بين التجريب والإحباط والضرورة التاريخية
خلال مسار الحرب القائمة في المنطقة والعالَم، تظهر واضحةً الحاجةُ إلى الارتقاء بمستوى الوعي السياسي للقوى السياسية التي تحاول الفعل، ومعها القوى الاجتماعية بالمعنى الواسع، لتلامس ضرورة المرحلة وقانونَها الداخلي. هذا الارتقاء ليس ترفاً بل مرتبطٌ بالمجهود الحربي بالمعنى المباشر وبتطوير الهجوم، ولاحقاً الترتيب السياسي كتظهيرٍ للكامن في أسباب الحرب نفسها.
عدم كفاية «صوابيّة القضية»
يظهر من خلال المتابعة شبه اليومية لتحوّل الخطاب العام في المنطقة، وبالطبع تحت تأثير الإعلام المعادي في أهدافه لهزيمة المقاومة وإضعاف معنويات المجتمع، أنّ العقل العام يتحرّك على وقع مستوى وحيد من المعطَى الميداني، المرتبِط بالدَّمار وبالقدرة على تنفيذ الاغتيالات وبمعاناة المهجَّرين، وبالمعطى الزمني المرتبط بطول مدّة العدوان. وهذا يجعل من العقل العام -وعلى الرّغم من قناعته بالعداء للكيان الصهيوني، وبدعم قضية المقاومة- يجعله أحياناً مشكِّكاً بصوابيّة المعركة، وأحياناً أخرى مشكِّكاً بعالَمية المواجهة، وبالتالي ترابط مصالح القوى العالَمية التي تواجه عالَم الهيمنة الغربيّ، ولو بشكله الدولي إلى حدّ الآن، دون انعكاس ذلك بشكل واضح كفايةً للعين العادية ضمن الدول التي تواجه نظام الهيمنة الدولي نفسه. وهذا التشكيك والإحباط وتراجُعُ المعنويّات ليس ثابتاً كما نرى، فهو ولكونه يعتمد مرجعيَّةً تجريبيّة محكومة بضعف التوصيف النظري «الصحيح» للمرحلة، وقانون تطوّرها التاريخي على وقع الضرورة الداخلية لأزمة الرأسمالية، ومعها أزمة المجتمع الطبقي بشكل عام - هذا العقل لكونه كذلك يتحرك بين التفاؤل والإحباط. والتفاؤلُ يظهر مع كل ارتقاءٍ في العملية العسكرية الميدانية، لكون هذا العقل يعتمد في تفاؤله على المعطَى الميداني بشكل أساس، وعلى فهمه وحيد الجانب للحرب في شكلها العسكري.
لا نقصد هنا التقليل من مسألة صعوبة المواجهة العسكرية، ولا التّشكيك في حرصِ غالبية أصحاب هذا الصوت «القلِق» -وليس جميعهم بالطبع- بل ما نحاول الإضاءة عليه هو أنّ الاعتماد على المزاج العام الداعم للمقاومة والمعادي للكيان ليس كافياً في حربٍ هجينة معقَّدة وطويلة الأمد (هي بالأحرى مفتوحة)، بل ما نحتاجه هو الارتقاء بالوعي العام إلى مستوى الفهم النظري السياسي لضرورة المرحلة التي تحمل في داخلها احتمالاتِ تجاوز نظام الهيمنة في أقرب تقدير، وتجاوز الرأسمالية بشكل عام.
العدل الدولية، المجنَّح، البالستي، فرط الصوتي
بعد مراوحةٍ شكليّة لا أكثر للميدان، وبعد تمادي الكيان الصهيوني والغرب في تسعير المواجهة ومعها، شهدنا موجةً من الإحباط والتشكُّك العام، دخلَتْ إلى المشهد العالَمي في الأيام الأخيرة أسلحةٌ نوعية تَدخلُ الخدمة لأول مرّة - ففي أوكرانيا قامت روسيا بإطلاقٍ ناجح لصاروخٍ فرط صوتيٍّ قادر على حمل رؤوس نووية، كرسالة موجهة للغرب بَعد سماحِ الأخير لأوكرانيا باستخدام الصواريخ بعيدة المدى لضرب أهداف داخل روسيا. وفي منطقتنا دخلت الصواريخ بعيدة المدى والمجنَّحة الخدمةَ لضربِ أهداف داخل الكيان المحتل، إضافةً إلى الصمود الأسطوري للمقاومة اللبنانية في الجنوب اللبنانيّ، والفعل اليمنيّ في البحار المحيطة والتصدّي للأساطيل الغربية. وقبل ذلك كان قد صدر قرارٌ من المحكمة الجنائية الدولية لتوقيف رئيس وزراء الكيان نتنياهو ووزير أمنه غالانت، وبعدها تتالتْ الدعواتُ الدولية لتطبيق القرار (بمعزلٍ عن عدم صدق بعض مطلقي تلك الدعوات).
ولكن، حصلت أيضاً عدة أحداث «بعيدة عن الميدان»؛ ومنها لقاء البريكس الذي حصل في قازان-روسيا الشهر الماضي (تشرين الأول 2024)، والموقف الروسي في مؤتمر فالداي بداية هذا الشهر (تشرين الثاني) وخطاب الرئيس الروسي فيه والذي تحدث عن عوامل السلام و الأمن المشترَك والتكافؤ مذكّراً بالثورة الروسية ومتحدّثاً بلغة مادية-تاريخية صريحة عن ثورية وجذرية الأحداث التي نعيشها وأكثرها تعقيداً، وعن زوال العالَم القديم، وعن بقاء الفرد «إنساناً» المجتمع البشري محتفظاً بإنسانيته في مواجهة البربرية، وعن مسيرة التاريخ التي لا يمكن ايقافُها، وعن ضرورة الجهود في القضايا الملحّة أمام البشرية، كالمناخ والأمن الغذائي والتكنولوجيا الجديدة، إلخ. (لمراجعة الكلمة في قاسيون: «بوتين يتحدث أمام فالداي عن «ديالكتيك التاريخ» والمبادئ الاستراتيجية للعالَم الجديد»). وفي المنطقة هناك الدّعوات والتحركات التركيّة ضدّ الكيان. أمثلةٌ عديدة بعيدةٌ عن الميدان تعطينا دليلاً ليس فقط على عالمية المواجهة بل وكذلك على العقل الاستراتيجي للقوى الدوليّة الفاعلة كروسيا والصين في التصدّي لأزمة النظام الإمبريالي، وهو بحد ذاته الحامل الرئيسي السياسي والاقتصادي للفعل العسكري المباشر والمؤسِّس للتوازن الاستراتيجي ولآفاق تطوير هذا الفعل العسكري المباشر ضدّ كلّ الأصوات القائلة بتركِنا وحيدين، وبـ«تسوياتٍ تحت الطاولة» وبالمتاجرة بنا، وغيرها. هذا التوازن هو الذي يسمح اليوم، وعلى الرغم من العدوان والتدمير الواسعَين الذي يقوم به الكيان والغرب، بقيام الجبهة نفسها. دون هذا التوازن لا يمكن لنا الكلامُ عن جبهة أساساً، فيها كل أنواع الأسلحة والتكنولوجيا الحديثة. هذا التوازن هو الحاضن الدولي لعناصر المواجهة في منطقتنا، وتحديداً الدول على الرغم من تناقضاتها الداخلية التي تتطلّب الحلّ.
البحث عن «التفاؤل الاستراتيجي»
عاملٌ مهمٌّ يفرض ضرورةَ تطوير العقل السياسي ليس للقوى السياسية الفاعلة فقط بل للقوى الاجتماعية بشكل عام، هو الانخراط الفاعل للمتابعين في مسألة «فهم ما يحصل». وهذا العامل يمكن متابعته من خلال تكاثر المقابلات مع شخصيات صحافية وسياسية وثقافية وغيرها، إنْ كان على صفحاتهم الخاصّة أو عبر قنوات متعدِّدة، وسواء كانت تلك الشخصيات في الغرب أو الشرق أو من منطقتنا. تلك الشخصيات التي تقدّم تصوّراً استراتيجيّاً نقيضاً للسَّرديّة المحبِطَة التي يجري تعميمُها لا بلغةٍ دعائيّة شعبويّة رخيصة، بل من خلال تحليلٍ علميٍّ تاريخيّ لمجريات العمليّة العالمية وضمناً في منطقتنا. هناك بعض المقابلات المصوَّرة التي تحصد عشرات الآلاف من المتابعات خلال يومٍ أو يومَين من تاريخ نشرِها على الشبكة.
وهذا البحث عن «التفاؤل» مؤشِّرٌ على أنّ فَرضَ حالة الإحباط تواجِهُ معيقات وعوامل موضوعيّة تحمل فيها تفاؤلاً يحتاج إلى تنظير، فالعدوّ لا ينتصر، والجبهة لم تسقط، والغرب يتراجع، وقوى العالَم الجديد تطوِّر من ممارستها، ولكن مسار الأحداث طويل، وهذا بالتحديد ما يحتاج إلى تنظير وتوليف وتعميم يرقى إلى التفاؤل الاستراتيجي، ويؤسِّس لرفع الانخراط الشعبي الفاعل في تحقيق التحوّل الجذريّ والعميق الذي تحتاجُه الحرب، بل هو السبب الأساس للحرب القائمة. مطلوبٌ تحويلُ الإدراك العام من مستوى اللّايقين والتشكيك إلى زمنٍ مفتوحٍ للتغيير والفعاليّة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1202