عن قوة الوعي في مرحلة القطع الممتدة

عن قوة الوعي في مرحلة القطع الممتدة

القول بأن المرحلة الراهنة «نوعية» في تاريخ البشرية هو مشتق من طبيعة الانتقال الذي يحصل، والذي بدأ يسلك طريقه إلى الوعي شيئاً فشيئاً. الانتقال الذي يجري توصيفه، لدى أكثر القوى تفاؤلاً، بأنه نحو «تعدد الأقطاب»، ولكنه أكثر من ذلك بكونه انتقالاً للبشرية من حالة حضارية إلى أخرى، وحسب إنجلز، من مرحلة ما قبل التاريخ إلى التاريخ، وهذا يفترض خصوصيات، منها نوع الوعي الانتقالي كتعميم للوعي «الاستباقي-النظري» في التاريخ.

الوعي النظري كاستباق

من النقاط المنهجية التي أشرنا بأنها قد تسمح بالقيام ببعض التعميمات حول المرحلة الراهنة هي اعتبار أن الوعي (العام، وليس لدى نخبة محددة) الخاص بهذه المرحلة هو حضور أوسع لأشكال من الوعي كانت قد ظهرت في التاريخ، ولكنها اليوم تحصل لدى قطاعات واسعة من المجتمع، تكاد تكون غالبة. ونقصد بأشكال الوعي التي ظهرت في التاريخ هي الوعي الاستباقي «الاستبصاري» الذي عادة ما يقال بأنه تجاوز للواقع الذي يظهر فيه هذا الوعي. وهذا الاستباق لدى «الحالات» التي تحمل/تنتج هذا الوعي يستند إلى ديناميات اجتماعية-فردية ليس جديداً القيام بمحاولات تحديدها. وعادة ما يتم وضعها تحت عنوان الوعي «الإبداعي-التبصري» لفئة نخبوية-ثورية. ولكنه بالمعنى التاريخي فإن هذا الشكل من الفكر يمكن اعتباره تعبيراً عما سماه ماركس وغيره بكونه سعياً إلى «التحقق الذاتي» الذي هو نفسه قانون الخلق/الإدراك الجمالي حسب ماركس وبعض من سبقه كفريديرك شيلر مثلاً. وهذا التحقق وبمعزل عن نظام الإنتاج الخاص بكل مرحلة تاريخية، له قوانين عامة يمكن تكثيفها بأنها سعي الذات لكي تصير عامة-كلية من خلال أن تصير ضرورية للمجتمع، كالعقل العلمي لدى بعض المفكرين والفلاسفة عبر التاريخ حيث وجدوا في العلم (وأيضاً السياسة) ميدان التحقق، وكلما زاد هذا التوق للتحقق كلما كانت الأفكار «الطوباوية» أكثر وضوحاً، فليس جديداً في التاريخ القول بمجتمع عادل وحر وفي علاقة سلام مع ذاته ومع الطبيعة، بمعزل عن كون هذه الأفكار مبكرة ولا تملك وقتها الشروط التاريخية الضرورية لا للاكتمال العلمي-النظري ولا للتحقق، ولكنها كانت موجودة، واكتملت في شروط تاريخية محددة مع الرأسمالية بسبب من ولادة الشروط التاريخية والقوى التاريخية القادرة على تحقيقها. وبالتالي ليس جديداً على الوعي أن يسبق الواقع، ويكشف عن الضرورة الكامنة في هذا الواقع، وعمّا تحمله، والتي كانت بشكل عام معادية لكل معايير المجتمع الطبقي بمعزل عن الشكل الذي ظهرت فيه هذه المعاداة (طوباوية أم علمية). ولكن في هذه المرحلة التي نحن فيها يمكن القول إن هذه الدينامية التي حكمت هذا الوعي الاستباقي ربما صارت عامّة وهذا له دلالات سياسية مهمة.

عن توسع مساحة العقل والتحقق الذاتي

أشرنا سابقاً إلى أن المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية والتي سميّت بالرشوة الكبرى كانت الشرط التاريخي لتوسع دور العقل-الذات لدى غالبية القوى الاجتماعية. وهذا كله تحت شعار «التحقق الذاتي والسعادة» الذي رفعته الليبرالية مشروعاً للبشرية والذي يكشف عن تناقضه الداخلي لاحقاً كونه غارقاً في الفردية ويخنق التحقق نفسه في كونه يعزل الفرد ليس عن المجتمع فقط، بل يحوله إلى فاقد للفعاليّة. ولما حصل ذلك، فإن القاعدة المادية لسؤال التحقق الذاتي تم خلقها، بمعزل عن تحققها من عدمه. ولهذا فإن الوعي العام الغالب في هذه المرحلة، وتحديداً خلال العقود التي انهار فيها الاتحاد السوفييتي، وضع نصب عينيه غاية «التحقق» كنشاط قيادي لحياته.
ولكن وفي لحظة الأزمة التي عصفت بالرأسمالية خلال العقدين الأخيرين، إضافة إلى التناقض الداخلي للبرنامج الليبرالي نفسه والذي يمنع علمياً مسألة التحقق الذاتي كونها لدى الليبرالية فردية (وبتضاد مع الجماعة ضمنياً ومحكومة بفكرة التفوق المادي-المهني-العلمي-الاستهلاكي-»الجمالي») لا جماعية، وضع هذا الوعي مع هدفه من أجل التحقق الذاتي أمام أزمة كذلك. وهذا التناقض هو الشرط التاريخي الذي كان يحكم العقل «الاستباقي» عبر التاريخ والذي أشرنا إليه أعلاه. وبالتالي صرنا أمام حضور أوسع لهذا النزوع لـ»الجمالي والتحقق الذاتي» (استعارة للربط بينهما لدى ماركس، وشيلر، وهيغل كذلك). ووجود هذا النزوع العام في ظل اشتداد أزمة الرأسمالية التي تنزع نحو اللاعقلانية والعدمية والحيوانية والبربرية يظهر مدى المسافة الفاصلة بين هذا الوعي وبين الواقع. ولا نقول بأن هذا الوعي هو تعبير صاف عن تقدمية لا تعيش تناقضها الداخلي، فهذا الوعي أمام احتمال نكوصه وتفتته وانحداره نحو البربرية. ولكن هذا التناقض الداخلي للوعي دليل على الصراع الذي يحكم الوعي ويحرّكه.

معنى المرحلة كانتقال «لا طبقي»

إن الخاصية النوعية للوعي الخاص بهذه المرحلة ليس فقط في كونه عاماً، بل في كونه تعبيراً عن حالة تناقض ويعبر عن مصالح تعادي التقسيم الطبقي نفسه. فنماذج الفكر التي تكلمنا عنها تاريخياً كانت بغالبها تعبر عن انتقال من واقع طبقي إلى آخر (وهنا يمكن مراجعة تحليلات بعض التيارات «الاشتراكية الطوباوية» و»الثورية» في التاريخ). بينما الانتقال اليوم، والقوى التي تحمل هذا النزوع من أجل التحقق، لا تمثل مجتمعاً طبقياً قادماً، بل تجاوزاً للمجتمع الطبقي، حتى لو لم تعِ هي ذلك، بل يعبر ذلك عن نفسه في مصالحها الطبقية نفسها في إلغاء الواقع الطبقي نفسه (يمكن هنا مثلاً أن نرى التضخم في التيار الزاهد والمتخلي كشكل «عاجز» لهذا الرفض للمجتمع الرأسمالي وإحداثياته). إن نوعية الانتقال نحو مجتمع لا طبقي تفرض خصوصية هذا الوعي. فهو «متحرّر» من كوابح المحدودية الطبقية التي حكمت الوعي في مراحل سابقة، وهي تمثل وعياً كان عبر التاريخ نخبوياً وصار اليوم عاماّ بمعزل عن الشكل غير الناضج الذي يظهر به، ولكنه محمول على هذه الدينامية في التحقق من خلال الكل والفعالية التاريخية التي هي شرط التحقق. وفي كونه متحرراً من هذه المحدودية الطبقية فهذا يعني أنه قادر على التقدم عن الواقع المادي، فهو يطرح أهدافاً «ثورية» لا توجد في الواقع الملموس أمام هذا الوعي. ولهذا فإن الوعي قادر على «التحليق»، على الحلم.

المعنى السياسي لهذا «الحلم»

لهذه المسافة الفاصلة بين الواقع وبين الحلم معنى سياسي، هو تعبير عن حالة تاريخية تكون فيها البنية الفوقية قادرة على التأثير الشديد بالبنية التحتية ودافعاً لها، أكثر فعالية من المراحل السابقة للبنى الفوقية لانتقالات تاريخية بين التشكيلات الاجتماعية. ولهذا فإن الحرب على هذا الوعي شديدة الحماوة والقسوة. ليست حرباً على الوعي بقدر ما هي حرب ضده لتدميره. ومن هنا نفهم النزوع العدمي والسوداوي والإغراق في البربرية. وذلك من أجل تعطيل هذا الدور الفعال للوعي في التاريخ. وهذا يفترض على النقيض المبادرة في تثبيت هذا الدور «الثوري» للوعي ونزوعه من أجل التحقق على الضد من إحداثيات المجتمع الطبقي. ومن ضمن شروط هذه المبادرة تعويض انهيار وتعطل النظرة الليبرالية إلى العالم من جهة، ومن جهة أخرى تحميل هذا الوعي الأدوات اللازمة لتقليص المساحة بين الهدف-الحلم وبين الواقع الملموس، أي من خلال تحميله البرنامج العلمي-السياسي الذي يحمل بالضرورة حالة حضارية نقيضة، ومدخلاً نحو التاريخ الفعلي للبشرية وتجاوزاً للتناقضات الأساسية للرأسمالية تحديداً، وفي صلبها حل مسألة الاغتراب كمكافئ لعدم التحقق، والتي تشكل أحد أحجار الزاوية التي تتكثف فيها كل إحداثيات الانتقال الحضاري وحلاً لتناقضات الرأسمالية، من التناقض بين العمل الذهني والعضلي، إلى التناقض بين الإنسان والطبيعة، إلى استيعاب النمط التكنولوجي الذكي-الحديث، إلى ولادة الإنسان الشامل ذي العقل الواحد غير المنقسم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1153