تفكيك السردية الجديدة/القديمة لقوى «هامش التوازن»

تفكيك السردية الجديدة/القديمة لقوى «هامش التوازن»

مع انفتاح المجال السياسي واللَّجم النسبي للسلاح والقمع المباشر فإن وزن الصراع الفكري والمعركة على الوعي ستزداد من أجل التعويض (غير المباشر) للقمع واللّجم السابق ذاته لأيِّ تحوُّلٍ حقيقي نحو التغيير. ولهذا فإنّ قوى النظام القديم ومن خلفِها قوى العالَم القديم وعلاقاته ضمن كل دولة غربية كانت أو إقليمية، ستتلوّن بلباس التغيير أو تتأقلم مع الواقع الجديد ولكن عبثاً تتخلّص من تناقضها كاشفةً تموضعها ضدَّ العالَم الجديد.

في التطور الكاشف

إنّ النتيجة التي وصلها الصراع في المنطقة هي تعبيرٌ مكثَّف عن تناقضات العالم القديم ليس في المركز الغربي فقط، بل ضمن القوى الصاعدة نفسها. إنّ التدمير الهجين الذي تتبعه الإمبريالية -الذي ينبع من تعفّنِ بنى المجتمع الرأسمالي ككل وما ينتجه من تفكّك في المجتمعات عالمياً على مستوى العقل والمؤسسات الاجتماعية والسياسية– لا يمكنُ تجاوزُه من خلال الإبقاء على قاعدته المؤسِّسة، أيْ الرأسمالية. ولهذا، فإنّ تطور الصراع في المنطقة يكشف عن أن قوى العالم الجديد من أجل رفع التوازن في وجه العالم القديم، عليها أن تتجاوزَ نفسَها بالضرورة من خلال فتح أفق تطوُّرِ نقيضٍ للرأسمالية على مستوى الاقتصاد والسياسة والثقافة وكامل التنظيم الاجتماعي. هذا من أهم ما يكشفه الصراع في منطقتنا حتى في جانبه الذي يراه البعض «هزيمة» لطرفِ «محور المقاومة» بينما هو في الحقيقة يكشف الجوهرَ الثوريَّ لتناقضاتِ القوى التي تحاوِلُ مواجهةَ الإمبريالية والدفاعَ عن نفسِها، ويعطي المرحلةَ الحالية والقادمة معناها ويحدِّدُ مهامَها.

في مهام المرحلة

من الطبيعي أنَّ الواقعَ الذي خلقتْهُ نتيجةُ الصِّراع في المنطقة معبّرةً عن نفسها بهذا التوازن سيحدِّدُ ليس فقط مهام قوى التقدم بل وكذلك مهامَ القوى التي تحاول منعَ التقدّم، وأيضاً تلك القوى التي ما زالت تتناقض داخلياً في موقعها العالَمي. وإذا ما كانت مهامُ قوى التقدّم في المنطقة والعالَم أمام هدفِ تجاوزِ ترِكَةِ الرأسمالية النيوليبرالية، وخصوصاً هجومها ليس فقط على منجزات ما بعد الحرب العالمية الثانية ولا سيّما الهجوم على الدولة ودورها، بل على كل منجزات التقدم البشري والتنظيم الاجتماعي والعقلانية، وإذا ما كانت مهام قوى التدمير في استكمال الهجوم الصريح البربري، فإنّ مهام القوى التي تحاول لعب دورٍ في «الفراغ» الناشئ عن التوازن النسبي للقوى التي تعيش تناقضاً داخلياً أكثر من غيرها، محكومةٌ بالدفاع عن نفسها معبّرةً عن قانون المرحلة في سير القوى في وجه التدمير الهجين، ولهذا فهي أمْيَلُ للسَّير في جدول أعمال الاستقرار ووقف الانهيار في تنسيقٍ أعلى مع قوى التقدم، ولكن ضمنَ حدودٍ نابعةٍ من التناقض الداخلي لهذه القوى. وفي محاولة هذه القوى اللَّعِبَ في هذا الهامش من التوازن بين العالَم الجديد والعالَم القديم، فهي ستعبّر عن تناقضها الداخلي.

في الهجوم على اليسار والاشتراكية وروسيا

إنّ الأيام الأخيرة وبعد المشهد الجديد في سورية تكشف عن تناقض القوى التي ما زالت تتموضَعُ في هامش التوازن النسبي بين العالَم الجديد والقديم. وإذا ما أخذنا سلوك وسائل الإعلام المهيمِنة بشكلٍ عام، والمقابلة مع الرفيق قدري جميل على تلفزيون سوريا كمثال، فإنَّ السردية التي تتصاعد، وستتصاعد أكثر -والتي كانت موجودة سابقاً ولا شكّ، ولكنها اليوم تتصدَّر المشهد- تلك السردية هي أوّلاً الهجوم على اليسار والاشتراكية والشيوعية، وثانياً الهجوم على الدور الوظيفي لروسيا عبر نقل المعركة من معركةٍ ضدَّ «النظام السوري» إلى معركةٍ مع روسيا. وهنا لا نقول بالتماثل بين الاشتراكية والشيوعية وروسيا كدولة راهنة (بل كوريثةٍ للتجربة التاريخية الأرقى للاشتراكية)، بل نحاولُ الإشارة إلى العناوين المركزية للهجوم والسردية المهيمِنة التي تأقلمت مع الواقع الجديد ومع «الأخصام» الجدد.

ما يهمّنا هنا هو الإشارة إلى أنّ تطور هذه السردية في وجه الاشتراكية والشيوعية من جهة، ودور روسيا الوظيفي والتاريخي في كونها تعبّر عن التجربة التاريخية الأرقى للاشتراكية، هو تعبيرٌ ضمنيّ عن المهام التاريخية الضرورية الموضوعة على جدول الأعمال. ولهذا فالسردية الجديدة لا تخلو من التناقض الداخلي والهزل في لغتها، نتيجةَ التناقض الداخلي للقوى التي تعبّر عنها. فهي مثلاً من جهة، دخلت في معركة مع «النظام السوري القديم» صاحب السياسات النيوليبرالية، بينما هي ضدّ جدول الأعمال الثوري في مواجهة تَرِكَةِ الرأسمالية والنيوليبرالية، وبالتالي ضدَّ التركة التاريخية للفكر الثوري والاشتراكية والشيوعية. ونتيجةَ أنَّ الواقع يحتاج إلى إجابات عمليّة من أجل التصدّي للأزمة الاقتصادية والاجتماعية وعدم الاستقرار واحتمالات التفكك، فإنَّ ما ترفعُه مِن شعارات في جوهرها النيوليبراليّ يعبّر عن مشهدِ تكرارٍ هَزَليٍّ لعقود النيوليبرالية. وكمثالٍ آخَر؛ إنها من جهة في معركة ضرورية مع عدم الاستقرار والتدمير الهجين، ولكنها في الوقت ذاته تخوض هجوماً على الدور الوظيفي لروسيا الداعمة للاستقرار العالَمي، لا بل تنخرط في الدفع نحو التشفي بـ«هزيمة روسيا في سوريا» وكأنّهم فرحون بهذه «الهزيمة» في تعبير ضمني عن «انتصارهم» متجاهلين أن الواقع الجديد ليس أكثر من التعبير عن توازن القوى التي ساهمت روسيا وقوى العالَم الصاعد في تشكلّه (وإن كان لهذا الصعود سقفُه التاريخي الذي بدأ بالظهور ويجب تجاوزه). فلولا قوى العالم الصاعد هذه لما كان للواقع السياسي الجديد من وجود، بما فيه القوى التي لها الأمر الواقع اليوم، ولا حتى للدول التي في خلفيّتها.

ونحن بغنى عن الإشارة إلى أنّ هذه القوى تحمل جدول اعمال التفكيك الهوياتي بمختلف تمظهراته. هذا التناقض ونتيجة لضغط الوقائع يظهر، وسيظهر أكثر، الهزل في أداء هذه القوى المتناقضة داخلياً. وهذا الهزل والتناقض يظهر أكثر ما يظهر في الهجوم على حزب الإرادة الشعبية (والقرار 2254 ضمناً)، حيث كان هذا الحزب بالتحديد هو أول من دعى إلى الحلّ السياسي والحوار وتغيير النظام القديم تغييراً جذرياً وعميقاً وشاملاً ومواجهة تفكيك البلاد وتفجيرها، وكأنّ أصحاب السّردية الجديدة قد تبنّوا لغةَ الحلّ ولبسوا دور قوى الحل دون جدول أعمال بديل بكلّ بساطة، بل بالعكس؛ يتبنّون جدول أعمال السلطة الساقطة نفسها من حيث جوهره النيوليبرالي، ومِن هنا هجومُهم على ما هو ضرورةٌ مستحَقَّة تقود إلى التغيير الحقيقي المنشود.

تفكيك الهجوم الجديد

لأنّ الصراع السياسي سيتصاعد هناك بالضرورة من أجل تفكيك هذه السردية الجديدة/القديمة وإظهار تناقضها الداخلي، لا في عملية دفاعيّة عن الذات في وجه «الاتهام»، بل من خلال هجومٍ على هذه التناقضات وغيرها في السردية التي ليست إلّا تعبيراً عن هامشِ توازنٍ نسبيّ مؤقت بين قوى وعلاقات عالمية يجب تطويره في المنطقة والعالَم، فإنّ جدول الأعمال وضغط الوقائع أكبر من أن يسدّه «فرح الانتصارات بمفعول رجعي».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1206