الشروط التاريخية لتركّز التوليف ووزن العامل الذاتي (1من2)

الشروط التاريخية لتركّز التوليف ووزن العامل الذاتي (1من2)

كل فعل هادف وواع بهدفه يستبقه ويتخلّله تصوّر وتقييم للواقع الذي ستتحق فيه عملية تحقيق الهدف. وفي الأهداف التاريخية الكبرى، كالثورات، تكون عملية التقييم تلك عالية الدقة. مثلاً، في خطأ حسابات الفاعلين في كومونة باريس، حسب ماركس، إنهم لم يهجموا كفاية. أما في حسابات لينين عن الثورة في روسيا فكانت شديدة الدقة وتحديداً حسابه للحلقة الأضعف في النظام العالمي، وكذلك حسابه للصلح مع ألمانيا وفي توقيت القبض على السلطة. فما بالنا اليوم؟ كيف هو هذا الحساب، في مرحلة عالية الترابط وشديدة التعقيد. وهنا نقاش لجانب واحد هو عامل اختراق جدار التوازن وتوليف المتناقضات.

التناسب بين الذاتي والموضوعي

حازت الانتقالات التاريخية على الكثير من التحليل لظروفها وشروطها والقوى الفاعلة ولكن الأهم للتقييم الواعي الذي عبرت عنه تلك القوى نفسها عن هذه الشروط والظروف وعن موقفها من نفسها، قبل وخلال الانخراط بالفعل التاريخي. وليست المرحلة الحالية بمختلفة. وما يحتمل التوسع في نقاشه في هذه المرحلة، ولكونها عالية التعقيد وشديدة الترابط، هو فرضية أنه ليس فقط أن كل حدث «موضوعي» له من الوزن الكبير في عملية التحول التاريخي (كما يجري النقاش مثلاً حول طوفان الأقصى)، ولكن أيضاً إن كل فعل «ذاتي» له ذلك الوزن في عملية التحول. وهذا التناسب هو تناسب الذاتي والموضوعي، والتناسب بين البنية الفوقية والبنية التحتية على اعتبار أن الذاتي هو جانب من الوجود الموضوعي، وتحديداً جانبه الفاعل. إن نقاش هذا التناسب ضروري لتقدير وزن المبادرة الذاتية التي مهما قل «حجمها» الكمّي فهي تعبّر عن وزن تأثيري وفعالية مرتفعين، وهذا حصراً إن كانت تلك المبادرة فعلاً تعبّر عن الحركة الموضوعية وتعكس حاجاتها. وهذا له أهمية في تقدير دور خطوة إطلاق مبادرة مرتبطة بالنقاش حول قضية الانتقال الحضاري بمعناه الواسع، وما تمثله من التعبير عن الكامن في هذه المرحلة، وتحشيد القوى الحية حوله، وتحقيق اختراق في التوازن القائم لصالح تطوير الهجوم وفتح طريق هذا الهجوم، وبالتحديد الخروج من إحداثيات النظام القائم، وفي جوهرها قاعدة نمط الحياة الاستهلاكي والإنتاج البضاعي وكل ما هو مرتبط بها على مستوى تنظيم المجتمع والبنية الفوقية، فالانحكام لهذه الإحداثيات يخنق دور الفعالية الذاتية ويحدّها في حدود هذه الإحداثيات. يجب التحرر من أرض معركة العدو ونقله إلى أرض معركة ليست أرضه، وعليها يمكن هزيمته التاريخية عبر استخدام أسلحة لا يملك قدرة الردع في وجهها.

حول الشروط التاريخية لهذا الوزن

إن ارتفاع الوزن الذاتي نابع من شروط تاريخية مختلفة، إضافة إلى شرط الترابط والتعقيد. ومن أوّل هذه الشروط هو طبيعة العلاقة بين الوعي والواقع والتي تطورت على مدى العقود السابقة من الليبرالية. وتحديداً العلاقة الاغترابية. فتفلّت الوعي من هذه العلاقة الاغترابية محكوم بشروط اجتماعية-اقتصادية-سياسية معقدة تسمح للوعي بأن يقدر على وعي ذاته، ولكن وفي ذات الوقت أن يربط أزمته بطبيعة النظام القائم، وهذا يحتاج إذاً إلى عناصر أيديولوجية وفكرية وسياسية محددة أمام هذا الوعي. وفي مواد سابقة كنا قد أشرنا إلى قضية اغتراب النخب نفسها في خضوعها (النسبي) نفسها لهذا الاغتراب، ما يؤدي إلى انفصال مصادر الوعي النظري الثوري عن القوى التي تحتاجها. وبسبب عدم سهولة توفر هذه الشروط التاريخية «المثالية» التي تتطلّب صدفاً أقل احتمالية على الحدوث، فإن حدوث هكذا صدفة، أي أن يعي الوعي أزمة اغترابه، وترجمتها إلى موقف سياسي، له معنى تاريخي عظيم نابع من معناه السياسي المرتبط بتطوير الهجوم نفسه. فإن تركيز كل أزمة العقل الإنساني اليوم وأزمة الحضارية المهيمنة مع كل إحداثياتها، كل تركيز هذه الأزمة يتمثّل بهذا الوجود المتشيّئ، الذي هو مكافئ للإنتاج البضاعي والنمط الاستهلاكي من الحياة. وبالتالي فإن البرنامج القادر على طرح تجاوز هذا النمط الحضاري المأزوم له وزن عظيم نتيجة قدرته على تجاوز إحداثيات الهجوم الحاصل عالمياً اليوم لكونه محكوماً بقاعدة الاستهلاك والإنتاج البضاعي. فهذه القاعدة هي قاعدة التدمير ومصدر احتياطي القوات في يد العالم القديم، وهي أرض معركته. وفي استعراضة سريعة للفضاء العالمي المرتبط بالصراع الفكري والأيديولوجي اليوم، قد نجد موادَّ قليلة مكتوبة حول هذا النقاش، ولكن والأقل هو مدى وزنها في النقاش القائم، منها ضرورة البحث عن حاملي هذا الموقف في أي خطوة عملية سياسية محتملة لتشكيل نواة وعقل «الجبهة الحضارية» المشار إليها. وما يكمّل هذا الشرط التاريخي هو الاستعداد المرتفع لدى قوى اجتماعية كبيرة جداً تعيش توتراً بين وجودها المغترب وبين نقيضه، ولكن دون أن يتبلور هذا التوتر إلى موقف سياسي واعٍ. وهذا كان قد أشير إليه في الكثير من المواد. أي إن الوزن نابع من حجم الكامن في هذه المرحلة. فأن تكون الحياة الروحية والمادية في حالة دفاع عن نفسها في وجه التدمير الحضاري يعني أن الكامن كبير جداً ويظهر اليوم بأشكال مختلفة غير صريحة الهوية وربما غير مكتملة الموقف (الدفاع عن العائلة، وعن التراث، والدفاع عن الفعالية الفردية ضد العدمية، الاستعداد العالي للمبادرة الفردية-في الغرب تحديداً- ربطاً بقضايا كبرى والبحث عن المعنى فيها، إلخ). والشرط التاريخي الثاني الذي هو تعبير عن أحد أهم ملامح المرحلة الراهنة هو أن القضايا اليوم كلها تردّ إلى جذرها، انطلاقاً من كون التناقض وصل حدّه التاريخي ويتحقق فعلاً التوصيف النظري بأن علاقات الإنتاج صارت مدمرة لقوى الإنتاج، وفعلاً كون الرأسمالية اليوم تدمّر مصدري ثروتها، الإنسان والطبيعة. هذا التوصيف النظري صار اليوم حقيقة واضحة وليس فقط ميلاً تاريخياً عامّاً. وكون الظواهر كلها ترد إلى جذرها، فإن التعبير عن هذا الجذر بشكل واعٍ هو من شروط الممارسة «الجذرية» اليوم. والشرط الثالث الذي يعطي وزناً كبيراً لمبادرات من خارج إحداثيات القائم هو الانقسام الثنائي الذي يطبع الصراع عالمياً، أو بالأحرى تحويله إلى انقسام ثنائيات تدميرية، أو هي إرباك للهجوم الحاصل على العالم القديم. فاستعادة الحرب الأيديولوجية في وجه الشيوعية اليوم، وربط الموقف من روسيا الحالية بالإرث المعادي للشيوعية، مضافاً إليه شعارات «الدكتاتوريات»، وتحويل المعركة ضد روسيا والصين على هذا الأساس، وحتى ضمن روسيا والصين نفسهما، تعبيراً عن ضرورة تجاوز إحداثيات مرحلة «الأزمة» في التجربة الاشتراكية نفسها، التي على بعضها يتكئ هذا الهجوم المعادي للشيوعية. فما لم تقله التجربة الاشتراكية بالشكل الكافي يجب أن يقال اليوم، وتحديداً استكمال إعادة الفرد إلى هذا المشروع، وما تجاوز الوجود الاغترابي إلا تعبير عن أزمة الفرد وشكل وجوده المستقبلي الضروري لبقائه كإنسان عاقل وفاعل. فما فشلت وعجزت عنه الليبرالية والذي هو اليوم أحد أسس أزمة النمط الحضاري المهيمن، أي تحقيق ذات الفرد، يجب أن يصير أحد أسس المشروع الحضاري النقيض. هذا أحد أدوات تعطيل سلاح «معاداة الاشتراكية والشيوعية». هذه بعض الشروط التاريخية لارتفاع وزن العامل الذاتي، وتحديداً مبادرة نقل المعركة إلى إحداثيات وأرض جديدة، فعبرها يمكن تحصين التوازن الحالي، وتشكيل توازن أقوى، قادر على اختراق العالم الغربي من داخله (وتحديداً عبر القوى الاجتماعية في دوله بالتحديد)، وتعطيل ثنائياته القاتلة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1148