الافتتاحية الخارجون عن... الدستور!

يقول الدستور السوري في مادته الرابعة عشر (فقرة 1):

«ملكية الشعب: وتشمل الثروات الطبيعية والمرافق العامة والمنشآت والمؤسسات المؤممة أو التي تقيمها الدولة وتتولى الدولة استثمارها والإشراف على إدارتها لصالح مجموع الشعب. وواجب المواطنين حمايتها».

خلافاً لهذه المادة، تحاول الحكومة وخاصة فريقها الاقتصادي، التفريط بهذه الملكية بأشكال مختلفة. ومؤخراً عندما لم توافق اللجنة المختصة في مجلس الشعب على مشروع إصلاح القطاع العام الذي قدمته الحكومة، وعبرت عن اعتراضها على ما جاء فيه بخصوص إمكانية تأجير بعض منشآته لمدة 99 عاماً، وضعت الحكومة هذا المشروع في الدرج انتظاراً على ما يبدو، لفرصة أخرى، ولم تكلف نفسها عناء مراجعته على أساس الاعتراضات التي أبديت عليه. بل إنها بدأت بمحاولات جدية للالتفاف على الدستور كما فعلت في الماضي بحجة طرح مؤسسات القطاع العام للاستثمار.. وتقدمت ببدعة جديدة، وهي بيع بعض الأصول الثابتة للقطاع العام، والمتمثلة بالدرجة الأولى بالأراضي التي يملكها بحجة تمويل عملية إصلاحه لعدم توفر الموارد، البالغة حسب تقديرها في هذه الحالة 105 مليارات ل.س..

قبل أن نخوض في تفاصيل المواد.. فلنلق نظرة على شرعية هذا الطرح.. كما تقول مادة الدستور المذكورة أعلاه، والتي لم يعلق أحد عملها حسب معلوماتنا، وما زالت سارية المفعول:

«للدولة حق الاستثمار والإشراف على الإدارة». ولم تقل هذه المادة بحق الدولة بالتصرف بملكية الشعب، فالشعب هو المالك، وهي تقوم بدور المدير فقط لا غير... والسعي إلى طرح أراضي تابعة للشركات العامة للبيع هو خرق صريح للدستور، يستوجب المحاسبة والمحاكمة أمام القانون إذا ما حدث.. كما تقول هذه المادة بشكل صريح إن من واجب المواطنين حماية هذه الملكية... أي أن تخلف المواطنين عن القيام بهذا الواجب بحال تعرضت هذه الملكية للخطر، هو تخلف عن القيام بواجب لا يختلف عن الواجبات الأخرى من الناحية القانونية المبدئية، كواجب الدفاع عن الوطن مثلاً...

أي أن الحكومة بخرقها للدستور تضع نفسها في مواجهة المجتمع الذي هو مجموع المواطنين، وتخلق احتمال صراع وصدام بين من يخرق الدستور وبين من يدافع عنه..

ونعرف مسبقاً أن حجة البعض في الحكومة للقيام بهذه الخطوة أن الدستور غير منزل.. صحيح.. ولكن القيام بأية خطوة خلافه غير منزهة عن الشبهات المختلفة، وإذا كنا نريد الكلام عن الشكل وحرفية القانون، فعلى هذه الحكومة أن تقترح تعديل الدستور قبل القيام بأية خطوة في هذا الاتجاه. وليجرِ حوار وطني واسع حول هذه النقطة بكل وضوح وشفافية، كي توضع الأمور في نصابها..

هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون، فهل يشكل عدم توفر 105 مليارات حجة مقبولة ومقنعة؟ هل يعقل أن تباع البلاد من أجل تأمين 100 مليار ل.س؟!.. إن ما كدسته الدولة خلال عشرات السنين على حساب عرق وتضحيات الملايين من الناس، يريد البعض نقل ملكيته بشطبة قلم..

لقد رفعوا الدعم بحجة عدم توفر الموارد، وزعموا أن خزينة الدولة تتكبد أكثر من 300 مليار ل.س سنوياً نتيجة ذلك، وأوضحوا أنهم وفروا نصف هذا المبلغ نتيجة الإجراءات الأخيرة التي أرادوا منها «إعادة توزيع الدعم على مستحقيه» حسب تعبيرهم، هؤلاء المستحقون الذين لم يلمسوا منها إلا أكثر من خمسين ملياراً بقليل زيادةً في كتلة الأجور حسب تصريحات الحكومة نفسها، أي أننا إذا ناقشناهم انطلاقاً من منطقهم، يتبين أن هنالك فوائض إضافية جنيت بأيديهم تكفي لإصلاح القطاع العام خلال عام واحد، مع أن عملية إصلاح لن تتم خلال فترة قصيرة كهذه..

ونكرر ما يقوله جميع الاختصاصيين الوطنيين: إن الموارد في البلاد متوفرة إذا ما توفرت الإرادة السياسية لإيجادها.. إذ يكفي مئات المليارات التي تتسرب عبر التهرب الضريبي والفساد الكبير والهدر لتأمين موارد كبرى كافية لرفع  مستوى معيشة الشعب وإصلاح القطاع العام والحفاظ على الإنتاج الصناعي والزراعي من التردي الجاري فيهما، وتأمين وتائر نمو عالمية للاقتصاد الوطني كفيلة بحل كل المشاكل المنتصبة أمام البلاد من فقر وبطالة وأزمات مختلفة تضغط على المواطن ليل نهار..

لقد أصبحت مناورة الفريق الاقتصادي واضحة.. إنه يستهدف القطاع العام.. بدأ بالخصخصة المفتوحة ففشل.. انتقل إلى الخصخصة المستترة والمخففة عبر التأجير والاستثمار ففشل أيضاً.. والآن ينتقل إلى محاولة بيع أراضي مؤسسات قطاع الدولة التي تعتبر من أصوله الثابتة، وكل ظنٌه أنه بربط هذا الموضوع بتمويل إصلاح القطاع العام فإنه قد «كمشنا» من يدنا التي توجعنا.. ولكن كما فشلت المحاولات السابقة.. يجب أن تفشل العملية الالتفافية الأخيرة لأنها إذا تحققت ستضر كرامة الوطن والمواطن..