مهام المرحلة تردّنا إلى الجذور.. التنبؤ وعلاقة الفكر بالواقع

مهام المرحلة تردّنا إلى الجذور.. التنبؤ وعلاقة الفكر بالواقع

لقد برز موقف لدى الكثير من المحللين «الأقل تطبيلاً والأكثر موضوعية» في سياق طوفان الأقصى والصراع في فلسطين والمنطقة عن عدم اتضاح مسار الأمور وبالتالي عن صعوبة الحسم حولها والتنبؤ بها. وبرر البعض منهم هذا كون القوى الفاعلة في الصراع هي نفسها «غير متأكدة وغير حاسمة ومترددة ومحتارة» فيما ستقوم به. وهذا لا يعني بالتحديد صعوبة التنبؤ بالخط العام، بل بالخط الخاص بأحداث محددة. فما هي الأسباب المحتملة لصعوبة عدم التنبؤ تلك؟

مجدداً، عن النقاط المنهجية

تتسم المرحلة الراهنة بحدة التّسارع بسبب من حدة التناقضات فيها، وشدة الترابط بين الظواهر إلى درجة اندماجها، وبالتالي اندماج التناقضات الخاصة بها، مع ظهور جوهر الظاهرة (الرأسمالية والتاريخ الطبقي ككل) إلى العلن واتضاحه «للعين العادية»، واقتراب الواقع الملموس من المستوى المنطقي-الفلسفي للظاهرة التاريخية. إضافة إلى ذلك هناك خاصية المرحلة الراهنة بكونها انتقالاً إلى نظام اقتصادي-اجتماعي يختلف نوعياً، وبكونها نقيضاً للنظام الطبقي الذي ساد خلال قرون، خلال الرأسمالية وما قبلها من تشكيلات. وبالتالي فإن هذه الخاصية تفرض شرطاً تاريخياً نوعياً يفرض علاقة خاصة بين الذاتي والموضوعي. وهذه الخاصية في تفاعلها الجدلي مع التسارع تخلق الظرف التاريخي «لصعوبة التنبؤ» المذكورة. وإذا كانت حاجة الانتقال تلك تتضح شيئاً فشيئاً، إلا أن طبيعة الانتقال ما زالت غير واضحة للوعي العام، فما بالنا بالقضايا الأقل عمومية والتي ترتبط بقضايا سياسية إقليمية أو علمية أو أخلاقية-قيمية-نفسية تستند في الحسم فيها على الخط العام نفسه انطلاقاً من الترابط والاندماج بين المستويات والظواهر، وهنا بشكل خاص بين الخاص والعام.

في التناقض واحتمالاته

إن اشتداد حدة التناقضات لدرجة نقطة حلّها، أي نقطة القطع (وإلا فانفجار الظاهرة وتفككها على نفسها، وفي حالتنا المجتمع البشري)، بالإضافة إلى اندماجها، يفترض أننا في مرحلة صار ضرورياً تحويل منطق هذا الحلّ والتوليف من مستواه الكامن الموضوعي إلى مستواه الفاعل-الذاتي. والمسافة بينهما هي التي تخلف هذه المساحة من عدم اليقين. فالظاهرة وفي مرحلة تعطّل حركة النظام السابقة في عدم قدرته على إنتاج نفسه وإنتاج المجتمع معه (القديم الذي يموت) وعدم تشكل وتبلور الحركة النقيضة الضرورية (ولادة الجديد) التي توازي ما تعطّل (كنظام عالمي وحالة حضارية بكاملها)، ينشأ وضع من «الفوضى» نتيجة تفكك الروابط والعلاقات ومعها يتفكك المنطق المجرد الذي يعبّر عنها، فمنطق العقل الذي هو قاعدة التنبؤ هو انعكاس مجرد للعلاقات التاريخية على حد تعبير إنجلز. وبمجرد تعطل هذه العلاقات وتفككها، تنعكس انهياراً لمنطقها المحكم. ولكن هذا التفكّك ليس إلا جانباً من الظاهرة، فالجانب الآخر النقيض (التجميعي التوحيدي للواقع) هو تحويل خط التطور الكامن وعلاقاته إلى واقع محقق. وهنا ننتقل بالضرورة إلى العلاقة بين الذاتي والموضوعي.

التوتر والمسافة بين الذاتي والموضوعي

في هذه النقطة بالذات تظهر لنا نقطة منهجية كلاسيكية في الماركسية هي العلاقة بين التفسير والفعل (التغيير)، والتي هي علاقة الفكر بالواقع، وقدرة هذا الفكر على القبض على الواقع من خلال الفعل فيه، لا من موقع المتفرج عليه. هذه مسألة مركزية و»كلاسيكية» في الماركسية. وهذا يردنا إلى نقطة أشرنا إليها سابقاً ألا وهي طبيعة الانتقال (الواقع الموضوعي)، وربطاً بذلك طبيعة القوى (العنصر الذاتي) على الساحة التاريخية، والتوتر بينهما. وإذا ما أقررنا بأن الانتقال يتطلب تحويلاً حضارياً لكل إحداثيات المجتمع الطبقي من جهة، والرد على تناقضات الرأسمالية من جهة أخرى وما خلفته مرحلة النيوليبرالية بشكل خاص من نتائج مادية (طبيعية، جسدية) وروحية-ثقافية، فإن النظرة على ما هو مطروح على الساحة من برامج (علنية صريحة) ومن قوى، يظهر الفرق الكبير بين الواقع الموضوعي والذاتي(الفاعل).
فما هو مطروح في أحسن الأحوال هو شعار «عالم متعدد الأقطاب»، أو عالم «متكافئ وعادل ومتساوٍ بين القوى». وهذه النظرة-الموقف حول الخط العام ينسحب على كيفية حل القضايا الخاصة بالضرورة السياسية أو الصحية أو العقلية-النفسية أو البيئية. وهكذا نرى مثلا، لما تضيق المسافة بين القدرة على الفعل (أو أقله برنامج الفعل) وبين الواقع (والكامن فيه من خط تطور محتمل) كلما ارتفع مستوى التنبؤ. ولهذا مثلاً، فإن القدرة على التنبؤ بالخط العام هي أقل بوجود هذه المسافة بين الذاتي (الفاعل) وبين الموضوعي. ولكنها ترتفع في بعض المستويات التي يمكن فيها التدخل في الواقع وتسييره حسب منطقه الداخلي. وهي حكماً أقل فيما يخص القضايا الخاصة.

ربط المنطلقات المنهجية بعضها ببعض

إذا ما اعتبرنا أن المسافة بين الذاتي (القدرة على الفعل والفعل نفسه) وبين الموضوعي هي النقطة المركزية في رفع مستوى التنبؤ، فيجب علينا ربطها بالمنطلقات المنهجية الباقية. أولاً، إنها ترتبط بكون دور الذاتي اليوم مرتفعاً لدرجة كبيرة نتيجة طبيعة الانتقال نفسه، والتي تحتاج إلى مستوى تجريد مرتفع في كونها انتقالاً نوعياً. ثانياً، هناك نقطة التعقيد الشديد والترابط الكبير بين الظواهر، وهو ما يجعل القدرة على التنبؤ تستند إلى التنبؤ بمختلف الظواهر بشكل متزامن حتى يتضح الخط التنبؤي العام. وثالثاً، هناك التطور غير المتكافئ للقوى الذاتية وقدرتها على الفعل عالمياً، وهذا ما يجعل الترابط الموضوعي والشديد غير متناسب مع تلك القدرة على الفعل، فعالمية الظاهرة لا تتناسب مع عالمية القدرة على الفعل. ورابعاً، هناك أزمة الطرف المتراجع، الذي يموت، في كونه متعطلاً عن الفعل في كونه فقد أفقه التاريخي ومبرر وجوده، على عكس المراحل السابقة التي كان يمكن له فيها أن يناور ضمن قواعد النظام الرأسمالي نفسها. هذا التعطل عن الفعل من قبل الطرف المتراجع، وعدم التناسب في القدرة على الفعل لدى القوى الباقية التي من مصلحتها التغيير، يخلق أرضية موضوعية لعدم التنبؤ هذا، ربطاً بنقطة أخرى هي التسارع الشديد والتفكك بين علاقات الواقع وظواهره.

خلاصة أولية

لا نقول إن هذا هو الشرط الوحيد الذي يجعل من التنبؤ صعباً، بل هو أساسه المعرفي من موقع علاقة الوعي بالواقع في الفكر المادي الجدلي، ومن موقع حركة الواقع وظواهره (كاقتصاد-سياسي) وما طرأ عليها من تحول اليوم، من موقع المادية-التاريخية. وللتكثيف يمكن القول مجدداً إنه كلما ارتفعت القدرة على الفعل، وكلما ارتفع وزن الفعل نفسه، كلما ارتفعت القدرة على التنبؤ. والمعنى السياسي لهذه الخلاصة هو، أولاً، ضرورة رفع القدرة على الفعل-التدخّل في الواقع بما يوازي الخط العام الضروري الكامن في الواقع وما يتضمنه من تطور مستقبلي، وهنا بالتحديد الانتقال النوعي التاريخي إلى حالة حضارية جديدة. وثانياً، هو يتطلب ترابطاً أعلى بين القوى التي عليها أن ترفع مستوى تدخلها بما يتناسب مع الخط التاريخي الضروري، ففعلها معزولةً هو في تناقض مع هذا الخط العام بالتحديد في كون الانتقال والظاهرة عالمية الطابع. وإذا ما أردنا أن نضيف نقطة منهجية جديدة، فإن الواقع اليوم يفرض علينا حتى أن نرى علاقة الفكر بالواقع التي قال بها الفكر المادي-الجدلي بشكلها الصافي. فحتى نستطيع أن نفكر (والتنبؤ هو أحد أهداف الفكر) علينا أن نفعل في الواقع. فلا يمكن للفكر أن يقبض على الواقع دون الفعل فيه من موقع تغييره.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1154