د.محمد المعوش
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في عملية الانتقال التي يشهدها العالم يشهد الصراع على الوعي أهمية أساسية أكثر من أي مرحلة سابقة، انطلاقاً من أن شكل الهيمنة في العقود الماضية فرض هذا الوزن النوعي للوعي. وهذا الإنتقال (البناء بالترافق مع الصراع) الذي يعني ضمنياً التحوّل في نمط الحياة، أو النمط الحضاري، يستند إلى العنصر البشري الذي هو تركة المرحلة السابقة من عقود الليبرالية ونمط الحياة والتفكير المهيمنَين. وهذا شديد الأهمية كونه يحسم التطور أو التقهقر في عملية الانتقال تلك.
في المادة السابقة كنا قد حاولنا الاستعانة بلغة الديالكتيك «الصافي» لدى هيغل وملاحظات لينين عليه في «دفاتر عن الديالكتيك». والفكرة الأساس هي أن الانتقال من «الوجود الميت» نحو «الوجود الحي». هذا الانتقال هو التعبير المجرّد عن ضرورة الانتقال الحضاري المطلوب اليوم. وفي هذه المادة سنمر أكثر على بعض أفكار لينين في نصوصه المجموعة في كتيّب تحت عنوان «إشراك الجماهير في إدارة الدولة».
في المادتين السابقتين تمت الإشارة إلى بعض أفكار سيرغي قره-مورزا وغرامشي حول مصير الحضارة الغربية من جهة، وحول عناوين مواجهتها. وفي المادة الحالية سنحاول، واقتباساً من لينين وهيغل، التوسع قليلاً في مسألة المشروع النقيض ومركزيته لحشد القوى ليس فقط لبناء القادم، بل في سياق المواجهة الجارية، التي يفعل فيها العنصر البشري دوراً أساس، حيث إن العنصر الجماهيري يجري تحويله إلى سلاح دمار شامل، أولاً، في سياق الاضطرابات السياسية الداخلية لكل دولة، وثانياً، للدفع باتجاه التعفن الحضاري ومأسسة البربرية. فالمشروع النقيض حالياً هو أداة أساسية للمواجة بمعناها الآني.
في المادة السابقة أشرنا إلى بعض الأفكار التي تضمنها كتاب «التلاعب بالوعي» لسيرغي قره-مورزا، وفي جوهرها قضية احتضار الحضارة الغربية الفردية وتحليل «الهيمنة الناعمة» ومواجهتها وأهمية عامل الوقت (والتوقيت) في تكتيك المعركة، مع المرور على أفكار غرامشي حول ضرورة تحويل الواقع نحو نمط حياة يتجاوز قوانين الربحية الفردية (الاستهلاكية) من أجل تأسيس «نمط الحياة السياسي» أو ما يمكن أن نسميه نمط «صناعة التاريخ». في المادة الحالية سنقوم بالتوسع في بعض أفكار مورزا وغرامشي، كعلامات لبديل عن الإنسان المتشيّئ وكقاعدة للحضارة المنهارة وبربريتها المدفوع بها.
من المعروف أن جدول أعمال التدمير الإمبريالي محكوم بضرورة أن يتسارع بسبب حدة الأزمة والفاعلية التاريخية للقوى الصاعدة المتسارعين. وعامل الوقت هذا له دور كبير في فهم ديناميات الصراع، وتحديداً رد فعل القوى المعرّضة للتدمير على جدول الأعمال البربري المطروح، وبالتالي فهم هوامش الصراع وتوازن القوى المحتمل. وهنا نطل على بعض أفكار سيرغي قره-مورزا في هذا المجال مع وضعها في السياق الراهن.
على الرغم من أن مؤشرات «خطر وإشكالية» الذكاء الاصطناعي ليست بجديدة، هناك الكثير من «الصراخ» العلني في المرحلة الحالية حول الذكاء الاصطناعي، حيث إنه وبشكل شبه يومي هناك خبر من هنا أو تحذير من هناك حول الخطر الوجودي للذكاء الاصطناعي على البشرية، خصوصاً مع بداية اقتراحات عملية لتشكيل هيئات ناظمة حكومية، لا بل عالمية الطابع. وهذا «التوتر» لا يخرج عن «التوتر» العام الذي يطبع المرحلة، الناتج عن القلق الضمني المتعاظم ضمن النظام الرأسمالي.
في المادة السابقة كان الهدف هو التركيز على فكرة أنه على الرغم من هيمنة النمط الحضاري الرأسمالي المأزوم، على قاعدة الاقتصاد السلعي-الاستهلاكي، الذي يشكل في نهاية التحليل قاعدة تدمير كل مستويات الحياة المادية والروحية، ولكن هذا النمط يتعايش مع أنماط حضارية «ما قبل» و «ما بعد» رأسمالية، وإلا ما معنى كونه مهيمناً. وفي هذه المادة سنوسع قليلاً في هذه الأنماط التي تشكّل قاعدة «غير استهلاكية وغير ربحية (بالمعنى الاقتصادي الرأسمالي)» ونواة لبناء المشروع الحضاري النقيض المنقذ للبشرية.
في المواد السابقة تم عرض بعض الأفكار والطروحات في قضية الأزمة الحضارية الشاملة الناتجة عن أزمة النظام الرأسمالي، والتي تدفع إلى الردة عن كل ما هو تقدمي في التاريخ البشري، من أفكار وبنى اجتماعية وسياسية (كالدولة والعائلة وكل شكل منتظم من العلاقات الاجتماعية والعقلية)، باتجاه البربرية والفناء كشكل وحيد للمجتمع الموعود المسمى «ما بعد الرأسمالية» (الاسم الحقيقي هو «ما بعد المجتمع»). ولأن الاعتبار بأن القاعدة المادية للحضارة الرأسمالية المأزومة المتمثلة بالنمط البضاعي- الاستهلاكي هي المهيمنة وليست وحدها الموجودة ضمن صراع المتناقضات، يحتاج نقيضها إذاً إلى بعض المساحة، كونه هو يشكل أحد مداخل البديل الحضاري النقيض.
كاستكمال للسياق حول عرض بعض جوانب الأزمة والتهديد الحضاري نتيجة الاتجاه التدميري المادي والروحي الذي تسلكه الرأسمالية من خلال استعادة أعمال سابقة لعلماء وسياسيين من الموقع الثوري، ولنختم ما تم عرضه في المادتين السابقتين حول أفكار وطروحات ودعوة تولياتي للدفاع عن الحضارة، والذي كان قد استبق في دعوته تلك تطور المشكلة التي نواجهها اليوم بالمعنى العملي والمحقق، نحاول في هذه المادة وضع دعوة تولياتي في سياق المرحلة الراهنة من أجل إطلاق وتجديد الدعوة التولياتية اليوم كمهمة مركزية للحركة التقدمية للدفاع عن الحياة، وضمناً الحضارة التي أبدعتها البشرية، والدفاع عنها في وجه تدميرها كنتيجة الأزمة الرأسمالية التي ومن أجل الحفاظ على القائم وتأخير ولادة الجديد تدفع نحو البربرية والفناء.
في المادة السابقة حاولنا الإشارة إلى بعض طروحات وأفكار بالميرو تولياتي حول التهديد الحضاري، والذي يمكن تحديده بمستويات ثلاثة عامة، هي الكارثة التدميرية لأسلحة الدمار الشامل، والكارثة البيئية، والتدهور العقلي الاجتماعي في نمط الحياة. هذا الموقف يلتقي مع طروحات لآخرين، كأوليغ شينين وفيديل كاسترو الذي سنحاول الإطلالة عليه لاحقاً، حول تجاوز الطروحات ضيقة الأفق من حيث التوصيف والبرنامج. وفي المادة الراهنة سنعرض بعض الأفكار العملية-السياسية التي قدمها تولياتي في مواجهة التهديد الحضاري.