسية والفكرية والبرنامجيّة الكافية للهيمنة ولعبِ دورٍ قياديٍّ على مستوى التناقضات الاقتصادية الاجتماعية الوطنية القائمة.
نواة السلطة الشعبية الجديدة
في مرحلةِ الحاجة إلى تشكل بنيةٍ فوقيّة جديدة على المستوى السياسي والفكري والأخلاقي، تظهر أهمية ما يكشف عنه المجتمع من إرثٍ حيّ، هو ولا شكّ كبيرٌ في حالة المجتمع السوريّ، ويُبنى عليه، خصوصاً مع تصاعد النقاش الاقتصادي السياسي المتجاوِز لأطر «مُشْكِل» الفتنة الطائفية والمناطقيّة. وعن المكون الأخلاقي مثلاً هناك العديد من المقاطع المصوَّرة التي تعطينا مؤشِّراً عن الوزن الأخلاقي-القيمي الحيّ مثلاً. هناك ذلك المقطع لشيخٍ ملتحٍ يحملُ سلاحاً مواجِهاً لأحد «الشبّيحة» ولكن ليس بعقليّة الانتقام، بل بعقلية الوَعْظ والأبوّة وتحكيم المشاعر الإنسانية «المعاتِبة» والمُصلِحة. الأكيد أنّ هذا المقطع هناك غيرُه الكثير، على الرغم مِن وجود نماذجَ سلبيّة أيضاً وهذا أمرٌ مفروغٌ منه في واقعٍ جرى فيه، كما قال ممدوح عدوان، العملُ على «حَيْوَنَة الإنسان». لذلك يصير أيُّ سلوك «إنساني» نقيضاً لتلك الحَيْوَنَة هو فعلٌ ثوريٌّ بامتياز، قد لا يعيرُه البعضُ أهمية كبيرة، ولكنَّه عظيمُ الدَّور في منعِ مسارِ الفوضى والوجود البربريّ.
هذه الفعاليّة الشَّعبية، تجميعُها، وتعظيمُها، وإبرازُ أهمّيتها، كما يحصل مثلاً في إظهار مضامين المصالَحات، كالتي حصلت في حيّ «المزة 86» بدمشق، مهمٌّ جدّاً ليس لأنّه مَنَعَ ويمنع الفتنة فقط، بل ولأنّه أيضاً تعبيرٌ حيٌّ وملموس عن تشكُّل السُّلطة الشعبيّة وقبضِ الأفراد على دورهم متى لمسوا أهمّية هذا الدور، وقدَّروا فكرةَ «المسؤولية» حقَّ قدرِها لأنّهم اختبروها في الميدان. هذا هو بالتحديد ارتفاعُ وزن الفعاليّة الفرديّة في وجه الاغتراب، لا شعاراً بل واقعٌ ملموس. كلُّها تمارينُ أوليّة للمجتمع الجديد، ستتطوّر كلّما تعاظمت المهام.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1207