عالمنا رأسمالي واشتراكي في آن ضد الميكانيكية

عالمنا رأسمالي واشتراكي في آن ضد الميكانيكية

في السنوات الماضية، ومنذ انفجار الأزمة الرأسمالية تحديداً، بدأ تصاعد النقاش حول الاشتراكية، وتحديداً عنوان «عودة الاشتراكية». ولكن، في طيّات هذا العنوان (كما هو) نظرة ميكانيكية للتاريخ، تُطَهّر التاريخ من ظواهره وكأن شيئاً ظهر واختفى بالمطلق. ووقع في فخ «نظرة الصفاء المثالي» للتاريخ تلك حتى «أهل الاشتراكية» أنفسهم. ولأننا في قلب تعريف الانتقال العالمي، وطبيعته، لا بد مجدداً من إفراد مساحة خاصة لهذا النقاش.

الاختراق الجذري و«تركة» الاشتراكية

قامت الموجة الثورية الأولى في القرن الماضي على إثر القطع الحاصل في ثورة أكتوبر البلشفية. ففتح طريق التطوّر «المستقل» وحرمان الإمبريالية من مساحة توسّع كبرى، حرّر طاقة تاريخية نقيضة للإمبريالية، ولاحقاً أمّن وحمى قاعدة توسّعها عالمياً ضمن الكتلة الاشتراكية ومركزية الاتحاد السوفياتي، وحركات التحرر وتجارب «الاستقلال الوطني» لدول الأطراف. وفرض على المركز الإمبريالي ما يسمّى بالرشوة التاريخية. وكل التطور في البنية التحتية والفوقية عالمياً، تم بفعل تلك الموجة الثورية، وفي قلبها وزن الاشتراكية في العالم. فكل ما ظهر على مسرح التاريخ من أجهزة دولة وتنظيمات اجتماعية سياسية وأحزاب ونقابات وحركات فكرية وثقافية ونمط حياة (سُميّ بالليبرالي)، وبشكل عام، كل التنظيم الاجتماعي-السياسي (الذي نظّر حوله غرامشي وحول كيفية تحوله مع كل تطور في الصراع) ومستوياته الروحية والثقافية والنفسية، والتقسيم العالمي الجديد للعمل، كل ذلك امتداد لتلك الطاقة التاريخية التي حررتها الاشتراكية، بمعزل عن المدى الذي وصلته الاشتراكية ومدى الجذرية في كل دولة على حدة.
على هذا الأساس، فإن هذه «التركة» العالميّة للاشتراكية ليست محصورة «بسلطة» ضمن دولة ما، أو «أيديولوجيا رسمية» لدولة أخرى. إن تركة الاشتراكية صارت هي العالم الذي نعرفه اليوم، فالنقيض الذي ظهر على مسرح التاريخ، أي الاشتراكية، غيّر من نقيضه (الرأسمالية) في الصراع الجدلي بينهما. إذاً، بالضد من النظرة الميكانيكية للتاريخ والعالم، فإن النظرة الجدلية تفرض فهم تطور الظواهر في صيرورتها من خلال تحوّل التناقضات في تفاعلها الصراعي، لا في عزلة تلك التناقضات عن بعضها البعض.

الصراع اشتراكية- رأسمالية

إن الافتراض أعلاه، يسمح بالقول بأن العالم اليوم هو «اشتراكي» بقدر ما هو رأسمالي. اشتراكي بمعنى حضور تلك الحركة التاريخية النقيضة ضمن كل التنظيم العالمي على كل المستويات. وتوضيحاً لهذا الافتراض يمكن القول، وإن بدا هذا التوضيح اختزالياً، بأنه وإن تراجع وزن الاشتراكية في البنية التحتية (علاقات الإنتاج تحديداً، فقوى الإنتاج بقيت محافظة على تطورها في مستويات أكبر، وتحديداً الإنسان والصناعة والتكنولوجيا ومنها العسكرية)، فإن البنية الفوقية بشكل خاص ما زالت تحمل أغلب وزن التركة الاشتراكية، والزخم في تطور بعض التجارب التاريخية- لا بل ان استعادة هذا الزخم- لا يزال يحصل بفعل هذا الوزن وتركته. وبشكل أدق، إن حضور تلك الحركة التاريخية التي حركتها الاشتراكية ما زالت متجسدة بفعل التحوّل الذي فرضته على التنظيم الإمبريالي العالمي للكوكب في المركز كما في الأطراف. وتعميماً لهذا الافتراض، وكخلاصة تاريخية، وتجريداً للمادة التاريخية التي بين يدينا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى اليوم، يمكن لنا الاستنتاج بأن الصّراع في العقود الماضية، وبشكل خاص، بعد انفجار الأزمة الرأسمالية هو في إلغاء مفاعيل «الاشتراكية» في صراع مع تركتها. فالحرب على أجهزة الدولة، وعلى العقلانية، وعلى التنظيمات الاجتماعية كلّها، وعلى الثقافة المنتجة والفعالية الفردية والاجتماعية (كنوع من تدمير قوى الإنتاج)، وكل ما أنتجته المنظومة الإمبريالية من عناصر ثقافية وسياسية (لنأخذ مثلاً التنظيمات غير الحكومية بشكل خاص) ما هي إلا عناصر صراع مع التركة الاشتراكية.
وإذا ما أردنا أن نطور هذا الاستنتاج، فإن أي تطوير للصراع الحاصل، لا يمكن أن يحصل دون دعم «التركة» بقاعدتها المادية أي علاقات الإنتاج الاشتراكية بشكل خاص مع تعميقها إلى مدى أبعد بكثير مما وصلته في القرن الماضي (وما حافظ على نفسه نسبياً خلال عقود التراجع). فالتركة لا يمكن أن تصمد دون الحركة التاريخية النقيضة التي كانت سبباً في ظهورها على مسرح التاريخ، أي الاشتراكية. أليس «الفكر السببي» نقيضاً للميكانيكية الشكلية. فهذه السببيّة متى انتفت، انتفت القدرة على فهم «الجذور»، ومعها تنتفي الجذرية. وفي محاولة الرأسمالية إلغاء مفاعيل الاشتراكية و»تطهير» العالم منها، فهي تلغي نفسها بالضرورة، وهذا هو أساس الافتراض بأن النسخة التي تعمل عليها النخبة التي تحاول تثبيت هيمنتها هي «ما بعد رأسمالية» فعلاً، نحو «ما بعد المجتمع» الذي هو نفسه تركة تلك «الاشتراكية» في صيغته كمجتمع والتي نعيشها اليوم.

خلاصة أوليّة

إن ما سبق يسمح بالاستنتاج بأن الصّراع العالمي اليوم واحتمالات تطوّره الكامنة-الضرورية، حتى وإن لم تعِ القوى المنخرطة فيه ذلك، في كونها صراعاً بين الاشتراكية والرأسمالية، لا في الشكل الميكانيكي الصافي الذي يتصوّره البعض، بل في جوهر حركته الداخلي. وبالتالي فإنّ تطوير الصراع في وجه مشروع النخبة التي تحاول تثبيت هيمنتها (وحماية البشرية والمجتمع حكماً)، وتثبيت عناصر التركة التي يجري الهجوم عليها بغاية تدميرها، يتطلّب رفع وزن الاشتراكية في الصراع بعيداً عن المقولات حول «عالم متعدد» وما شابه، بمعزل عن الكلام حول طبيعة هذا العالم كنمط إنتاج. ولا نقول شيئاً جديداً هنا، فأي ماركسي أو اشتراكي مادي تاريخي، يتذكر معادلة لينين «لا وجود لنظام ثالث، إمام اشتراكية أو رأسمالية».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1157