ما كان لم يَعُد.. وما سيكون لم يصر بعد

ما كان لم يَعُد.. وما سيكون لم يصر بعد

هل استنفذنا فعلاً مضمون طوفان الأقصى وما تلاه من أحداث حتى اليوم كميدان اختبار لفرضيات ما يتطور عالمياً وتحديداً حول ما تحتاجه المرحلة من تطوير للمشروع التحرّري للإنسانية. والظاهرة التي تستحق الانتباه ألا وهي تقدُّم الحدث نفسه في جانبه غير الرسمي عن البنية السياسية الثقافية الاجتماعية القائمة، إن كان في جانبها المتراجع (وهذا ضروري) أو في جانبها المتقدم الصاعد كذلك. في هذه المادة سنحاول الإشارة إلى هذه المسافة بين مستوى التطوّر الاحتمالي ومستوى التطور المحقّق فعلاً.

عن ضرورة اللغة المنهجية الصريحة

في المادتين السابقتين حاولنا مقاربة مسألة التطور الاحتمالي الذي تتضمنه المرحلة ومهمة تحويله إلى تطور محققّ. ومن الضروري التوسع في الملامح التي يظهر فيها هذا التطور الاحتمالي، أي خط التطور الكامن في المرحلة. والمقاربة التي استندنا إليها، والتي من الضروري التوسع في الشرح حولها ولو قليلاً لما لها من دلالات تاريخية وسياسية وفلسفية، هي استعارة من ميدانين علميين درسا القضية. الميدان الأول هو المدرسة النفسية التي تستند إلى نظرية النشاط التاريخي-الثقافي التي طورها بشكل أساس علماء نفس سوفيات، وأولهم فيغوتسكي الذي طور بدوره مقولات من سبقه ولكن من موقع الماركسية والمادية التاريخية بشكل خاص. واقترح فيغوتسكي قضية التطور الاحتمالي لكي يشير إلى أنه لا يجب دراسة التطور الذي وصل إليه الطفل-الفرد انطلاقاً من مستوى التطور الذي وصلت إليه الوظائف النفسية-العقلية، بل يجب دراسة تطور الفرد-الطفل من مستوى التطور الاحتمالي الذي بدأ بالتطور بشكل كامن ولكن لم يتشكل بعد، ويحتاج إلى مساعدة من المحيط. وبهذا، أكد فيغوتسكي على أن قضية التعليم هي قضية نمو وتطور وارتقاء في ذات الوقت. والميدان الثاني الذي استعرنا منه مسألة التطور الاحتمالي هو توسع في نظرية فيغوتسكي ولكن في إطار علم درس مسائل التطور، ويشار إليه بعلم التطور، والذي يحاول نمذجة التطور من موقع الجدلية والتناقض، وإظهار المنطق الداخلي للتطور. هذا المنطق الذي عادة ما نجده حاضراً بشكل ضمني في ميادين أخرى كالسياسة والتاريخ وغيرها عبر استعماله ولكن بلغة غير واضحة منهجياً، ولكنه في هذا العلم تجري معالجته نفسه وبشكل صريح. وهذه الاستعادة ضرورية اليوم عملاً بملمحين رئيسيّين في هذه المرحلة التاريخية، الأول هو ضرورة رد القضايا إلى جذرها وبالتالي ضرورة النطق بلغة نظرية ومنهجية صريحة، حول المرحلة التاريخية وظواهرها، لأن هذا الوضوح قادر على كشف الحركة العامة للمرحلة. والثاني هو التقارب الشديد بين ظواهر الواقع. هذا التقارب ناتج عن تناقص المسافات بين الظواهر ومستويات البنية الاجتماعية (إذا ما استعرنا ما يسمى باللغة الطبوغرافية في السياسة والتي أشار إليها غرامشي في غير مكان). ولهذا كانت هذه الاستعادة المنهجية باللغة الصريحة التي تحملها حول منقطة التطور الاحتمالي.

بين التطور الاحتمالي والتطور المحقق

لا نخرج عن التراث الثوري في هذه الاستعارة. وبشكل خاص مقولة غرامشي إن القديم يموت والجديد لم يولد بعد. فمقولة التطور الاحتمالي، وفي مرحلة من النضج الذي تكون قد وصلته العلاقات الداخلية للظاهرة نتيجة التناقضات التي تحكمها، تكون قد وصلت مرحلة انتقالية، وفي هذه المرحلة تفقد فيه تماسكها، فهي (الظاهرة) «لم تَعُد ما كانت عليه» و»لا هي صارت بعد». وفي هذه المرحلة نشهد تقهقراً ونكوصاً للمستوى الذي وصله التطور السابق ونشهد انهياراً للعلاقات والروابط بين العناصر، وكأن الفوضى تحكم الظاهرة المذكورة. هذا ما تم دراسته في التطور الاحتمالي للفرد، ويمكن إيجاده أيضاً وبشكل واضح في تطور المجتمعات. وفي المرحلة الراهنة، ولما كان النموذج الحضاري بشكل عام هو في حالة احتضار، فإنه ولا شك سنشهد (ونحن نشهد فعلاً) تفككاً شاملاً في مكونات هذا النموذج الحضاري، إن كان على مستوى البنية التحتية أو الفوقية على حد سواء. ومن أمثلة هذا التفكك هو تفكك السردية المهيمنة حول النظرة إلى العالم، وتفكك نموذج العلاقات السياسية التي حكمت العالم، وتعطل النشاط البشري نسبياً على أساس تفكك المشروع الاجتماعي وقيمه ومفاهيمه، وليس تفكك العقل إلا الشكل الأكثر حدة. ونتيجة هذا التفكك، والوجود الرث الذي يطبعه، أي البربرية ضمن مقولات «مرحلة ما بعد الرأسمالية» والمقصود فيها «مرحلة ما بعد المجتمع» مع كل ما تحمله من لا عقلانية وانحدار نحو الحيوانية، هذه النتيجة هي ما يراد الوصول إليها من قبل النخبة الغربية المالية الفاشية.
وفي قلب هذا التفكك وموت القديم هناك شيء لم يتكون بعد، تارة يسمى بعالم انتقالي متعدد الاقطاب، وتارة يسمى بعالم متعدد الحضارات المتساوية، وتارة ما يسمى بعالم أكثر عدلاً. هذه كلها مفاهيم غير متعيّنة، لأنها نفسها لا تقدم نموذجاً جديداً عن القديم، بل ضبطاً له، وعلى قاعدة النمط الإنتاجي والحياتي والحضاري المحتضر نفسه. وإذا كان التحرر الوطني ضد الإمبريالية يعني الاستدارة ضد الرأسمالية، فهذا لا يمكن أن يكون إلا استدارة ضد النموذج الحضاري المحتضر الذي تمثله، وإلا فإن الرأسمالية ستوظف الاحتياطي المتعفّن لصالحها، هذا الاحتياطي العابر للدول والمجتمعات ويتخطى الصراعات ما بين الدول، بل هو حصان طروادة، ليس على المستوى الاقتصادي، بل على مستوى تدمير قوى الإنتاج ومنها البشر (ليست الثورات الملونة إلا شكلاً مباشراً لهذا التوظيف، وأقصى شكل له هو الوجود الرث للأفراد ضمن كل دولة صاعدة كانت أم متراجعة).
ولهذا، فإن القوى الصاعدة لم تتخط بعد أدوات العمل التي تنتمي في غالبها إلى العالم القديم. ولكن هذا التوصيف ليس مطلقاً، فهناك مسارات جديدة لم تتبلور بعد (ترابط قضايا الدفاع الوطني وتعظيم الثقافة الإبداعية والمبادرة الاجتماعية، إلخ.)، ولكنها لم ترق بعد لتجاوز النموذج الحضاري المنهار، الذي من خلال تجاوزه، أو البداية في التحضير لتجاوزه، يمكن حماية الحضارة البشرية وتطويرها، فحمايتها هو في تطويرها، أو ما يمكن أن نجده في المقولة الجدلية «الكينونة-الوجود هي الصيرورة».

المسافة بين التطور الاحتمالي والتطور المحقق

إن طوفان الأقصى هو ميدان اختبار لما سبق. فالحدث فرض مشهداً يتخطى البنية الرسمية المؤسسية عالمياً ومحلياً (على المستوى السياسية والثقافي والعسكري)، فهو فرض ضرورة مهام جديدة لم تكن بعد مطروحة على الطاولة. هذه المسافة التي تفصل بين الحدث (الذي يحمل مضامين التطور الاحتمالي) وبين البنية الرسمية التي تمثل التطور المحقق، يجب الكشف عنها في الميل العام الذي يحمل الجديد وإن كان بشكل ضمني ومموّه. من الأمثلة التي يعبّر فيها الميل العام عن نفسه هي بكل بساطة الموقف الشعبي، والمبادرة الشعبية التي تجاوزت البنى الرسمية، وبقاء هذه البنى يخنق هذه المبادرة بالذات. ونقصد بذلك النزوع الكبير الذي أظهرته القوى الاجتماعية للمساهمة في الصراع، حتى ولو لم تتجاوز هذه المساهمة الأشكال الاحتجاجية أو الدفاعية. وهذا يعني أن هناك ميلاً لتجاوز كل الفضاء السياسي القديم كونه لم يعد صالحاً، ومعه تجاوز حدود قدرات الدول وأسباب قصورها على التأثير في الحدث نتيجة حساسية موازين القوى والتعقيد في شبكة المصالح الدولية (جرت الإشارة إلى حادثة إرسال الطائرات السوفييتية لمساندة مصر بشكل مباشر ضد الكيان الصهيوني). هناك مثال آخر هو محاولة إعادة تعريف لكل منظومة القيم المهيمنة عالمياً، كالديمقراطية والحريات والعدالة. المسافة بين ما أظهره حدث طوفان الأقصى وبين الواقع الحالي للنظام العالمي بكل مكوناته ليس إلا نموذجاً عما هي عليه المسافة بين الكامن نتيجة الأزمة الحضارية، وبين ما هو مطروح من مسارات تطور عالمياً. وهذه المسافة هي ما يجب بحثها والتوسع فيها لأنها هي نقطة انطلاق التطور الضروري، والمبادرة يجب أن تنصب على خلق خط تطور ملائم مع هذا الكامن، الذي لم يظهر منه إلا الشيء القليل في سياق طوفان الأقصى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1150