الشروط التاريخية لتركّز التوليف ووزن العامل الذاتي (2 من2)

الشروط التاريخية لتركّز التوليف ووزن العامل الذاتي (2 من2)

تضمنت المادة السابقة نقاشاً حول التناسب بين المستوى الموضوعي والذاتي، فارتفاع وزن حدث ما وتأثيره على تغيير المشهد العالمي لا ينحصر فقط بالمستوى الموضوعي، فطبيعة المرحلة تفرض أيضاً أن أي حدث «ذاتي» له ذات الوزن الكبير في التأثير، إذا ما عكس فيه ضرورات المرحلة وتكثيف الصراع. والمادة الحالية هي استكمال للمادة السابقة، وتوضيح لها من خلال بعض الأمثلة.

عن الشروط التاريخية للمبادرة الذاتية

مجدداً، إن ارتفاع وزن الحدث الموضوعي نابع من الترابط والتعقيد الشديد في بنية النظام العالمي، وعملاً بتناسب البنية الفوقية والتحتية، فإن ترابطاً وتعقيداً لا بد حاصل على مستوى البنية الفوقية. ولهذا مثلاً، إن خصوصية حدث سياسي ما قد تجعله حجر الزاوية على المستوى السياسي عالمياً (ولاحقاً على مستويات اقتصادية- اجتماعية) نتيجة ما يمثله من تلاقي مختلف جوانب الصراع العالمي (كطوفان الأقصى مثالاً)، فإنه من المجدي البحث في ماهية الحدث «الذاتي» المرتبط بتغيير مجمل البنية الفوقية عن وعي، وبالتالي الانطلاق إلى تغيير البنية التحتية. من جديد، لا يعني الكلام عن «الحدث الذاتي» أنه ليس موضوعياً، بل في كونه يمثل الجانب الذاتي من الواقع الموضوعي، أي جانبه الفاعل الواعي. وقلنا في المادة السابقة: إن هناك شروطاً تاريخية تجعل من بحث الأزمة الحضارية- وتقديم نقيض حضاري على مستوى العقل والممارسة- حدثاً يحمل الوزن الكبير القادر على تغيير كل البنية الفوقية للنظام الرأسمالي في مرحلة أزمته، أو بالأحرى للرأسمالية التي تتحول إلى بربرية كنسخة لـ « ما بعد المجتمع». وهذا ليس خروجاً عن القول «إما الاشتراكية أو البربرية-الفناء». وهذا أيضاً ليس خروجاً عن مشروع الماركسية (والعديد من التيارات الإنسانية) حول مجتمع تحرير وتحقيق طاقات الانسان الفاعل دائم التطور، وتغيير علاقته بالطبيعة وبنفسه وبالآخرين، عبر التوحيد والتكامل لا عبر التغريب والتفتيت. وهذا يأخذنا إلى نقاش يجب أن يفتح لاحقاً، حول مقولة «الإنسان الكلي» الذي تكلّم عنه ماركس بشكل عابر في عدة أماكن، أي الإنسان غير المنقسم على ذاته، نتيجة انحصاره في نشاط محدود ضيق معزول، وماذا تعنيه هذه المقولة اليوم وتحديداً في لحظة البربرية، التي هي إلغاء الإنسان. فالوقوف على مفترق طرق إلغاء الإنسان (الفاعل والعاقل) وتفتيته، يحمل ضمنياً القول باحتمال النقيض، أي الإنسان الكلي الذي هو النتيجة «الطبيعية» للتوليف بين مستويات الواقع من أجل الارتقاء إلى وجود أعلى. وإذا ما كنا اليوم أمام توليف الوجود العقلاني للبشرية في علاقتها مع الطبيعة ومع ذاتها، فنحن ولا شك أمام توليف لكل «العقل» التاريخي للبشرية، وتوحيد أشكاله السابقة كلّها، الذي هو استعادة للإنسان الأول، ولكن بشكل أرقى. أي نفي (لا طبقي، وتوحيد للإنسان) للنّفي السابق (المتمثل بالمجتمع الطبقي وتقسيم الإنسان).
والشروط الأخرى لارتفاع وزن هذه المبادرة، هي أن التفلت من شروط الاغتراب، مع الاتكاء على بنية فلسفية نظرية ممارسية قادرة على تجاوز هذه الشروط، لهي من الصعوبة في ظروف حياة العالم الراهن، الذي عاش عقوداً من ضرب الممارسة السياسية والفردانية المفرطة، والابتعاد عن التراث النظري الكلاسيكي الثوري. هذه الصعوبة تجعل من هذه المبادرة، وهذا الحدث (تشكيل جبهة حضارية تطرح برنامجاً للدفاع عن الحياة وبناء القاعدة المادية لنمط حضاري بديل يجيب عن الأسئلة المدمرة للنمط الحضاري المأزوم الحالي) حالة نادرة تاريخية اليوم، لكونها ترد القضية إلى جذرها في مرحلة وصل فيها تطور الظاهرة إلى حدودها التاريخية، ما يجعل أصلها مطروحاً على طاولة البحث. إذاً، هذه المبادرة هي تكثيف للمرحلة، تفتح طريق التوتر الحاصل وفي كونها مخرجاً من التكبّل في إحداثيات أرض العدو (ونمطه الحضاري). في هذه المبادرة يتمثل تجاوز الثّنائيات القاتلة والتفتيتية، مما يجعله تكثيف القوى الحية الكامنة وحشدها وتطويرها ممكناً في ظل واقع التجفيف، والدفع باتجاه وجودٍ رثٍّ للإنسان. والواقع العالمي الواحد يتطلّب مبادرة عالمية. وفي كون هذه المبادرة لها من الوزن الكبير، يتمثل في كونها تعبّر عن ذروة الأسئلة الخاصة بوجود الإنسان اليوم، وعن المعاناة في كل مستويات الوجود، بدءاً من النشاط اليومي، ووصولاً إلى التفكير بمعنى الوجود نفسه، أي تتصدى لكل تركة مرحلة الليبرالية وأزمتها.

أمثلة من وحي الطوفان

من جديد، يمكن النظر إلى سياق الطوفان كميدان اختبار لهكذا فرضيات. فنحن لم نشهد فقط دور شخص ما، أو بضعة اشخاص، في تحويل الفضاء الإعلامي والرأي العام عالمياً (أقله لدى القوى الحية المتابعة، والتي هي محط اهتمام تحشيد أي جبهة مقبلة)، بل شهدنا أيضاً الاستعداد المرتفع للتوحد حول قضية واحدة قالت عنها بعض الآراء في الغرب: إنها تمدنا بالمعنى، وهي بالتحديد كلمات الشهيد باسل الأعرج، في كون فلسطين تمدّه بالمعنى. والطوفان أعطاها فرصة لكي تمد العالم بالمعنى، وتحرر «الغرب» كما عبرت آراء أخرى. فما بالنا أن يتشكل حدث جامع، ليس فقط بالمعنى الانساني السياسي المباشر للظاهرة (فلسطين مثالاً) بل بالمعنى الحضاري الواسع للوجود البشري، في ظل أزمة الحضارة المهيمنةَ، وعن مدى كونه مصدراً واعياً للمعنى، مُشَكّلاً وخالقاً لهذا المعنى!
فالتركيز الشديد لمستويات البنية الاجتماعية يسمح لحدث يعبّر عن التناقضات المركزية لهذه البنية، ويطرح توليفاً لها، يسمح له بأن يحوّل المشهد كله. ولهذا، لا يجب التقليل من أهمية الفعل الذاتي الذي يتطلب هذا المستوى من المبادرة التاريخية. ومجدداً، إن العمل في واقع عالمي شديد التسارع والترابط يجعل من نكران ضرورة الإطلالة الأممية، أممية القرن الحادي والعشرين، يجعله مقتلاً للعملية الثورية، إذا لم يكن تأخيراً شديداً في تطورها، أليس لينين من قال: إن التاريخ يحتاج أحياناً إلى دفعة! كيف لا وهو الذي صمم واحدة من أهم الدفعات.

ملاحظة ختامية

لقد طرح النفساني السوفييتي فيغوتسكي مقولة «منطقة التطور الاحتمالي» ويقصد فيها أن وعي الطفل- الفرد يملك إمكانيات تطور كامنة، ولكن تحتاج إلى مساعدة خارجية لكي تتحقق كميل تطوري. ولاحقاً طوّر بعض البحاثة المقولة لكي تطال مجموعات أفراداً قليلين، لا فرداً واحداً. وبعض البحاثة طبقها في دراسة الأنظمة التطورية، وكأداة منهجية في علم التطوّر. أما اليوم، يمكن الكلام عن «منطقة التطور الاحتمالي» للبشرية ككل، نتيجة الترابط والتعقيد والتشابه في نمط الحياة، والتناقضات، وبالتالي تركيز ووحدة احتمالات التطور. كخلاصة عامّة، إن التعقيد والترابط يركّز مداخل الانتقال إلى مستوى تطور أعلى في عُقدٍ محددة من البنية الاجتماعية. هذه العُقد تعبّر عن جذور التناقض في البنية القائمة، وقادرة على توليف هذه المتناقضات الأساسية. وكأن كل المسارات تلتقي عند نقطة تقاطع، هي عقدة مواصلات يجب فتحها وحلّها حتى يستكمل السير التاريخي طريقه. من هنا ضرورة ووزن المبادرة الذاتية على المستوى العالمي، التي يجب أن تبدأ من مكان ما. فالعناصر الذاتية الأوليّة لهذه المبادرة ليست بالكثيرة، ولكن وزنها «الممكن» (الاحتمالي) كبير وينبع من وزنها الكامن- الاحتمالي في المرحلة نفسها، والذي يكشف عن نفسه من خلال أحداث محددة (كطوفان الأقصى حالياً). ولهذا، يجب أن يظهر ويتشكل الطرف (في نظرية فيغوتسكي بما خص الطفل قد يكون الأستاذ، المجتمع، مجموعة الرفاق) القادر على تحويل «منطقة التطور الاحتمالي» إلى تطور محقّق. وأساساً، لماذا نشذّ اليوم عن مفهوم الأمميات التي ظهرت في التاريخ كضرورة موضوعية لتنظيم وتطوير الحركة، على الرغم من تغيّر وتعمّق شكل ومضمون الأممية اليوم، كجبهة دفاع عن الحياة التي قال بها تولياتي يوماً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1149
آخر تعديل على الثلاثاء, 21 تشرين2/نوفمبر 2023 22:05