كلمة حق... بحق القطاع العام
رهام الساجر رهام الساجر

كلمة حق... بحق القطاع العام

لم يكن شراء المنزل في سورية قبل عام 2011 أمراً سهلاً، كان صعباً للغاية إلى أنْ تبصر الشقّة النور، إلا أنه وبعد اندلاع الحرب أصبح امتلاكه ضرباً من الخيال، فكيف أنْ يذهب المنزل بالنسبة للسوري وأن ينهار أمامه، يعني أنْ تذهب حياته كلها، وأنّه بحاجة لأن يعيش عمراً آخر ليعوّض هذه الخسارة.

ما زالت إلى الآن نتائج تطبيق السياسات الليبرالية الاقتصادية ووصفات صندوق النقد الدولي التي بدأ السير بها عام 2005 تفعل فعلها في البلاد، فلم يكتفِ الفساد الكبير بالتسبب بأزمات السوريين، بل والإصرار على إعادة تدويرها وإنتاج أزمات متتالية لا تنتهي حتى بموتهم، ليستمر دفع الأثمان والكلف ابتداءً من طردهم إلى أحزمة الفقر وليس انتهاءً بالتقاعس عن انتشال مَن قضى تحت أنقاضها وإيواء من نجا.

أبنية طابقية بأكملها ظهرت بسرعة خيالية، في مختلف المحافظات والمناطق في سورية عموماً، إذ شُيدت بطرق مخالفة وعشوائية في الأحياء الشعبية والتوسعات التنظيمية وعلى أطرافها، والتي ثبت بحكم التجربة أنها كانت الضحية الأولى للزلزال، في حين أنّ المباني الأقدم كانت مقاومتها أعلى ، وكذلك المباني التي أنشأها القطاع العام كانت الأمتن مقارنة بتلك التي أنشأها القطاع الخاص، إذ إنّ الكثير منها يفتقد لأيّ نوع من الأمان وضمان السلامة العامة، نظراً لعدم مراعاة شروط البناء من حيث حسابات الكميات والحمولات، والسرعة في التنفيذ، وافتقاد الجودة والصلاحية الإنشائية.

بُنىً لم يكن الزلزال مُسبّب انهيارها الوحيد، فذراع الفساد الكبير كانت قد فعلت فعلها في المباني تشييدًا وترخيصًا ومراقبة، لتُكمل الحرب بعدها ما ابتدأه الفساد، وليصبح خط سير الانهيارات بعد الحدث الأخير أكثر قتامةً وسرعةً، فكيف لهذه البُنى أن تصمد أمام حدثٍ مهول كهذا، وهي عدا عن كونها غير مُطابقة لاشتراطات الكود السوري والتي أوضحتها بعض طُرق الانهيار بالإضافة لبعض أشكال التصدعات والشروخ التي ظهرت إثر الزلزال، والتي لا تنجم إلا عن سوء في التنفيذ وعدم مطابقة للمواصفات المدروسة، هي غير مجهزة أيضًا للتعامل مع الزلازل إلّا في المخططات، هذا الملف الذي كان من المفترض أن يتمّ عَدُّه من ملفات الطوارئ الحكوميّة عاجلة الحلّ حتّى قبل حلول الكارثة الحاليّة، ليس بوصفه أزمةً متفاقمةً منذ عقود تعمّقت خلال سنين الحرب فحسب، بل وصولاً إلى تسجيل المزيد من المآسي فيه كان آخرها ما حدث، إلا أنّ ذلك جلّه لم يتمّ.

في حين أنّ الوقائع أثبتت أنّ القطاع العام كان وما زال حتى «ما تبقى منه ومن إرثه» يقوم بدور وطني مهم، هذا القطاع الذي بات يشكل الحصن الأخير الذي تحتمي به الطبقات الفقيرة من المجتمع السوري، كونه شُيّد خلال أربعة عقود بعرق الطبقة العاملة وتضحياتها الجسام من عمّال وفنّيين ومهندسين، وأثبت أنه أكثر القطاعات قدرة على العمل في ظروف مختلفة، استثنائية وطبيعية، رغم كل ما تعرَّض له من سياسات حكومية هي أقرب ما تكون إلى عملية تدمير ممنهَج لصالح تجّار البناء وشركائهم في البلديات والمحافظات الذين غضّوا النظر عمدًا فسمحوا بتمرير هذه المخالفات بعد قبضهم مبالغ طائلة، ولتصبح أرواح السوريين ثمنًا للتغاضي عنها والسماح بإشادتها، والتي تأتي ضمن سياق السياسات الاقتصاديّة الاجتماعيّة المعمول بها التي لم تنجب سوى الخراب، والتي لا مناص للخروج منها إلا بتغييرٍ جذريٍّ شاملٍ لكامل المنظومة وسياساتها الاقتصاديّة الاجتماعيّة، وهو ما بات حاجةً سوريّةً مُلحّة، وهذا ما قد لا يفهمه المتشدّدون من طرفي الصراع المعادون للحلّ السياسيّ، وهو أنّهم قد لا يكونون مسؤولين عن الكارثة الطبيعيّة إلّا أنّهم مسؤولون عمّا نحصده اليوم، أمّا توابعها ستكون سياسيّة بقدر ما هي زلزاليّة.