التهديد الحضاري والفضاء الجديد وخطر «الجمود»
مع انتقال الأزمة في نظام الهيمنة الإمبريالية إلى طور التهديد الشامل للوجود البشري والحياة على الكوكب، فإنّ كل إحداثيات السياسة انتقلت إلى فضاء جديد، وهنا يجب التنبيه مجدداً إلى خطر الاحتفاظ بإحداثيات «محافظة» تنتمي للفضاء السابق على عمليات الوحدة في مواجهة التهديد البربري.
ما فوق الاقتصادي
لا يمكن اختصار التهديد الحالي لأزمة نظام الهيمنة الإمبريالي وتركته في المركز والأطراف بمقولات التقسيم الاقتصادي للمجتمع إلى طبقات. فنتيجة للتركُّز الشديد للسّلطة والثروة، وضرورة إزاحة كل أشكال الإدارة والانتظام والبنى، وأرقاها تطوراً، كالمجتمع والعقل، حتى يتسنّى للقوى المهيمنة أنْ تمنع أيّ حلٍّ بَنَّاء للتناقضات في نمطها اللاعقلاني (لوجود الإنسان ولعلاقته بنفسه والآخرين والطبيعة)، ونتيجة للحاجة إلى تعميم نموذج من البربرية والسيطرة المتطرّفة في توظيف التكنولوجيا والعلم لصالح هذا النموذج، فإنّ التهديد تجاوزَ العداء بين الطبقات التقليدية نحو عداءٍ أعلى، دون أنْ ينفي التناقضات بين الطبقات. والعداء الأعلى هو بين تلك القلّة القليلة المعولمة، تجاه البشرية بشكل عام. هذا ما تنبّأ به مبكراً القائد السياسي الإيطالي بالميرو تولياتي، ولاحقاً فيديل كاسترو، والذي دعا إلى جبهة حضارية ما بين قوى تختلف ليس فقط في مرجعيّتها الإيديولوجية، بل حتى في قاعدتها الطبقية، ضمن تحالف جامع تجاه تدمير الحياة على الكوكب.
توتير أهلي ودولي
البقاء والاحتفاظ بخطاب أقل من «حضاري»، أي البقاء على إحداثيات جامدة في تعريف التناقض الرئيسي عالمياً (ومحلّياً) أوقعَ الكثيرَ من القوى الساعية للتغيير سابقاً في أخطاء قاتلة. واليوم أيضاً، نرى هذا التأثير في خطاب وممارسة العديد من القوى، منها ما يعرِّفُ نفسَه ضمن اليسار، ومنها ما هو ليبرالي بالطبع، ومنها ما هو قومي أو وطني محافظ (حتى لا نذكر القوى المدفوعة والمأجورة معروفة الارتباط بالقوى التي تحاول الإبقاء على هيمنتها)، وكل هذه الانتماءات في احتفاظها بثنائيات جامدة طبقية-اقتصادية كانت (يمين-يسار)، أو محافظة-ليبرالية (ديني-علماني)، أو وطنية وقومية (ما بين الدول والهويّات العرقية أو الإثنية)، إلخ. تصبّ في تثبيت ثنائيات تبقي على حدود فهم الصراع العالمي ضمن إحداثيات أقل ضيقاً غير قادرة على الإمساك باتّساع الحركة التاريخية، وبالتالي تقوم بخنق الحركة، وتحويل الممارسة السياسية إلى ممارسة معادية لحاملها (إذا ما كان حاملها صادقاً في أهدافه)، وتصب في نهاية المطاف في صالح مشروع التدمير الحضاري الشامل كونها تمنع القوى صاحبة المصلحة بالوحدة، دون أن يعني ذلك إلغاء التناقضات بين هذه القوى صاحبة المصلحة التي يمكن حلُّها فقط من خلال «صراعٍ غير تناحري».
وهذه النغمة من التوتير ضمن إحداثيات ضيقة يمكن تلمّسها ليس فقط في خطاب التوتير الطائفي والمناطقي والسياسي والديني داخل الدولة الواحدة، بل في العداء بين دول إقليمية مثلاً. هذه النغمة تخدم التوتير، كما تصبّ في الوقت ذاته في صالح طمس التراجع الغربي حيث يجري دمج كل «القوى» في قطب «شرٍّ» واحد من خلال نفي التناقضات بين القوى وبشكل خاص نفي كون الدول، وحتى دول المركز عرضة للتفتيت والتدمير الحضاري، في كونها مجتمعات وكيانات منظَّمة، وفيها تركة عقلانية نسبيّاً تنتمي في أغلبها إلى منجزات مرحلة الصعود الثوري للقرن الماضي. وهكذا يجري اعتبار القدرة الغربية مطلقة، بينما هي في حالة انحسار تضيق هوامشها بشكل متسارع حتى صارت تأكل نفسها، وما الخلاف الغربي-الغربي (مثلا الخلاف الأمريكي-الكندي، والأمريكي-الأوروبي) اليوم إلّا تعبيرٌ عن هذا الانحسار، لا تعبير عن قوة متعاظمة. وأكثر ما تسمع تلك النغمة اليوم لناحية الأحداث في المنطقة، وحول سوريا تحديداً.
قراءة الحدث مَخصِيّاً
إنّ الاحتفاظ بإحداثيات تُسقط من حسابها حجمَ التهديد الذي يطال بنى اجتماعية وسياسية وثقافية-فكرية، يقوم بدور إعادة إنتاج «تكراري» للتاريخ، وبالتالي يمنع من التقاط الغنى الكبير في العمليات الموضوعية الحاصلة. فالقول بأنّ الغرب لا زال يحتفظ بالقبضة المطلقة على دول المنطقة شيء، والقول بأنّ هوامش مناورة هذه الدول تتسع نتيجة توازن عالمي (رغم وصوله إلى حدود تاريخية) في جوهره تراجع تأثير المركز الإمبريالي، هو شيء آخر تماماً. الموقف الأخير يفتح أفق العمليات السياسية بين دول المنطقة ودولٍ ذات وزن عالمي، بينما الموقف الأول يضع كل تلك الدول في حالة عداء مطلق. والفَهمان السابقان ينعكسان في فهم أفق العمليات السياسية الداخلية لكل دولة (من العالمي إلى الإقليمي إلى الداخلي-المحلّي). فالفهم «التكراري» القائل بالقدرة الثابتة للمركز الغربي ينفي انتقال الصراع (في سوريا مثلاً) إلى مستوى أعلى-أرقى، بينما القول باتساع الهوامش نتيجة تراجع التأثير الغربي السابق يسمح باستيعاب المشهد الداخلي في تعقيده، وبشكل خاص في كونه تعبيراً عن ملأ الفراغ المؤقت بين أزمة النموذج المتراجع عالمياً وبين الحاجة لنموذج جديد لتوزيع الثروة؛ نظام جديد سياسيٍّ للحكم يتطوّر حضورُه ما بين الدول، وفي داخل كلّ دولة، وربما تكون سوريا هي التعبير المكثف عن هذه الضرورة التاريخية عالمياً.
في توسيع الجبهة الحضارية
إنَّ ضرورة تلاقي مصالح الوجود عالميّاً ممّا يفرض جدول أعمالٍ تعاوني، حتى لو لم تقتنعْ به بعد كل الأطراف صاحبة العلاقة، يتطلّب تقديم هذا الجدول أكثر إلى الواجهة ممّا يرفع مِن وزن الخطاب والعمليات المعبّرة عن الحاجة للتعاون الحاصلين أساساً، ويهمّش قوى التوتير المشبوهة، ويعمل على توضيح المسار الحاصل لمن لا يزال ينظر إلى هذا المسار من خلال إحداثيات ضيقة تنتمي إلى فضاء ما قبل وصول الأزمة العالمية إلى أزمة حضارية. ومن ضرورات جدول الأعمال هذا هو الخلق الإبداعي لأطر تَلاقٍ وتعاونٍ جديدة (محلية وأيضاً إقليمية ودولية هي أساساً يجري خلقها وتطويرها)، تتجاوز تلك التي يمكن أن تحصل بشكل رسمي (كلجان الحوار الوطني والأطر المشكَّلة رسمياً) وتكون معبّرة عن أوسع القوى المتضرّرة وصاحبة المصلحة بالانتقال التاريخي. هذه الأطر هي تطويرٌ للأجسام السياسية كالجبهات، تبعاً لتطور العملية السياسية نفسها، وذلك من أجل الاستجابة إلى حجم التهديد خصوصاً بعد انفتاح أفق العمل السياسي في الحالة السورية. وكلّ ذلك يحتاج إلى خوض الصراع على الجبهة الفكرية وجبهة الوعي من أجل تثبيت الإحداثيات الجديدة وإخراج الطاقة السياسية للقوى الاجتماعية من تعريفاتها السابقة التي صارت غير صالحة وخانقة اليوم، بل مدمّرة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1213