ولادة العقل الواحد وانتقال البشرية الحضاري

ولادة العقل الواحد وانتقال البشرية الحضاري

ليست المرحلة بعادية، وما تحمله من مضامين تاريخية ستكشف عن نفسها شيئاً فشيئاً، وبالنسبة للبعض من أصحاب العقل اللا تاريخيّ هي «استمراريّة تكرارية»، وللبعض الآخر من أصحاب العقل الفاعل هي «جديدة» ولكن ضمن حدود (هي حدود موقعه المحدود التجريبي)، أما بالنسبة لأصحاب العقل التحويلي الجذري الشامل فهي نوعية ضمن التاريخ البشري كلّه. في هذه المادة سنعالج قضية «تشامل» المرحلة ودلالتها التاريخية والسياسية-البرنامجية.

عن الترابط والوحدة

كان العالم ومنذ أن بسطت الرأسمالية هيمنتها على العالم، وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، يترابط في وحدة تزداد مع اشتداد الهيمنة. ومن البدهي أن هذه الوحدة طُبِعَت بالتركز الشديد للثروة لصالح النخبة المالية الفاشية الغربية، وهو ما أنتج التفارق الشديد بين غالبية شعوب العالم، وما تمثله هذه النخبة من بنية مصالح، ومعها حاشيتها من نخب وقوى «شعبية» (والتي كانت تضيق شيئاً فشيئاً مع اشتداد الأزمة الإمبريالية). ولكن «لا إنسانية» هذه الوحدة في النظام العالمي، أرست نتائج تشكل قاعدة للتحوّل التاريخي للبشرية نحو وحدة إنسانية. وهذا الترابط الشديد يتمثّل بالوحدة في الإنتاج عالمياً «والتكامل» الناتج عن التقسيم العالمي للعمل، وما يعنيه ذلك من ترابط غذائي وصحي (لنأخذ مثال الوباء الأخير) ومالي-اقتصادي وتكنولوجي-علمي وبشري (قوى الإنتاج بشكل عام) وعلاقات الإنتاج عالمية الطابع. وهذا ترافق بالضرورة مع ترابط شديد على مستوى البنية الفوقية السياسية والمعنوية-الروحية والقيمية ( محمولاً على المنصة الإعلامية-المعلوماتية شديدة التزامن والسرعة والتغطية الآنية لوسائل التواصل والدعاية)، إلخ. هذا الترابط وتلك الوحدة كما هي محققة اليوم ترجما عملياً المقولة النظرية حول وحدة العالم التي تدفع باتجاهها الرأسمالية، والتي قال بها كلاسيكيو الماركسية، وتجاوزت بأشواط ما تم التنظير له من قبل منظري التحويل الثوري خلال القرن الماضي حول «المصلحة المشتركة للبشرية». فما نحن أمامه اليوم هو تلاحم جرى الكلام عنه مؤخراً في قضايا «سياسية» حول دور الصراعات العسكرية-السياسية وكيف أن حدثاً ما (كطوفان الأقصى مثلاً، أو قبله الحرب في أوكرانيا) له دور نوعي في التأثير العالمي. على مستوى الوعي، وصل هذا التركز من الشدة في كون مقابلة ما (على أي وسيلة إعلامية) حول قضية مركزية قد تحوّل الرأي العالمي ككل. ولكن كيف يمكن تطوير هذا التوصيف ودفعه إلى نهايته المنطقية بالمعنى السياسي-الممارسي (البرنامجي)؟

عن وحدة نظام النشاط

عندما طوّر بعض علماء النفس-الاجتماع، نظرية على قاعدة المادية التاريخية والديالكتيك، وتحديداً السوفييت منهم، طرحوا ما سموه نظام النشاط. وهذا النظام له قانونيته، وهو إطار التوليف بين الممارسة المادية وشروطها التاريخية وبين الممارسة العقلية والحياة الروحية-النفسية بشكل عام. في هذا الطرح يجري توليف الواقع المادي-الممارسي والواقع العقلي-النفسي. وعندما درس هؤلاء نظام النشاط جرى وضعه ضمن شروطه التاريخية وتحديداً نظام الإنتاج والبنية الاجتماعية المتناسبة معه. ونظام النشاط هذا، والذي يمثله البشر في نشاطهم الفاعل، يتغير مع التحول في الشروط التاريخية. فيمكن لنا أن ندرس نظام النشاط الذي يمثله فرد ما، في مؤسسة ما وفي عملية إنتاجية أو حياتية ما، ولكن يمكن لنا أن ندرسه أيضاً ضمن نشاط جماعي لمجموعات ولمجتمعات بشرية بكاملها. وفي المرحلة الراهنة شديدة الترابط والتعقيد، يمكن لنا الكلام عن وحدة نظام النشاط عالمياً والذي يتضمن أنظمة نشاط فرعية مكوّنة، شديدة التنوع والترابط لا يمكن حصره انطلاقاً من التنوع في الأنشطة الجماعية-المؤسساتية الفردية. تحقق «نظام نشاط عالمي» شديد الترابط والتعقيد يضم باقي أنظمة النشاط، يعني تقارباً شديداً في مكونات هذا النظام العالمي للنشاط. ولهذا التقارب في مكوناته له دلالاته النظرية والعملية في آن. فهو يعني تقارباً في «المسافات» بين النشاط العلمي والعملي-الإنتاجي والفني و»الفردي» (أنشطة فردية الطابع وخاصة بالفرد نفسه كالهواية والهدف الفردي والتطلعات والرغبات وأشكال تحقيقها ومنها حكماً مفهوم المتعة والسعادة). وهذا التقارب بين الأنشطة «الفرعية» (علمية، فنية، عقلية، إلخ.) ضمن نظام نشاط عالمي، يعني ولادة «قاعدة» مادية تاريخية نوعية تزول فيها الحدود بين تقسيم العمل ومعه التقسيم في الحياة الروحية الذي تم إرساؤه خلال قرون من التقسيم في المجتمع الطبقي ككل. وهذا له دلالته على مستوى الممارسة العملية للبرامج الثورية لا يمكن تسويته إلا من خلال برنامج تحويلي شامل يحقق هذا التقارب والتلاحم ضد التفتيت والتقسيم القائم في المجتمع الطبقي، هذا التقسيم والتفتيت الذي تدفع به النخبة ودينامية الأزمة الإمبريالية إلى مديات قصوى. إذاً، نحن أمام حالة تاريخية نوعية هي تحقيق عملي للمقولة النظرية حول وجود تناقض بين النظام الرأسمالي-الإمبريالي وحاجات التطور البشري.

التوليف التاريخي للمتناقضات ودلالات وحدة نظام النشاط

إن ضرورة التوليف التاريخي لهذا التناقض بين التفتيت وبين الحاجة للوحدة تقتضي تحقيق وحدة نظام النشاط التاريخي عالمياً، بمعنى تحقيق الكامن فيه. وهذا يعني تحقيق وحدة بين المكونات المعقدة لهذا النظام العالمي للنشاط عبر توحيد الأنظمة الفرعية المكونة له. وهذا لا يمكن القيام به في عالم مقسّم ومفتت. ولشروط هذه الوحدة تتكثف في توحيد العالم-البشرية. ولكن ما يجب أولاً الإضاءة عليه هو دلالات هذا التقارب في أنظمة النشاط ضمن نظام النشاط العالمي. ومن أهم هذه الدلالات هو اقتراب الواقع العملي من الواقع المنطقي. وإذا عدنا إلى إنجلز، فإنه اعتبر المنطق هو الحركة التاريخية في شكلها المجرّد. واليوم، وبسبب من هذه الوحدة العالمية في الواقع العملي فإن الوجود العملي-الممارسي يقترب من الوجود المنطقي (والمقصود هنا هو المنطق الديالكتيكي بالتحديد). هذا الاقتراب من الوجود المنطقي يعني أن التاريخ يعبّر ولأول مرة في تاريخ البشرية عن حركته الداخلية بشكلها الصريح. لماذا هذا الاقتراب للوجود العملي-الملموس(التاريخي) من الوجود المنطقي وقوانين الواقع كما قال بها الديالكتيك؟ هذا الاقتراب يجد أساسه في كون أن وحدة العالم تحققت عملياً (قانون وحدة العالم)، هذا أولاً، وثانياً، هناك الحركة (قانون مادية العالم وحركته) التي تفرض نفسها بشكل صريح في ملامح المرحلة التي تقول أولاً بضرورة الاعتراف بالكارثة (المادية) العالمية للبشرية التي لا يمكن نكرانها من خلال «التأمل المثالي»، ربطاً بالحاجة لتحوّل من «حالة شاملة» إلى «حالة شاملة» أخرى، وهي هنا شاملة كل إحداثيات المرحلة، مكثّفة في الحالة الحضارية ككل، أولاً، دور التكنولوجيا الذكية الذي يظهر في النقاش الحامي حول الذكاء الاصطناعي في تغيير إحداثيات المجتمع البشري ككل، وثانياً، العلاقة مع الطبيعة والنقاش الذي يظهر في مدى الكارثة البيئية إذا ما استمر الاستنزاف الحالي للثروة الطبيعية والتلويث، وثالثاً، النظام الاقتصادي-الاجتماعي، الذي يظهر في انفضاح كارثة الإمبريالية وعلاقتها بالعاملين الأولين، أي العلاقة بالطبيعة والتكنولوجيا الحديثة وكيفية توظيفها. أمام مقولات الديالكتيك الأخرى كوحدة وصراع المتناقضات والتحول من كمي إلى نوعي، فهي تجد تمظهرها من خلال العديد من الظواهر والنقاشات، وتتكثف في النقاش حول «المرحلة الانتقالية» مثلاً.
هذا الاقتراب للواقع العملي-الملموس من الوجود المنطقي من عمر البشرية يعني أن التاريخ يحقق، إضافة إلى تحقيق تقديمي لمقولة إنجلز حول الانتقال من «عصر ما قبل التاريخ» إلى «عصر بداية التاريخ البشري» (تحديداً التحقيق العقلي الواعي لهذا التحوّل)، هو يحقّق وحدة الممارسة والوعي، ويدفع نحو ولادة «العقل الواحد»، هذا العقل الذي تتوحد فيه مستويات النشاط العقلي المختلفة (العلمي، الفني ومختلف أشكاله، العقل اليومي، إلخ.)، هذا العقل الواحد الذي به كتب ماركس رأس المال حيث التحم الشعر بالعلم والسياسة والجمال... هذه الوحدة هي الخلاصة «الفوقية» لوحدة نظام النشاط الذي ذكرناه أعلاه.
المرحلة الراهنة ولكونها توليفاً لكل التاريخ البشري عبر كونها توليفاً لكل التناقضات التاريخية السابقة كلها، فهي ولا شك تلد كياناً حيّاً تاريخياً جديداً يلد معه بشراً جديدين، نجوا من الموت، فصاروا غير ما كانوا، أو هم يصيرون، نتعرّف عليهم في أنفسنا، ونهيئ لهم، من خلال فعلنا التحويلي-الثوري واقع تحقيقهم القادم، فكما المرحلة، نحن كذلك، لم نعد ما كنا، ولم نصر بعد ما هو آت.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1152