التعفّن الشامل وسير التّاريخ وعالمية «الحلقة الأضعف»

التعفّن الشامل وسير التّاريخ وعالمية «الحلقة الأضعف»

يُذكّر ماركس بأن التاريخ يسير دائماً من جانبه المتعفّن. وإذا ما أردنا استكمال النقاط المنهجية السابقة، بما يخص التحولات النوعية في بنية المجتمع عالمياً، يمكن استخلاص الحركة العامة لسير التاريخ في المرحلة الراهنة.

مجدداً عن النقاط المنهجية

في المواد السابقة حاولنا تجريد المادة التاريخية من أجل استخلاص أعمّ المقولات التي يمكنها أن تعطينا صورة عن التحولات في البنية الاجتماعية عالمياً. ومن تلك النقاط هو اقتراب جوهر الظاهرة من شكلها (وهنا المجتمع الرأسمالي)، ومع هذا الاقتراب للجوهر من الشكل تقترب حركة الواقع التاريخي من اللغة المنطقية، وذلك تعبير عما قال به إنجلز بأن المنطق هو تجريد للعلاقات التاريخية. وإذا اعتبرنا أن الواقع التاريخي اليوم يكشف عن الحركة الجدلية فيه بسبب من التطور في التناقضات واقترابه من لحظة الانتقال-القطع، فإن لغة التحليل اليوم وبمستوى أكثر من السابق تتطلّب اعتماد لغة الجدل ومقولاته، وكذلك مقولات المادية التاريخية نفسها. فهذا التطور في البنية الاجتماعية وبسبب من حدة التناقضات التي تتطلب الحلّ، وبسبب من الترابط الشديد بين مستويات البنية الاجتماعية، فإن ذلك يؤدي إلى أن التناقضات تلتقي كلها عند نقطة الحل، وحل واحدها يتطلب حل البقيّة، على قاعدة التحويل الجذري لعلاقات الإنتاج، وكل النموذج الحضاري القائم على الإنتاج البضاعي-السلعي. وهذا التلاقي للتناقضات يمكن اعتباره اندماجاً لها وهذا الاندماج هو بالتحديد ما يسمح بالتفكير بالقاعدة المادية للتعفّن وحركة التاريخ. وهذا ينقلنا إلى نقطة انتهاء مساحات التوسع الرأسمالي نفسه.

عن التوسع عمقاً واتساعاً

إن الرأسمالية وفي تفارقها عن التشكيلات السابقة هي نظام توسعي بشكل غير مسبوق، ويتطلب هذا التوسّع قاعدة لبقائه. ومنذ تطور الرأسمالية، وحتى صارت إمبريالية الطابع، حصل التوسّع في البداية على المستوى الأفقي بشكل خاص، عبر ضم كامل الكرة الأرضية ضمن علاقات الرأسمالية في مرحلة الاستعمار المباشر. ومنذ الحرب العالمية الثانية وبعد أن أطلّ النقيض الاشتراكي على مسرح التاريخ، بدأت مرحلة جديدة من التوسع على المستوى العامودي-وفي العمق، وذلك عبر الدخول إلى المساحة الروحية-العقلية وذلك في محاولة لمواجهة النقيض الاشتراكي. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وفي مرحلة النيوليبرالية انفلت التوسع مجدداً (بالصراع مع تركة مرحلة الصعود الثوري بالتحديد) وتعمقت الرأسمالية من خلال آليات السوق في شكلها الناهب (لصالح المركز) و»التنموي» الذي هي الجانب الآخر من آليات النهب (في الأطراف). وهذا التوسع وصل إلى العمق على حساب قوى الإنتاج، أي الطبيعة والعقل-الجسد، إلى مرحلة استنفاد هوامش التوسّع لكي تهددّ مادة هذا التوسع، أي الطبيعة والإنسان.

بين التوسّع واندماج وتقارب مستويات الواقع

هذه المرحلة من التوسّع عمقاً واتساعاً، أفقياً وعمودياً، هي القاعدة المادية لتقارب مستويات الواقع، وترابطها الشديد، واندماج التناقضات (وهي النقاط التي ذكرناها إلى جانب غيرها في المقطع السابق). إن رسملة كل ظواهر البنية الاجتماعية، من الطبيعة إلى الإنسان (ككائن تاريخي فاعل)، ووصول الرأسمالية إلى حدودها التاريخية عبر تحولها إلى نظام تدميري للمجتمع (وللرأسمالية نفسها)، من خلال اختناق كل مستويات الواقع بعلاقات الإنتاج الرأسمالية (وخصوصاً دور التكنولوجيا الحديثة في تناقض مباشر مع كل علاقات الإنتاج)، جعل من التعفّن ظاهرة عامة لكل البنية. وهذا التعفّن الشامل هو تكثيف للنقاش السابق في المواد السابقة، وهو نقطة الوصول إلى الرأسمالية إلى نهاياتها المنطقية التي نجد توصيفها النظري في الكلاسيكيات الماركسية. نقطة الوصول والتحقق الواقعي للنهاية المنطقية هو نفسه ظاهرة شاملة في المرحلة الحالية من تطور البنية الرأسمالية والتي ذكرناها في القسم الأول حول النقاط المنهجية.

خلاصات سياسية

إن «الجانب المتعفن» هذا كان ضرورياً في تحليل لينين لإمكانية الانتقال الثوري في روسيا كحلقة أضعف في البنية الرأسمالية وقتها. ولكن يبدو أن هوامش التوسع أمام الرأسمالية لم تكن بعد قد استنفدت. وهكذا كانت ثورة أكتوبر، كقاعدة انطلاق للموجة الثورية الأولى، مرحلة ضرورية سرّعت من تحقق الضرورة التاريخية (والكشف عن كل إمكانات تطور الرأسمالية ودفعاً لتعفنها)، ويظهر هنا بطلان كل مقولات «فشل التجربة» الاشتراكية والنظرة والميكانيكية إلى التاريخ، على عكس الموقف الجدلي في فهم وحدة التناقضات، ويظهر بشكل خاص توقعات لينين قبل الثورة نفسها حين قال بما معناه «أننا سنقوم بتجربة ستكون درساً تاريخياً» كـ»دفعة للتاريخ»، وهكذا حوّل هذا «الدرس» التاريخ من خلال تحويل الرأسمالية نفسها وأسّس لهذا التوسع والكشف عن جوهر الرأسمالية. ومن خلال ضرب الحلقة الأضعف يبدو أن لينين وثورة أكتوبر والتوسع الثوري في العالم قد وسّع «الحلقة الأضعف» ونقلها إلى العالمية. ومثال حول عالمية الحلقة الأضعف هو التناقض الذي تعمق في دور المركز نفسه وما قام به من رشوة كبرى. والتقسيم العالمي للعمل الناتج عن الموجة الثورية الأولى، هو تعبير عن توسيع الحلقة الأضعف وربط المركز بالأطراف بشكل أكبر. فما حصل بالتحديد هو أن توليفاً للتناقضات ما قبل الثورة قد حصل. وهذا التوليف حوّل بدوره النقيضين (مركز-أطراف)، وما نتج عن هذا التوليف هو أن طرفي التناقض ضمّا كلا التناقضين السابقين، وظهر تناقض جديد طابعه العام هو أن المركز والأطراف يحملان شيئاً من الآخر أكثر مما قبل التوليف المذكور. وحتى لا نقع بالاختزال والتبسيط، هذا الموقف من النظر حول توسيع الحلقة الأضعف، والتحوّل في التناقضات لظواهر واقع ما قبل الموجة الثورية الأولى وما بعدها، يحتاج إلى تعميق من أجل التأسيس النظري لفهم تحول الحلقة الأضعف. فاذا قبلنا بعالمية الحلقة الأضعف يتطلب هذا فهماً جديداً للانتقال العالمي في تزامنه وشموله.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1155