ضد العقل الميكانيكي: عن عالمنا «الاشتراكي-الرأسمالي» مجدداً

ضد العقل الميكانيكي: عن عالمنا «الاشتراكي-الرأسمالي» مجدداً

في مادةٍ سابقة كنا أشرنا إلى أنّ العالم الذي نعيش فيه اليوم لا يمكن اعتباره رأسمالياً صافياً، بل هو توليفٌ صراعيّ لمرحلة التناقض الرأسمالية-الاشتراكية خلال القرن الماضي. والتوليف لا يعني الجمع الميكانيكي بين العناصر بل ضمن وحدةِ وصراعِ الأضداد. وفي هذه المادة توسيعٌ في النقاش حتى لا يظهر اختزالياً، وحتى يمكن الوصول لخلاصات سياسية.

بين الجدل والميكانيك

إنّ الفكر الميكانيكي الذي يحمله ليس فقط مؤدلجو (زوال الاشتراكية) بل أيضاً بعضٌ من الناطقين باسم الاشتراكية وعن طيب نية، يقول بأن العالم غدا رأسمالياً صافياً بعد انهيار التجربة الاشتراكية. وهذا الفكر يقول بتجاور الظواهر لا بتفاعلها، ويَحكُم بثباتها التاريخي لا تحوُّلها، وهو يَعتبر بالتالي علاقتها ببعضها بعضاً علاقةً (خارجية). بينما على العكس يقول الفكر الجدلي بأنّ علاقة الظواهر ببعضها هي علاقةٌ (داخلية)، تُحَوِّلُ كلُّ واحدةٍ منها الأخرى في تفاعلهما-صراعهما على أساس التناقض الداخلي الذي ولّد الصراع. وعلى هذا الأساس لا يمكن القول ميكانيكياً بأن التجربة الاشتراكية تركت فقط (إرثاً ثقافياً وسياسياً) بالمعنى الفكري خارج البنية الاجتماعية القائمة نفسها كالأفكار والإنتاج النظري والفني، وبعض بقايا (المؤسسات والأحزاب)، التي يعتبرها البعض كـ(تركة) يتيمة للاشتراكية. ولكن الصراع منذ الثورة البلشفية وما أنتجته على مستوى العالم قد حَوّل العالم وجعله ما هو عليه اليوم. فهو أولاً حَوّل الرأسمالية بعد أن استوعَبتْ فيها عناصر من الاشتراكية بغاية لجمها، غيَّرَ (مسرح العمليات) ككل، وأدوات واستراتيجيات (الحرب).

مجدداً عن تغيُّر مسرح العمليات

إنّ الديمقراطية البرجوازية الليبرالية، وكل البنية الأخلاقية والقيميّة والسياسية ونمط الحياة المعبِّر عنها، تطوّرت بشكل خاص بسببٍ من هذا التحوّل. وهذا ما رفع التناقض الداخلي للرأسمالية إلى مستوى أرقى-أعلى. فتطوُّر أجهزة الدولة وما يسمّيه غرامشي بـ(النمط السياسي) من أحزاب وممارسة سياسية وتنظيمات ومنظومة الدعاية - لنأخذ مثلاً مسألة «دولة الرفاه» - إلى التطوُّر في نمط الحياة والحاجات الاجتماعية، إلى تطوُّر التربية والتعليم، إلى التطوُّر في الصراع المسلَّح، والتطوُّر التكنولوجي المُرافِق لكلّ هذا، والتنظيم العالمي للعمل والإنتاج، والتطوُّر اللاحق للدّول ووزنها، والتحوُّل في البنية العقلية-النفسية للفرد-الإنسان... كلّ ذلك لم يتوقّف فعله مع (انهيار سلطة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي) و(تفككه ككيان سياسي). فتغيّر السلطة، لا يغيّر البنية التي ذكرناها بسحرِ ساحر، ولا يعني أننا عدنا إلى ما قبل هذا التحول التاريخي النوعي، أي إلى ما قبل موجة الثورة الأولى، فهذا موقفٌ ميكانيكيٌّ بحت مِن التاريخ والواقع.

التناقضات الجديدة

إنّ تطوّر البنية الرأسمالية إلى النسخة التي هي عليها اليوم لم يحصل بشكل (طبيعي)، بل بسببٍ من الصراع نفسه، وتحديداً بسببِ النقيض الاشتراكي. وبالتالي، فإنّ التناقضات التي وُلِدَتْ بفعل هذا التطوّر تجدُ حلَّها ضمن الاشتراكية لا ضمن الرأسمالية، فالرأسمالية وفي استيعابها (وبشكلٍ مؤقَّت أيضاً) لبعض (العناصر) الاشتراكية دون البنية التي تسمح بتطويرها (لنأخذ مثلاً فكرة التحقُّق الذاتيّ الفرديّ والديمقراطية والعدالة والإبداع والسعادة...)، من أجل لجم الاشتراكية، قد ولّد تلك التناقضات. ولهذا، ومنذ تراجع العملية-الحركة الثورية، بدأ التراجع عن تلك التحوّلات. ولكنَّ هذا التراجع لا يمكن أن يحصل بشكلٍ ميكانيكي. أيْ لا يمكن له أنْ يعودَ إلى ما قبل تطوِّرِ الظواهر على ما هي عليه. فلا يمكن العودة عن تطوير أجهزة الدولة بكلّ بساطة، ولا يمكن العودة عن تطوُّر النفسية-العقلية للإنسان إلى ما قبل ظهور النموذج اللّيبرالي وإلغاء تلك المفاعيل بقرارٍ فَوقيّ، ولا يمكن العودة عن تطوُّر العلوم والفنون والنّمط السياسيّ الذي ظهر بسبب الاستيعاب المذكور، إلخ... لا يمكن لهذا أن يحصل دون المسّ بالبنية الحاملة لهذه الظواهر، ودون تدمير الظواهر نفسها. فالعقل الميكانيكيّ وحدَه يسمح بذلك (الترشيق) للظاهرة دون المسّ بجوهرها أو القاعدة المولِّدة لها أيْ حركتها الداخلية. بينما العقلُ الجَدَليّ يفترض أنَّ (سَلخ) ظاهرةٍ ما عن هُويَّتِها الرّاهنة إلى هُويَّةٍ سابقة يفترض إلغاء الظاهرة والهبوط بالظاهرة إلى مستواها السابق في سُلَّم الارتقاء والتطوُّر. وهذا ممكنٌ فقط من خلال الانحدار بالبنية ليس فقط إلى مستوى التطوُّر ما قبل النقلة النوعية التي وصلت بالبنية إلى ما هي عليه اليوم، بل إلى ما دون الظاهرة نفسها. فإلغاءُ عناصر ما من الظاهرة لا يمكن أنْ يتمّ وكأنَّ هذه العناصر كانت قد أضيفَت إلى البنية دون أنْ تكون قد هَضَمَتْ فيها توليفيّاً كلَّ التطوُّرِ التاريخيّ للظاهرة نفسها. ولأنّنا هنا أمام ظواهر تطالُ قضايا (عامّة) تاريخية، كتعريف الإنسان، العدالة، الدولة، المجتمع، السعادة، الحرّية، العقل... فإنّ مستوى التطوّر الحاصل كان قد هَضَمَ فيه كلَّ تطوّر تلك الظواهر سابقاً عبر التاريخ. وبالتالي، لا يمكن أنْ نعود بالدولة إلى ما قبل الموجة الثورية الأولى دون أن نلغي ليسَ فقط ما تضمَّنتْه الدولةُ بفعل الموجة الثورية الأولى، بل وأن نلغي فكرةَ الدّولة نفسها. ولا يمكن أنْ نلغي التطوُّر في عقل-نفسية الإنسان مثلاً دون أن نلغي العقلَ نفسَه وبالتالي نلغي الإنسانَ نفسَه. فهل يمكن تصوّرُ أنْ نعودَ بعقل الإنسان اللّيبرالي عن (تخفيض) رتبته إلى عقلِ (ما قبل الليبرالية)؟ لا يمكن حصول ذلك أبداً، لأنّ العقلَ هو توليف، والعودة به إلى مرحلةٍ سابقة يتطلّب حَرباً عليه ككيان واحد، وتعطيلَه، لأنّ تخفيضَ الرُّتبة يتطلَّبُ تخفيضَ طبيعة النشاط الداخلي لهذا العقل، ومعه كلّ النشاط الممارَسيّ، ومعه كلّ النّمط المُعاش. والأمرُ نفسُه بالنسبة للدولة ولكلّ النمط السياسي والثقافي، حيث إنّ تخفيضَ الرُّتبة التطوُّرية لكلِّ هذه الظواهر يتطلَّب المَسَّ بحركتها الداخليّة وبالتالي تعطيلَها. وهنا نتكلَّمُ عن تعطيل كلِّ حركةِ المجتمع والانتظام، وبالتالي تعطيله.

خلاصة سياسية سريعة

على الرغم من أنّ هذا النّقاش يحتاج لتوسيعٍ مستفيض، ولكن إذا اعتبرنا أنَّ ما سبق هو افتراضٌ يُبنى عليه، يمكنُ تطويرُه للوصول إلى الخلاصة السياسية التي تسمحُ بفهم ما يحصل من اتجاه عالمي لـ(عقل) وممارسة النّخبة التي تحاولُ تثبيتَ هيمنتها. هذا التوجُّه في الحرب على كل شيء، وتقديم النّسخة التي يُصطَلَح على تسميتها بـ(ما بعد الرأسمالية)، والتي يجب تسميتُها مجدَّداً بـ(ما بعد المجتمع)، باتجاه البربرية. وهنا لا نقول شيئاً جديداً عن القول بـ(إما الاشتراكية أو البربرية-الفوضى) ولاحقاً الفناء. وبالتالي يسمح هذا الاستنتاجُ بالتأكيد على أنّ مواجهة هذا الاتجاه غير ممكنة إلا من خلال العودة إلى جذور الصراع الذي أسَّس لهذا التناقض الذي تعيشُه الإمبريالية، أيْ من خلال توسيع وزن الاشتراكية، هذا الوزن الذي هو وحدَه القادر على حلّ التناقضات التي ظهرت وتطوّرت بدفعٍ من وجودِه بالذات. ولهذا، فإنّ الكلامَ عن عالَمٍ (متعدّد الأقطاب) هو بالحدّ الأدنى كلامٌ عامٌّ وسطحيّ ومؤقَّتٌ وشَكليّ، ولا يطالُ جوهرَ الصّراع وجوهرَ الاتجاه العام الذي تسير فيه البشرية نحو البربرية، بينما المطلوبُ هو قاعدةٌ مادّيةٌ تمنع تفجيرَ التناقض وتدفعُه إلى حلّه إيجابياً-تطورياً، لا رِدَّةٌ رجعيّةٌ تعملُ لإلغاء التناقض نفسِه عبر ضربِ كلِّ الظاهرة الحاملة له. وهذه القاعدة المادّية هي الاشتراكية التي كانت أساساً أصلَّ ظهور هذا التناقض. وهنا يمكن أنْ ننهي بالتأكيد على أنّ ما يردِّدُه الكثيرون عن (زوال الاشتراكية) ليس سوى فكرةٍ هزيلة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1159