د.محمد المعوش
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
حتى هذه الساعة ما تزال الأحداث تتطوّر بشكل سريع، ويبدو أنّ ظاهرة تسارع التاريخ المتكثّف والمضغوط في أيّام والتي أشار إليها لينين صارَتْ هي، كما ظواهر أخرى، من الملامح الثابتة للمرحلة التاريخية الراهنة كمؤشّر على حاجة وعمق وشموليّة الانتقال. وفي هذا التسارع تطلُّ الحاجة الملحّة للعقل السياسي «من تحت» لكونها مرحلة لم تعد تكفي «إدارتها من فوق».
خلال مسار الحرب القائمة في المنطقة والعالَم، تظهر واضحةً الحاجةُ إلى الارتقاء بمستوى الوعي السياسي للقوى السياسية التي تحاول الفعل، ومعها القوى الاجتماعية بالمعنى الواسع، لتلامس ضرورة المرحلة وقانونَها الداخلي. هذا الارتقاء ليس ترفاً بل مرتبطٌ بالمجهود الحربي بالمعنى المباشر وبتطوير الهجوم، ولاحقاً الترتيب السياسي كتظهيرٍ للكامن في أسباب الحرب نفسها.
الحرب الإعلامية في الحرب القائمة تكاد تتجاوز في وزنها السلاح والمتفجرات وباقي مستويات الحرب العسكرية، من أجل تحوير الواقع والتلاعب النفسي والسياسي حالياً ولاحقاً، وهي حرب الوعي التي تتعاظم مع تعاظم غنى المرحلة ومضامينها، وتفكيكُ مقولاتها جزءٌ لا يتجزّأ من الحرب وتطوير الهجوم فيها، والمواجهة خلف خطوط دفاعنا (وهجومنا) وخنادقنا الخلفية.
ما نشهده اليوم هو أبعد من مجرَّد لحظةِ فهمٍ لمرحلةٍ محدَّدة ومحدودة، بل إعادةُ تكوينٍ للوعي الذي تمّتْ صناعتُه طوال العقود الماضية، للوعي المختطَف، المستلَب والمغترِب عن الواقع والتاريخ، الذي هو تاريخُ حربٍ منذ تشكّل المجتمع الطبقي حتى يومنا هذا، وما لحظاتُ «السلام» فيه إلّا مراحل مؤقَّتة نتيجة القتال نفسه. فالسّلام كان يصنع بالقتال/الحرب، هكذا هي جدليَّتُه.
في موادَّ سابقة أشرنا إلى تشكل مزاج عام يتجاوز فضاء النقاش السياسي التخصّصي ليطال المجتمع ككل، حول سؤال «متى تنتهي الحرب؟»، ومعه نضجت بعض المقولات في محاولة الإجابة وتحديداً في كونها «حرباً طويلة أو مفتوحة». ولكن سؤال محاولة المعرفة يستدعي الطرف الآخر أيْ سؤال الممارسة. على هذا المحور ينضج جوهر المرحلة التاريخية الراهنة ككل. هنا بعض التوسع في ذلك.
في المادة السابقة أشرنا إلى أنّ موجة عامة من «التساؤل» حول سؤال «ماذا بعد؟» بدأت تكبر على وقع الحرب التي بدأت تتكشف أنها «مفتوحة»، لا في منطقتنا فقط، بل في مختلف أماكن الصراع التي فُتِحت فيها جبهات عسكرية في السنين الماضية. هذه المادة تستكمل بعض المعاني السياسية التاريخية لهذه الموجة التي تتمحور حول التناقض في مجتمع الانقسام الطبقي ككل، وفي جوهره تجاوزُ الاغتراب.
أحد جوانب العالَم الذي يموت هو موت نظرته إلى العالم، أيْ تعريفه للحاضر، وللمستقبل، وللممكن. وهذا الموت لا يحصل فقط على المستوى النظري، في الأفكار المجردة والمكتوبة، بل له آلامه المادية الملموسة في عقل البشرية، وفي فقدانها لتوازنها نتيجة انهيار المجتمع القديم، وعدم اتضاح الجديد. وفي ذلك الوقت، حسب غرامشي «تولَد الوحوش» ليس الوحوش السياسية والعسكرية فقط بل الروحية والنفسية والعقلية أيضاً!
المرحلة الراهنة بما تمثّل من انتقالٌ نوعيٌّ من واقع «حضارة» (تتحوّل إلى حالة بربرية تعبّر عن توصيف إنجلس بكونها مرحلة ما قبل التاريخ) إلى واقع آخر (حضارة صناعة التاريخ)، فيها ملامح نوعية، من الضروري استمرار تحديدها والتعمّق في مضمونها، ما يسمح مثلاً بتعرية المقولة المؤامراتية بـ«تقارب واتفاق» القوى المتصارعة عالمياً.
من المفيد في نقاش مسألة البربرية واتجاه اللاعقلانية وانهيار العقل، كتعبير عن اتجاه في أقصى التطرف في الحفاظ على المجتمع الطبقي المنقسم عبر التاريخ، إضافةً إلى النقاش الفلسفي العام، أن نأخذ بمقولات علم وظائف الدماغ، وللدقة، فرع علم النفس العصبي في علم النفس، وأحد أعلامه الرئيسية ومؤسِّسيه، السوفييتي ألكسندر لوريا.
المعركة الأيديولوجية التي يديرها العالم القديم معقدة وفي تصاعد واشتداد مستمر، وهذه إحدى تنبؤات إنجلس بشكل خاص. ولهذا التصاعد ملامحه التي لا تنحصر فقط في تصاعد التيار العدمي اللاعقلاني الذي مررنا على ذكره في مواد سابقة، ولكن أيضاً في استعارة العقل الذي يحاول الحفاظ على هيمنته للمذاهب «الثورية» وتطويعها في مسار: من الإصلاحية الى الفوضوية إلى «الشيوعية المبكرة».